“الملاذات الآمنة”، هي تلك الثقوب السرية أو الصناديق السوداء التي تتجه إليها الأموال من حول العالم، والتي لا تزال محل جدل وخلاف بين المنظمات والمؤسسات الحكومية، ولكن بعيدًا عن الخلاف فإن أضرار هذه الملاذات على الاقتصاد العالمي والمواطنين بالغة الخطورة، كما أن خروجها عن الرقابة لا يزال يكتنفه الكثير من الغموض، فهل فكرت يومًا أن تذهب أموال الأثرياء بلا رجعة؟!.

تُعرف الملاذات الضريبية الآمنة بأنها الدول أو الأقاليم التي تفرض ضرائب منخفضة، أو تلك التي لا تفرض أي نوع من الضرائب، وفي الغالب يتمتع العملاء في هذه الدول بقدر كبير من الخصوصية، مثل سرية الحسابات المصرفية والأنشطة التجارية، ولذلك فإنها تجذب الأثرياء دائمًا.

ورغم أن هذه المناطق قد تكون ميزة للبعض، إلا أنها تضر اقتصادات الدول الأكثر إنتاجية، لأن الشركات النشطة فيها تحول مداخيلها نحو هذه الملاذات، حتى تتجنب دفع الضرائب الواجبة عليها.

32 تريليون دولار

وتتيح الملاذات الضريبية، سهولة تأسيس الشركات بأسماء وهمية، وفتح حسابات بنكية سرية، ولا تخضع هذه الاستثمارات لأي ضرائب، وهو ما جعل الدول الكبرى تخسر الكثير من أموال الضرائب التى كان من المفترض أن تسددها هذه الشركات لحكوماتها، لصالح الملاجئ الضريبية التي تهرب إليها الأموال، سواء الناتجة عن عمليات شرعية أو أعمال غير شرعية، مثل غسيل الأموال والتجارة غير المشروعة.

وتقدر شبكة العدالة الضريبية حجم الثروات المالية الخاصة التى لا تخضع لأى ضرائب حول العالم بنحو 32 تريليون دولار.

بينما قدر باحثون من جامعات كاليفورنيا وبروكلي وكوبنهاجن، ما يقرب من 40٪ من أرباح الشركات متعددة الجنسيات يتم تحويلها إلى ملاذات ضريبية كل عام، وهو ما يسبب خسائر بنحو 10% من عائدات ضرائب الشركات العالمية، بحسب ما ذكره موقع “ميسينج بروفيت“.

ويشير الموقع إلى أنه بالنسبة للقارة الأمريكية بأكملها، تعد دولة “بورتوريكو” أكبر مستفيد من هذا التحويل غير الطبيعي للأموال نحو الخارج، حيث إن هذه الجزيرة الواقعة في عرض الكاريبي، تجتذب أكبر قدر من الأرباح المهربة من دول أخرى، وبلغت قيمتها عام 2017 أكثر من 38 مليار دولار.

أما جزر كايمان، فقد حلت في المركز الثاني، حيث نجحت في اجتذاب أكثر من 32 مليار دولار من الأموال المهربة للخارج، فهي تعتبر سادس أضخم قطاع مصرفي في العالم، في حين حصلت بنما على 18.1 مليار دولار.

“الأوف شور”

في كتابه ” هربت ولن تعود.. مافيا إخفاء الأموال المنهوبة” يعرف الصحفي البريطاني نيكولاس شاكسون، بأن جزر “الأوف شور” والتي تعني اقتصاديًا مؤسسة مالية خارجة عن الرقابة، لكنها مرتبطة عن كثب بالعواصم المالية والسياسية الكبرى، تختلف في مفهومها عن “التهرب الضريبي”، والذي يعني مخالفة قوانين الضرائب بشكل مباشر، وهذا العمل تصل عقوبته لحد السجن في كثير من البلدان.

يُذكر أن نظام “الأوف شور” بدأ العمل به بهِ مُنذ الحرب العالمية الأولى، حينما زادت الحكومات الضرائب بنسبة كبيرة لتغطية نفقات الحرب، وبعدها سنت سويسرا عام 1934 قانون “السرية” الشهير الذي جعل من انتهاك السرية المصرفية جريمة جنائية.

و”يربط نظام الأوف شور ليبرفيل وباريس، لوندا وموسكو٬ قبرص ولندن٬ مكسيكو سيتي وجزر الكايمان، واشنطن والرياض، كما يربط عالم الجريمة السري بالنخب المالية والمؤسسات الاستخباراتية، والدبلوماسية بالشركات متعددة الجنسية، ويحفز الصراعات ويشكل مدركاتنا ويخلق عالم عدم الاستقرار المالي، ويسلم جوائز مذهلة للكبار، فهو الكيفية التي يعمل وفقها عالم القوة والسلطة الأن”، بحسب شاكسون.

ووفقا للاتحاد الأوروبي الذي يقوم بتحديث قائمته بشكل شبه منتظم، هناك اثنا عشر ملاذًا ضريبيًا في العالم، من بينها عُمان والإمارات العربية المتحدة، وليس في القائمة أي دولة أوروبية.

وكشفت تقرير حديث قدمه اتحاد غرف التجارة والصناعة الأوروبية، منع دول منطقة اليورو دخول 800 مليون يورو سنويًا بسبب الملاذات الضريبية الآمنة.

وتتردد دول الملاذات الضريبية بشكل كبير في التوقيع على أي اتفاقيات لتبادل المعلومات، لأنها تعتمد أساسًا على السرية التامة من أجل جذب الأثرياء لإيداع أموالهم في مصارفها.

وتشترط عدة دول ومنظمات عالمية التوقيع على اتفاقيات تبادل المعلومات حول الأرصدة البنكية، من أجل حذف أسماء تلك الدول من قوائمها السوداء للتهرب الضريبي.

في المقابل، ينفي المسئولون في دول الملاذات اختراقهم للقوانين، رغم أنها لا تعتمد أي نوع من أنواع الرقابة أو المساءلة عن مصدر الأموال المودعة في مصارفها.

 النخب الحاكمة

تحت عنوان “من يستفيد من المساعدات الدولية.. أدلة من حسابات بنوك الملاذات الضريبية”، أعد البنك الدولي، ورقة بحثية، في فبراير الماضي، شارك فيها ثلاثة من علماء الاقتصاد المتميزين، كشفت وبشكل معلوماتي مفصل العلاقة بين تدفق أموال المساعدات الأجنبية للدول النامية ونمو الحسابات البنكية في الملاذات الضريبية للنخب السياسية في هذه البلدان.

استند العلماء الثلاثة في بحثهم إلى بيانات الـ22 دولة الأكثر حصولًا على مساعدات من البنك الدولي، وتعتمد على تلك المساعدات بصورة رئيسية في اقتصادها مثل النيجر ورواندا، وبيانات 24 دولة أخرى أقل اعتمادًا نسبيًا على تلك المنح والقروض مثل الأردن.

ولاحظ الباحثون أن الدول التي تتلقى منح ومساعدات أكثر من 1% من الناتج المحلي لها، يصاحب ذلك نمو ملحوظ في ودائع الملاذات الضريبية لها بما قيمته 3.4%.

وتتناسق نتائج الورقة البحثية مع الانتقادات التي توجه للبنك الدولي بشأن استفادة الطبقة الحاكمة من القروض والمساعدات المقدمة من البنك الدولي للدول النامية، حيث اكتشفت أن 37% من تلك الشركات التي تلقت مساعدات أو استثمارات من مؤسسة التمويل التابعة للبنك الدولي، لها علاقة مباشرة بالنخبة الحاكمة، سواء ملكية تامة أم مساهمة أم علاقات غير مباشرة.

في نفس الوقت يتحمل المواطنون العبء الأكبر من تلك الإصلاحات أو المساعدات ما يؤثر على مستواهم المعيشي بشكل كبير.

أثرياء العالم

ارتفع في الفترة الأخيرة عدد الملاذات الآمنة التي ترتبط بزيادة عدد الأثرياء حول العالم، إذا أوضحت دراسة حديثة أجرتها مجموعة “بوسطن” الاستشارية أن عدد المليونيرات حول العالم تضاعف ثلاث مرات على مدار العشرين عامًا الماضية ليصل إلى 24 مليون شخص، يتركز أغلبهم في أمريكا الشمالية واليابان، إذ يملك هؤلاء أكثر من نصف الثروة المالية بالعالم.

يمكن للأثرياء تحويل الأصول إلى الملاذات الآمنة، كما يمكنهم أيضًا إعادة جزء من تلك الملاذات على مدى فترة أطول من أجل تسهيل الوصول إلى السيولة، خصوصًا إذا استمر الانكماش الاقتصادي، في ظل أزمة فيروس كورونا “كوفيد19”.

وفي السياق ذاته، ذكرت وكالة “بلومبرج” الأمريكية أن هونج كونج وسنغافورة حاولتا اللحاق بسويسرا كأفضل الملاذات الآمنة للأثرياء، إذ أنه من المتوقع أن تنمو الأصول التي تديرها كلا البلدين بأكثر من ضعف سرعة نمو سويسرا خلال الخمس سنوات المقبلة.

ويقول وائل النحاس، الخبير الاقتصادي، إن فترة  أزمة كورونا وما تلاها من تأثيرات سلبية على جميع المجالات تسببت في حالة من الهلع الاقتصادي خاصة لدى المستثمرين، وذلك بسبب مخاوفهم التي تحرك الأسهم الحالية والمستقبلية.

ويذكر أن الملاذات الآمنة تتعدد ما بين بلاد وسلع، فمثلا الذهب أحد أهم الملاذات الآمنة، ويعد من أهم الأدوات التي يستخدمها المستثمر في وقت الأزمات، ولكن تأثيره يعتبر وقتيا.

ويوضح الخبير الاقتصادي، أن أزمة كورونا دفعت بعض المستمرين إلى تجميد ما يمتلكونه من السيولة، لكن ذلك يحرج جيشا من العمالة التي تقف خلف خروج تلك السلع أو الملاذات الآمنة للنور.

لكن ذلك يعتبر شراء منتج وليس استثمارًا مجتمعيًا، وأن ذلك له أثر بشكل أو بآخر على الاقتصاد، حيث إن فك تلك السلع المجمدة للسيولة يعود بفائدة على الاقتصاد بشكل عام.

وثائق بنما وفساد المشاهير

منذ أربع سنوات، استيقظ العالم علي فضيحة مدوية، إذ تم نشر التحقيق الاستقصائي الأكثر شهرة بعنوان “وثائق بنما”، الذي كشف تفاصيل سرية تم تسريبها من شركة “موساك فونسيكا” للخدمات القانونية في بنما التي تمتلك منظومة مصرفية تجعلها ملاذاً ضريبياً، حيث ساعدت الشركة عددا من مشاهير العالم من سياسيين ورؤساء دول ورجال أعمال ورياضيين على التهرب الضريبي، بإنشاء ملاجئ ضريبية غير قانونية في الأغلب.

ونتيجة لما أحدثه هذا التحقيق، أقر وزراء مالية دول الاتحاد الأوروبي، في ديسمبر 2017،  “قائمة سوداء للملاجئ الضريبية” تضم 17 ملاذًا ضريبًيا خارج الاتحاد الأوروبي لا تتعاون مع الاتحاد فيما يخص الضرائب، من بينها ثلاث دول عربية البحرين والإمارات وتونس.

ويحمل إدراج أي دولة ضمن القائمة السوداء للاتحاد الأوروبي، الكثير من الأضرار ليس فقط على المستوى الاقتصادي وإنما السياسي أيضا، حيث يصعب حصولها على أي مساعدات من الاتحاد الأوروبي، وتطال تعاملاتها المالية تدقيقًا أكبر، فضلاً عن تردد المستثمرين في التعامل أو تأسيس شركات مع هذه الدول.

غسيل الأموال

يعتبر غسيل الأموال البوابة الخلفية لتكوين الملاذات الآمنة، إذ بلغت نسبة الأموال التي تدخل في هذه العمليات نحو 5% من حجم الاقتصاد العالمي.

يذكر تقرير صادر عن معهد “بازل” الدولي في ديسمبر 2018، أن عمليات غسل الأموال تتسبب في شلل اقتصادات الدول وتشويه التمويل الدولي، وتُلحق أذى بالمواطنين في جميع أنحاء العالم، فهي تحتل المركز الثالث بين الأعمال التجارية عالمياً بعد تحويل العملة وتجارة النفط.

في هذا الصدد، يقدّر صندوق النقد الدولي حجم الأموال التي يتم غسلها سنويا ما بين 2-5% من الناتج الإجمالي العالمي، و8% من إجمالي حجم التجارة العالمية، وهو ما يشكل 300-400 بليون دولار، وتتم خارج إطار الإحصاءات التي تندرج تحت جناح الاقتصاد المعلن للدول، وبالتالي تتركز هذه العمليات في ملاذات سرية.