اندلعت موجة جديدة من الغضب عبر مواقع التواصل الاجتماعي، رفضًا للعنف الذي تتعرض له النساء، بعدما نشر حساب مجهول تفاصيل اتهامات متكررة بالاغتصاب ضد المتهم أحمد بسام زكي، ثم توالت الشهادات من مصادر مختلفة ضد أشخاص مختلفين. 

تلك الموجة تسببت في فتح تحقيقات في العديد من القضايا أبرزها قضية أحمد بسام زكي التي تم تحويلها لمحكمة الجنايات مؤخرًا، وقضية الاغتصاب المعروفة إعلاميا باسم “قضية الفيرمونت”، وقضية طبيب الأسنان المتهم بالتحرش بالرجال، وقضية طبيب طنطا المتهم بالتحرش بالمريضات النفسيات.

الغضب حقيقي وله أسباب حقيقية ولا ينبغي أبدًا التشكيك فيه ولا التهاون معه، لأنه سيتجدد طالما استمر الظلم، فمعركة النساء ليست مجرد صوتًا عاليًا وما يجري الآن -رغم أية ملاحظات عليه- هو موجة من موجات متكررة لن تنتهي حتى تُحل المشكلة التي تثير الغضب، فالمشكلة في جوهرها هي عدم المساواة وعدم تكافؤ الفرص والتفاوت الاقتصادي بين النساء والرجال في العالم، وهي صرخة رفض للظلم الذي تراكم على مدار قرون طويلة ممتدة منذ تاريخ الجنس البشري.

العنف ضد النساء ليس مجرد “هوجة” ولا “موضة” ولا منتج غربي يستهدف “مؤامرة” على الشرق المؤمن، العنف والتمييز ضد النساء حقيقة تعيشها النساء في مختلف دول العالم بدرجات وأشكال متباينة، لم يبدأ التمييز اليوم لكنه تطور منذ فجر البشرية مع بداية تكوين المجتمعات الإنسانية التي كانت تقدس النساء باعتبارهن رمزًا للخصوبة الغامضة التي تضمن استمرار الجنس البشري، ومع تطور المجتمعات البشرية وتركز الثروات في يد الرجال وفك غموض لغز “الخصوبة”، وإدراك ارتباط الحمل والولادة بمني الذكر تغيرت علاقات القوى في المجتمعات البشرية لصالح الرجال على حساب النساء.

صاحب ذلك النفوذ، أشكال مختلفة ومتعددة من العنف كالحرمان من حق امتلاك الثروة واعتبار النساء جزءً من الملكية العامة للذكور، ومُنعت النساء من الخروج والتفاعل مع المجتمعات وحُجبن داخل البيوت لخدمة الرجال وامتاعهم، كما منعن من المشاركة السياسية ومن الترشح للانتخابات ومن التعليم وغيرها الكثير من أشكال العنف والتمييز التي سادت في مراحل مختلفة من تاريخ البشر، وتم النضال ضدها وتحقيق نجاحات متتالية في العديد من المعارك، بينما بقيت معارك أخرى دون حسم.

وخلال هذه الموجة يمكن القول بأن قضايا العنف الجنسي هي ميدان المعركة الجزئية الذي اختارته النساء لخوضها كجزء من المعركة الأكبر “المساواة وتكافؤ الفرص”، نعم هناك ثغرات وأخطاء واستغلال وتسرع وعصبية وانفعال، لكن مواجهة تلك الثغرات والأخطاء لن يكون بالتجاهل أبدًا ولا بمحاولة قمع الغضب وإعادة النساء للتعايش مع منظومة القوى القديمة، فالقمع أو التجاهل لن ينتج عنه سوى موجات أكثر غضبًا وأقل عقلانية كل مرة.

وفي هذه المعركة لعبت آلية نشر الشهادات التي تُجَهِّل هوية الناجيات من العنف، دورًا مهمًا في فضح أشكال العنف الجنسي التي كانت حتى وقت قريب جدًا من التاريخ البشري مسكوتًا عنه في كل أنحاء العالم بل ومقبولًا أيضًا.

بعد موجة الحراك الأخيرة في مصر نجحت تلك الآلية في العديد من القضايا لكنها في قضايا أخرى أثارت شكوكًا حول مصداقيتها ومدى القدرة على التحقق والتوثق منها، بعدما تمكن أحد المتهمين بالتحرش والاغتصاب من فبركة شهادات ودفع بها لواحدة من المنصات باعتبارها شهادات ناجيات من العنف الجنسي، وبالفعل نشرتها المدونة قبل أن يخرج بفيديو يوثق كيف تمكن من فبركة الشهادات، وبالتالي أصبحت تلك الآلية مُهددة بفقدان مصداقيتها وهو ما سينعكس سلبًا على القضية النسوية برمتها حيث التشكيك في قصص النساء كلها.

من هنا يجب على كل المؤمنات والمؤمنين بأهمية مواجهة العنف ضد النساء، الانتباه لإغلاق الثغرات التي تم استغلالها للتشكيك في الشهادات خاصة، وأن هناك الكثير من الاقتراحات الجيدة تم تقديمها في هذا الشأن جوهرها أهمية وجود جهة أو منصة أو شخص موثوق يحمل الشهادة المجهلة للعلن ويقبل تحمل جانبًا من التبعات المجتمعية والقانونية التي تترتب على النشر.

تجاهل تلك الثغرة لن يُضر مجموعة بعينها ولكن سيضر بالآلية، وينتج عنه تشكيك في صدق القضية كلها ويشجع على تجاهلها لأمد أطول واستمرار اختلال ميزان الفرص والثروة والنفوذ بين النساء والرجال.

ومن الناحية الأخرى، فالاستناد إلى تلك الثغرة لإغلاق الملف والزعم بأن كل شيء على ما يُرام، لن يُسكت النساء لأن تطور وعيهن بالعنف والألم لن يسمح بالعودة إلى الوراء والصمت على تلك النوعية من الجرائم، على الجميع التعاون في اتجاه تجريم حقيقي -قانوني ومجتمعي- لكل أشكال العنف ضد النساء، وخاصة العنف الجنسي سعيًا لحياة مشتركة متوازنة لا يعتدي فيها طرف على الآخر.