يعيش السودان، كارثة إنسانية مكتملة الأركان بسبب فيضانات غير مسبوقة، وسيول من الأمطار لاتزال تهطل، حيث تطل علينا مشاهد قاسية ومرعبة مرسومة على وجوه بشر يعلو ملامحها الحزن والأسى، بينما الدمع متجمدًا في المآقي، والصبر هو خبز أيام الناس، مع توالي المآسي لأسباب متعددة بين نزاعات مسلحة لأسباب سياسية أو صراعات قبلية وأخيرًا الفيضانات والأمطار، مئات الآلاف من السودانيين، فقدوا المأوى الذي كان يسترهم حينما انهارت عليهم أسقف البيوت وجرفتها الفيضانات بالكامل فخرجوا منها بالملابس التي يرتدونها وفقدوا كل شيء حرفيًا.
حجم المأساة في الأرياف السودانية، أكبر من الاستيعاب، خاصة وأن الناس لم تتلقى أى مساعدة حكومية، رغم وجود إنذار كان مبكرًا بفيضان كبير على السودان وأمطارغير مسبوقة، ونتيجة لذلك فارق 130 شخصًا الحياة، ومازال الحبل على الجرار.
وللأسف لم تكتف الطبيعة القاسية بالفيضان في السودان، لكنها ألحقته بسيول مائية زادت الطين بلة ولازالت تهطل حتي كتابة هذه السطور لتُزيد المصاعب بشكل هائل، وبطبيعة الحال سوف يتسبب الفيضان بعد انحساره في مشكلات صحية بدأت حاليًا بالفعل، وذلك بانتشار الملاريا والكوليرا، في ظل نظام صحي هش للغاية، خاصة في المناطق البعيدة عن العاصمة الخرطوم .
الدفاع المدني السوداني، رسم الملامح الرقمية للفيضان حتي كتابة هذه السطور في انهيار 27 ألف منزل بالكامل، كما عانى أكثر من 40 ألف منزل من انهيار جزئي، ونفق من الحيوانات أكثر من 5 آلاف رأس وهي كارثة للمزارعيين بكل المعاني، خاصة وأن أسقف البيوت تحمي أسرًا ممتدة من آباء وأبناء وجدود، وهؤلاء جميعًا يعتمدون علي عمل هذه الحيوانات في الأرض ومنتجاتها لإطعام أطفالهم، هذه الأرقام أتوقع أن تكون غير واقعية ليس لاتجاه لدى الحكومة بعدم الشفافية، ولكن لقصور قدراتها في الرصد وعدم قدرة أجهزتها على الوصول للمناطق الغارقة في ظل ضعف الإمكانيات المعروف، وهي أوضاع أكدتها شهادات الضحايا على المنصات الإعلامية المتلفزة أو مواقع التواصل الاجتماعي.
وإذا كان الفيضان، وراء كارثة إنسانية، فإن هناك كوارث حضارية وثقافية مرتبطة بالآثار البجراوية لمملكة مروي السودانية، الواقعة شمال البلاد، وتبعد عن مجري النيل حوالي نصف كيلو متر فقط، حيث بذل علماء الآثار المقيمين في المنطقة جهودهم لحماية آثار المنطقة بوضع أكياس الرمل، وهي جهود مشكورة، لكنها غير كافية فهذه المنطقة تحتاج عونًا عاجلًا من اليونسكو، لترميم الخسائر ونقل الآثار من مناطق مهددة بهذا النوع من الكوارث .
المشاهد السودانية المأساوية، لا تبدو جديدة علي المتابع، لكنها بالتأكيد أكثر عنفًا وقسوة من أي وقت مضي، ففيضان 1988 ومآسيه مازالت عالقه في الأذهان، فيكون السؤال المشروع لماذا تعجز الحكومات السودانية المتوالية عن تحجيم الخسائر المترتبة علي فيضان النيل؟، وهل من وسيلة لذلك؟
أذكر أنه في خريف عام 2018، كتبت مقالًا عن غرق 5 فتيات من أسرة واحدة، وهن في طريقهن إلى المدرسة، وكانت وسيلة المواصلات قارب، في هذا المقال قلت أإن جسرًا صغيرًا كان كفيلًا بإنقاذ حياة الفتيات، وتسهيل احتياجات الناس، ولكن الميديا الحكومية السودانية شنت هجومًا علي شخصي، وعلى بلدي، وبعدها بأقل من عامين، تم ضبط الملايين من العملات المختلفة في منزل عمر البشير عند القبض عليه، وهو الذي بخل على شعبه ببناء جسرًا لحمايتهم، كل ذلك رغم أنه كان يعلن أنه يحكم الناس بشرع الله .
هذه القصة القصيرة ربما تحدد ملامح المشكلة في السودان، فالحكم الديمقراطي انشغل بالصراع السياسي بين نخبه السودانية، فلم تستطع حكومة الصادق المهدي عام 1988 مواجهة فيضان كان مآساويًا أيضًا، لأنها كانت مشغولة أكثر بمواجهة خصومها التقليدين تحت قبة البرلمان، فرصف شارع أو بناء جسر يتطلب توافق بين الأحزاب، وكل حزب لا يريد أن ينسب الفضل لغيره، فببساطة يتعطل المشروع من الأساس، ويواجه الناس المصاعب في حياتهم اليومية وهي مصاعب تطورت إلى مآسي إنسانية، بسبب عدم تعميق مجاري الري والمصارف لنهر النيل وصيانتها بشكل سنوي، وكذلك صيانة السدود الموجودة فشهدنا مثلًا انهيار سد بوط في ولاية النيل الأزرق، ما تسبب في انهيار 600 منزل وتشريد الناس قبل الفيضان بحوالي الشهر، وهو إنذار لم تنتبه إليه الحكومة الحالية التي تُعاني تحديات اقتصادية ليست بالهينة.
أرى أنه يجب أن تضع النخب السياسية الحالية، هذه الخبرات التاريخية السلبية، نصب أعينها، وهي تستعد لوضع ملامح النظام السياسي السوداني المستقبلي عبر المجلس التشريعي، ولعلي في هذا السياق أقترح النظر في دراسة أن يكون النظام السياسي المستقبلي رئاسيًا محدود الصلاحيات بديلًا عن نظام برلماني مُطلق تقوده الأحزاب السياسية المدنية التي تُعاني انقسامات غير هينة، وهي سمة لا تنسحب علي السودان وحده ولكنها تمتد لوادي النيل وشمال إفريقيا، ولعل ذلك يتطلب دراسة منفصلة عن مشاكل النخب السياسية المدنية وأسبابها، وهل هي مرتبطة بضغوط النظم السلطوية فقط أم تعبير أيضًا عن مشكلات هيكلية تتصل أيضًا بالأوضاع الثقافية في مجتمعاتنا.
في مواجهة هذه الكارثة، سيرت مصر جسرًا جويًا من المساعدات لأشقائنا في السودان، وهي استجابة سريعة وصحيحة بلا شك، لكنها في تقديري غير كافية نظرًا لطبيعة الظروف في الحكومة السودانية حاليًا، فالمساعدات يتم تسليمها في المطار معنونة من “الشعب المصري إلى الشعب السوداني الشقيق”، وهذه المساعدات يجب تسليمها إلى قدرات لوجستية وبشرية مُدربة ربما لا تكون متوفرة في هذا التوقيت، وهو ما يتطلب عونًا إضافيًا من مصر يأخذ طابعًا إغاثيا متكاملًا ومحترفًا، ربما تكون المساعدة مطلوبة من سلاح المهندسين المصري في القوات المسلحة، وربما يكون المطلوب مستقبلًا تدشين منظمة مجتمع إغاثية مصرية كبيرة يتم الاهتمام بها على المستوى اللوجستي والتقني بحيث تكون جاهزة للاستجابة لأية مآسي إنسانية سواء في السودان أو غيره، حتي يتحقق حلمي هذا أوجه دعوه أن تنشط المنظمات الخيرية المصرية القائمة بالفعل لتقديم يد العون الإنساني للسودان وأهله، كما أوجه نداء للكنيسة المصرية، والبابا تواضروس أن يطبطب مع باقي المؤسسات المصرية علي أكتاف السودانيين رجالًا ونساءً وأطفالًا فهم إخوة الدم والمصير.