“فلاح كان فايت بيغني من جنب السور.. شافني وأنا بجمع كام وردة في طبق بنور.. قطع الموال وضحك ليّ وقال: يا صباح الخير يا أهل البندر.. يا صباح النور.. كان بدي أكمل مواله على نغمة حلوة ابعتها له.. ولا منه استنى ياخد كلمة ولا منه ساب قلبي في حاله.. يا أهل الله ما حدش شاف جدع أسمر دمه خفيف.. فلاح”.
لا أحد عاد يرى الآن هذا “الجدع الأسمر”، لقد سقط قصدًا من حسابات الجميع، سقط مع من سقطوا في هوة الفقر، سقط لحساب من أفقروه، عبر عقود من سياساتٍ تبنت محاصرته، وانتزاع مكتسباته، التي حصل عليها بموجب قانون الإصلاح الزراعي عام 1952، الذي اعتبر يوم صدوره في التاسع من سبتمبر عيدًا للفلاح المصري، بعدما خاض نضالًا امتد لقرون ضد سياسات الإقطاع.
“غيرت قوانين الإصلاح الزراعي نظام تحديد القيمة الإيجارية ونزعت عن الملاك قدرتهم على تحديد ورفع القيمة”.. الباحث صقر النور
23 يوليو وتغيير شكل الملكية
لقد أحدثت ثورة 23 يوليو، تغييرًا كبيرًا في شكل السيطرة على الأراضي الزراعية، على الرغم من كونه لم يكن تغييرًا جذريًا في هيكل الملكية، حيث لم تتعدى مساحة الأراضي التي تم توزيعها على الفلاحين بموجب قانون “الإصلاح الزراعي” 15% من مساحة الأراضي الزراعية.
انتزعت “قوانين يوليو الزراعية” برغم عدم ثوريتها، عبر تحديد القيمة الإيجارية وحظر طرد الفلاحين من الأراضي الزراعية، السيطرة الفعلية لملاك الأراضي، ووضعتها في أيدي المستأجرين عبر بطاقات الحيازة الزراعية، حيث أشركتهم في ملكية تلك الأراضي بل وجعلت لهم اليد العليا في إدارتها الفعلية.
يقول الباحث صقر النور، في دراسته “الاستحواذ على الأراضي ونظم النفاذ للأراضي الزراعية في مصر”: “غيرت قوانين الإصلاح الزراعي نظام تحديد القيمة الإيجارية ونزعت عن الملاك قدرتهم على تحديد ورفع القيمة، ومنعت طرد المستأجر، حتى إذا انتهت مدة الإيجار، كما أتاحت توريث المستأجر زراعة الأرض لأبنائه، إضافة لمنح المستأجر بطاقة حيازة، أصبحت هي الوثيقة التي يتم من خلالها النفاذ لأشكال دعم الإنتاج الزراعي كافة، وحل مفهوم “الحيازة” محل الملكية، وأصبحت “بطاقة الحيازة” هي الوثيقة الأعلى والأهم”.
الانقضاض على مكتسبات يوليو
بدأت تلك المرحلة مبكرًا، ففي عام 1974، صدق مجلس الشعب على القانون رقم 69، بشأن تسوية الأوضاع الناشئة عن فرض الحراسات على الأشخاص الطبيعيين والاعتباريين، حيث استرد الملاك القدامى الأراضي التي كانت الدولة الناصرية قد صادرتها، وقامت بتأجيرها للفلاحين، وهو ما أدى لطرد آلاف الفلاحين من الأراضي التي قاموا بزراعتها لثلاثة عقود، ليتحولوا من مستأجرين لأراضٍ ملك للدولة ممثلة في “هيئة الإصلاح الزراعي” إلى أجراء باليومية في نفس الأرض ولكن لحساب ملاكها الجدد ـ ورثة الإقطاعيون القدامى.
كان قانون 96 لسنة 1992، بشأن تعديل العلاقة الإيجارية بين المالك والمستأجر، ضربة قاضية للفلاح المصري
وفي عهد مبارك تقلص دعم المستلزمات الزراعية، تزامنًا مع سياسات التكيف الهيكلي، وتم تحرير أسواق الأسمدة والتقاوي والمبيدات، ولعب بنك التنمية والائتمان الزراعي دور “المرابي” فمنح الفلاحين قروضًا بفوائد اقتربت لفوائد البنوك الاستثمارية، حيث قسم القروض إلى “قروض زراعية” فوائدها منخفضة، وأخرى “استثمارية” بفوائد عالية.
طرد الفلاحين من الأراضي
كان قانون 96 لسنة 1992، بشأن تعديل العلاقة الإيجارية بين المالك والمستأجر، ضربة قاضية للفلاح المصري، فجرده من مكتسبات “يوليو”، وقضى تدريجيًا على نظام تحديد القيمة الإيجارية عبر مرحلة انتقالية استمرت 5 سنوات، فرفع ابتداءً، القيمة الإيجارية من 7 أمثال الضريبة إلى 22 ضعف الضريبة، ثم حرر القيمة الإيجارية تمامًا وتركها لسعر السوق، ما أدى كما يقول “صقر النور” إلى: “إلغاء العقود والضمانات القديمة التي كانت تحمي المستأجرين وتضعهم في مرتبة مساوية للملاك، وأنهى توسيع مفهوم الاستحواذ أوالحيازة الذي كان يشتمل على العلاقات الإيجارية والمشاركة والمزارعة”.
يعيش أكثر من 5 ملايين أسرة في قرى مصر، وأغلبهم من أصحاب المساحات الصغيرة أقل من 5 أفدنة
تسبب قانون 96 لسنة 1992، في طرد 904 ألف مستأجر 473 ألف منهم يملكون أراضٍ أخرى، وهم تأثروا بلا شك ولكنهم لم يفقدوا مصدر رزقهم، بينما 431 ألف، لم يكن يملكون شيئًا، وهم من تم تشريدهم نتيجة للقانون.
هجمات مستمرة
لم يكن قانون 96، آخر الهجمات على الفلاحين، فقد استمرت سياسات تقليص الدعم على الأسمدة الزراعية حتى بات سعر “الشكارة” طبقًا لأسعار هذا العام 280 جنيهًا في الجمعيات الزراعية بفارق 20 جنيهًا فقط عن السوق الحرة، بينما أصبحت التقاوي أعلى سعرًا من السوق الحرة بنسبة تصل لثلاثة أضعاف، وعللت الحكومة هذه الأسعار بتكلفة تجهيز التقاوي وتنقيتها وتعقيمها، والتجارب التي تجرى عليها، كما امتنعت الجمعيات الزراعية تمامًا عن صرف المبيدات الزراعية، أو تحديد سعرها وتركت الفلاح فريسة لجشع سوق المبيدات الزراعية والذي أسس له يوسف والي، وزير الزراعة الأسبق.
أزمة المياه التي تلوح في الأفق مع إصرار السلطات الإثيوبية في الاستمرار في ملء سد النهضة عبر جدولها الزمني، تمثل هي الأخرى شبح يطارد الفلاح المصري
ويعيش أكثر من 5 ملايين أسرة في قرى مصر، وأغلبهم من أصحاب المساحات الصغيرة أقل من 5 أفدنة، ظروف معيشية صعبة حيث أدت زيادة مستلزمات الزراعية من أسعار الأسمدة والتقاوي، وانخفاض أسعار المحاصيل التقليدية: مثل: القمح، والقطن، إلى تدني هامش ربح المحاصيل، ما أدى إلى عجز الأسر عن سد احتياجاتها في ظل ارتفاع الأسعار.
العمالة الزراعية والإقطاعيون الجدد
لم تولي سلطة ناصر اهتمامًا بالعمالة الزراعية والفلاحين المعدمين الذين كانوا يعملون في “الأوسية”، فقد تجاهلتهم قوانين الإصلاح الزراعي، فلم يكن لهم نصيب من الأفدنة الخمسة التي وزعت على صغار الفلاحين، يقول صقر النور، في دراسته: “عملية إعادة التوزيع استبعدت حوالي 2 مليون عامل زراعي وفلاح معدم. وبهذا لم يساهم القانون في تمكين أفقر فئات البناء الاجتماعي الريفي من المعدمين وعمال الزراعة الذين هم في أمس الحاجة للأرض، ولكنه أدى إلى رفع ملكيات أصحاب الملكيات الصغيرة والمتوسطة”.
الزراعة لا زالت تمثل رقمًا هامًا في الاقتصاد المصري
مع توسع دولة مبارك لتمليك الأراضي الصحراوية لاستصلاحها زراعيًا، لمستثمرين زراعيين مصريين وأجانب، حصلوا على الأراضي بأسعار زهيدة، تكونت شريحة من ملاك الأراضي أُطلق عليهم “الإقطاعيون الجدد”، وبقدر ما توسعت هذه الشريحة، نتيجة لسياسات تمليك الأراضي المستمرة حتى الآن، والمعروفة بسياسات “الرسملة الزراعية”، بقدر ما ازداد عدد العمال الزراعيين، فبحسب الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء يبلغ عدد المشتغلين بالزراعة 5.6 مليون شخص، 30% منهم لا يملكون حيازات زراعية.
ويعاني العمال الزراعيين في مصر أحوال معيشية صعبة، في ظل تدني الأجور، وحرمانهم من التأمين الصحي والاجتماعي، نتيجة لتهرب المستثمرين الزراعيين من التزاماتهم القانونية، وغياب تنظيماتهم أو ضعفها، وهو ما أضعف إمكانية المطالبة بحقوقهم.
الإنتاج الزراعي
على الرغم من انخفاض مساهمة القطاع الزراعي في الناتج القومي منذ بداية القرن الحالي، إلا أن الزراعة لا زالت تمثل رقمًا هامًا في الاقتصاد المصري، حيث تساهم الزراعة بنحو 12% من الناتج الإجمالي، وتبلغ المساحات المنزرعة في مصر بحسب تقرير الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، 9.5 مليون فدان، ووصل صافي الدخل الزراعي عام 2018 إلى 329.3 مليار جنيه، بينما وصلت قيمة الإنتاج الزراعي لنفس العام إلى 500.7 مليار جنيه.
أدت زيادة أسعار نقل المحاصيل نتيجة ارتفاع سعر الوقود، بجانب ارتفاع أسعار الأسمدة والتقاوي، إلى زيادة تكلفة إنتاج المحاصيل الزراعية
مَثل الإنتاج الزراعي خلال أزمة كورونا، أحد أهم مصادر النقد الأجنبي، حيث بلغت صادرات مصر الزراعية في الفترة من يناير 2020 وحتى يوليو من نفس العام 3 ملايين و621 ألف و259 طنًا، في زيادة تتجاوز 15% عن النصف الثاني من العام الماضي 2019، رغم تداعيات أزمة كورونا على حركة التجارة الدولية، وهو ما عوض ولو بنسبة تأثر قطاع السياحة، وتقلص عوائد قناة السويس، والمصريين بالخارج، جراء الأزمة، كان وراء هذه الزيادة، جهد الفلاحين والعمال الزراعيين، والذين عملوا في ظروف صعبة شهدها العالم كله نتيجة لأزمة كورونا.
ولا يزال الفلاحون يدفعون الثمن
رغم ذلك فقد دفع الفلاحون ثمن أزمة كورونا، كما دفعوا ضريبة الأزمات السابقة، فلم يتلقوا خلال الأزمة أي دعم حكومي، في الوقت الذي حرموا فيه مما تبقى من الخدمة الصحية الحكومية، حيث لم يعد يجدون مكان للعلاج بعدما تحول بعض المستشفيات للفرز والحجر، وأوقف البعض الآخر عمله على خدمات الطوارئ، ناهيك عن ارتفاع أسعار الكهرباء ومياه الشرب، وأسطوانات الغاز، وأسعار السلع الغذائية.
كما أدت زيادة أسعار نقل المحاصيل نتيجة ارتفاع سعر الوقود، بجانب ارتفاع أسعار الأسمدة والتقاوي، إلى زيادة تكلفة إنتاج المحاصيل الزراعية، وبالتالي تقلص هامش الربح يومًا بعد آخر.
تبلغ المساحات المنزرعة في مصر بحسب تقرير الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، 9.5 مليون فدان
أزمة المياه التي تلوح في الأفق مع إصرار السلطات الإثيوبية في الاستمرار في ملء سد النهضة عبر جدولها الزمني، تمثل هي الأخرى شبح يطارد الفلاح المصري، والذي يعاني منذ سنوات من نقص مياه الري في بعض المناطق فيما يعرف بأراضي “نهايات الأبحر” والتي امتنعت عن زراعة المحاصيل الصيفية نتيجة نقص المياه.
هكذا تكالبت الأزمات على فلاحي مصر وعمالها الزراعيين، فلا زالت شمس الفقر تلفح جباههم وظهورهم، رغم ما ساهموا به من عطاء في بناء البلاد خلال قرون من الزمن، هذا العطاء الذي لا زال ممتدًا، و” تروح فين الشمس من على قفا الفلاح”.