إلى جانب كارثة الفيضان التي حلت بالخرطوم وقرى ومدن سودانية انتهت بها إلى الغرق الكامل وخلفت الآلاف من المصابين والمشردين وعشرات من القتلى، كان الشارع السياسي السوداني في حالة من الغليان وتصاعد الجدل والخلاف بين المكونين السياسي والمدني في الحكم بما يمثله من المجلس السيادي العسكري والحكومة المدنية الانتقالية من جهة وبين الأحزاب والتيارات والقوى المدنية من جهة أخرى، إثر مفاوضات سرية ومفاجئة قام بها رئيس الوزراء، عبد الله حمدوك مع قائد الحركة الشعبة شمال- عبد العزيز الحلو، المنشق عن اتفاق السلام تحت رعاية رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد في أديس أبابا.
المفاوضات التي استمرت لمدة 3 أيام، في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا انتهت الخميس الماضي، بوثيقة مسربة بشكل غير رسمي، كُتبت باللغة الإنجليزية واحتوت على 6 بنود، تضمن عودة الحركة الشعبية شمال جناح عبد العزيز الحلو إلى مفاوضات السلام السودانية في جوبا، حيث تقضي بالتفاوض على أساس إقامة دولة ديمقراطية وبناء دستور يقوم على فصل الدين عن الدولة، مع احتفاظ الحركة بحق تقرير المصير في حال إخفاق المفاوضات في التوصل إلى اتفاق حول المبادئ الموقع عليها، إضافة إلى وقف العدائيات والتفاوض على أساس احترام حقوق المواطنة والتعدد الاثني والثقافي.
تحفظات واتفاق غير نهائي
تسريب الوثيقة في وقت متأخر من مساء الخميس الماضي أثار جدلاً واسعاً بين استياء بعد التيارات الإسلامية المناهضة لفكرة علمانية الدولة، وبين تيارات ترى أنها تساهم في حفظ حقوق غير المسلمين وتحمي جميع الإثنيات والعرقيات المتنوعة داخل السودان وتراعي حقوقهم لتأسيس دولة مدنية ديمقراطية.
إلا أن مسألة العلمانية لم تكن وحدها التي أثارت حفيظة المعارضين للاتفاق، حيث كان المجلس السيادي الانتقالي العسكري، حيث تحفظ كل من الفريق أول عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة ونائبة الفريق محمد دقلو (حمدتي) على الوثيقة التي وقعها رئيس الوزراء عبد الله حمدوك.
حالة الغضب التي أعقبت تسريب النسخة غير الرسمية من وثيقة الاتفاق، تعامل معها مجلس الوزراء ببيان صحفي صباح يوم الجمعة الماضي، أكد فيه أنه لم يحسم أي من البنود كونها فيصل أساسي أو محور لعملية التفاوض من أجل ادماج جناج عبد العزيز الحلو في مفاوضات السلام، حيث أكد أن الاتفاق تتضمن فقط استئناف المفاوضات تحت رعاية حكومة جنوب السودان، مع التوافق على اقامة ورش تفاوض غير رسمية تناقش القضايا الخلافية المعلقة مثل علاقة الدين بالدولة والوصول إلى فهم مشترك حولها، بينما أكد أن الحكومة تعتبر قضية السلام أحد القضايا المحورية في عملها حيث لا يمكن تأجيلها لتجنيب السودان تكلفة لا يمكن تحملها جراء استمرار الحرب.
المعارضين لاتفاق حمدوك والحلو يرون أن قضيتي حق تقرير المصير وفصل الدين عن الدولة مثلها مثل قرار التطبيع مع اسرائيل كلها قضايا ليست من شأن الحكومة الانتقالية الحالية، بينما يجب ترك هذه المسائل لحكومة شعبية مدنية منتخبة ومناقشتها من خلال مجلس نواب حر يمثل الشعب السوداني أو مؤتمر دستوري يجمع كل فئات الشعب السوداني، فضلاً عن التوافق مع الحلو بشروطه التي تبدو وكأنها أجندة خاصة ليست في صالح قضية السودان الكلية يفسر وكأن السلام يفرض بقوة السلاح أو تحسم بنود التفاوض على أساس من له القوة والسيطرة على الأرض.
أهمية وخطورة جناح عبد العزيز الحلو
يصنف عبد العزيز الحلو، قائد الحركة الشعبية شمال لمنطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان كأهم وأكبر الحركات المسلحة على الأراضي السودانية، إذ يفرض سيطرته على مساحات كبيرة من الأراضي، ويمتلك جيش مسلح لا يمكنه التخلي عنه وادماجه بسهولة في الجيش الوطني السوداني.
وتختلف أجندة الحلو بشكل محوري مع القضايا الرئيسية المطروحة في اتفاق السلام الذي وقعته الحكومة والمجلس السيادي العسكري مع عدد من الحركات المسلحة، فإلى جانب توزيع الثروات وعودة النازحين وإعادة التوطين والتعويضات والترتيبات الأمنية، يتمسك الحلو الذي ينتمى للتيار الشيوعي ببند رئيسي في أجنده التفاوض وهو فصل الدين عن الدولة وعلمانية الدولية، إضافة إلى الهدف الأخطر وهو حق تقرير المصير، وهو البند الذي دائماً ما يثير حفيظة السودانيين في أي مفاوضات بعد اتفاق نيفاشا 2005 التي انتهت بحق تقرير المصير وفصل جنوب السودان، وهو ما يكشف المسعى الأساسي للقائد عبد العزيز الحلو بفصل النيل الأزرق وجنوب كردفان كدولة مستقلة عن السودان.
إلى جانب القوة التي يمتلكها الحلو على الأرض لديه تاريخ من العداء على الحركات المنشقة عنه وتحمل نفس اسم الحركة الشعبية شمال بقيادة ياسر عرمان ومالك عقار والموقعين بالأحرف الأولى على اتفاق السلام في جوبا الأسبوع الماضي، حيث ينتقد تفاوض الدولة معهم كحركات مسلحة بينما لا يوجد لدي أي من الطرفين قوة حقيقية على الأرض.
محاولة الحكومة وهدفها الرئيسي في دمج الميلشيات وأفراد الحركات المسلحة للجيش السوداني النظامي، سيكون تحدي كبير إذ يطالب الحلو بدمج قواته على مدار 20 عاماً، بينما لا يزال لديه تحفظات كبيرة على استمرار وجود محمد حمدان دقلو “حميدتي” وتصدره المشهد في التفاوض باسم المجلس السيادي، باعتبار تورط قوات الدعم السريع التي كان يقودها في دارفور.
إطاحة حميدتي من المشهد السياسي لصالح الحلو ستكون مهمة شبة مستحيلة مع الطموح القوي لحمدتي والدعم الذي يتلقاه من الخليج ودول عربية، حيث لا يزال حمدتي يسيطر على قوات الدعم السريع وهي مليشيات شبه عسكرية من مليشيات الجنجويد التي كانت تقاتل نيابة عن الحكومة السودانية خلال الحرب في دارفور، إلا أنها أصبحت أشبه بالقوة النظامية بعد التدريبات التي تلقتها في الإمارات والسعودية لمشاركتهم في عاصفة الحزم في اليمن، فبعد ان كانوا قوة محدودة في دارفور أصبح تعدادها يتجاوز 70 ألف مقاتل منتشرين في كافة أنحاء السودان تحت قيادة حمدتي.
دور الحزب الشيوعي
رغم كون الحزب الشيوعي أحد عناصر قوى الحرية والتغير وهي الحاضنة السياسية للحكومة الانتقالية برئاسة عبد الله حمدوك إلا أنه أعلن رفضه لاتفاق السلام الموقع في جوبا، باعتبار أنه سلام مستعجل، حيث رفض بيان للحزب في 2 سبتمبر ما وصفه بالعشوائية التي وسمت الترتيبات الأمنية في الاتفاق ومخاطرها على وحدة وقومية القوات النظامية ووحدة عقيدتها المعنية والعسكرية حيث طالب بتسريح كافة المليشيات والحركات وإعادة تأهيل من يستوعبون منهم في القوات المسلحة، كما أدان الحزب عدم تمثيل قوى منظمة في حركات الكفاح المسلح في منبر جوبا منهم عبد العزيز الحلو وعبد الواحد محمد نور.
عقب اتفاق جوبا، وقع الحزب الشيوعي اتفاقا سياسي مع الحركة الشعبية جناح عبد العزيز الحلو في إثيوبيا يوم 6 سبتمبر، نص في مجمله على مبادئ عامة تشمل المواطنة والمساواة بين المواطنين واحترام المعتقدات والتقاليد، وعدم تأسيس حزب سياسي على أساس ديني، ورفض اقحام الدين في السياسة بإضفاء قدسية زائفة على برامج لقوى وأحزاب سياسية.
وفقاً لمصادر في قوى الحرية والتغيير فإن تحركات الحزب الشيوعي ومحاولة الالتفاف على اتفاق السلام في جوبا بالالتجاء إلى جناح عبد العزيز الحلو، قد يكون نتيجة لتخوفات الشيوعي من تغير موازيين القوى في الحاضنة السياسية للحكومة بعد دخول الأطراف الموقعة في جوبا، وبالتالي يكون تواجد جناج الحلو الذي يحمل أفكار وسياسات الحزب الشيوعي دعماً لهم، حيث ينتقد البعض توجهات الحزب الداعمة لرفض الحلو الاتفاق مع حمدتي رغم أنهم أنفسهم مقعوا مع حمدتي الوثيقة الدستورية في أغسطس من العام الماضي.
ويبقى حسم مصير علمانية السودان الجديد مسألة جدلية تتخللها العديد من قضايا سياسية يحاول كل من الفرقاء السياسيين وضعها على رأس الأجندة السياسية، فبينما يحاول رئيس الوزراء، عبد حمدوك رسم صورة ايجابية للسودان الجديد بعد توقيع الوثيقة الدستورية وحسم ملف السلام وإدماج الحركات المسلحة في العملية السياسية، وفصل الدين عن الدولة وقيام الدولة على أسس المواطنة والحرية العقائدية وهو ما قد يؤهل السودان للانفتاح على المجتمع الدولي برفع اسمه من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب، إلا أن هذه المحاولات لا تزال رهينة الرفض الشديد من قوى سياسية داخل السلطة الحاكمة نفسها وبين التيارات والأحزاب السياسية.