عادة ما ينقسم السياسيون إلى فريقين، فريق يستطيع أن يبلور رؤية واضحة للحاضر والمستقبل على خلفية قراءاته لمعطيات الواقع ومقوماته الفعلية التي تتغاير كل حين، وعناصر القوة التي تحكمه، ورصده لتشابك القوى والمصالح العالمية من حوله، وقياسه للدول الفاعلة والمؤثرة في القوى العالمية، ومعرفته إلى أين تتجه حزمة التحالفات، مثلما فعل الرئيس السادات بقراره التاريخي وذهابه للكينست عام 1977 لإنهاء الحرب، واسترداد الأرض، وإقرار السلام.
وفعلته أيضًا القيادة السياسية في دولة الإمارات بعد ما يقرب من أربعين عامًا عندما أعلنت مبادراتها للسلام مع إسرائيل، سلام وفق مقتضيات أخرى، فلقد رصدت الإمارات لكل ما سبق بوعي، كما أخذت في الاعتبار التغيرات الجيوسياسية في إسرائيل، وأن الاتجاه للسلم ورفض الحروب أو النوايا التوسعية الاستيطانية سيعلو مع الوقت لطبيعة البنية السكانية في العقود القادمة في تل أبيب، فلقد هَزمت الديمقراطية في الدولة اليهودية الاتجاه اليميني المتطرف، وتشير الدلالات إلى تغلب أصوات التقدميين الإسرائليين، وعرب 48 الذين يرون أن التعايش وحل الدولتين هما الأنسب لاستمرار الوجود الآمن للجميع.
لقد تدارس سياسيو الإمارات التاريخ البعيد والقريب للصراعات بين الفرقاء التاريخيين وقدروا إمكانية تغيير هذه العلاقة العدائية بين الفلسطينيين والإسرائيليين لصالح أنفسهم وشعوب المنطقة، ذلك حين تتزاوج رؤوس الأموال العربية وقدرات ريادة الأعمال، مع القدرات العلمية والعسكرية الإسرائيلية، فترتفع معدلات التنمية وتزداد فرص الاستثمار ازدهارًا، وتقوى تحالفات سياسية عسكرية لمواجهة تحالفات أخرى في المنطقة.
وحين تتوجه أيضًا نوايا الجميع لإرساء معنى الإنسانية الأشمل الذي يستهدف السلام وتنمية حياة الشعوب وأمنهم مهما اختلفت الأديان أو القوميات والجنسيات، مهما واجه هذا الهدف الإنساني صعوبات التحقق على أرض الواقع وعده البعض ضمن الفكر المثالي فقط.
فريق آخر من المشتغلين بالسياسة تتجمد خلايا أذهانهم وفق رؤية متحفية متكلسة، يحتمون خلف دروع الثبات الوهمي للأيديولوجيات والشعارات والأمنيات، ومعاندة مقومات الواقع التي يظل العامل الاقتصادي، والقوة السياسية العسكرية، والاتحاد، أهم ركائزها.
لم تزل لغتهم القديمة وتهديداتهم هي المسيطرة الحاضرة في خطاباتهم التي تستند على إشعال الغضب والتعاطف، لا التعقل والموضوعية، لم يزل الاتجار بالقضية الفلسطينية يضمن لهم مقومات عيشهم، لم تزل انقساماتهم وتشتت انتماءاتهم الطائفية هي أول الأسباب التي تضعف قضيتهم، يهددون بالمقاومة المسلحة التي لم تصمد في السابق، كما لم تحقق إنجازًا حقيقيًا يعيد إليهم وطنهم أو يرجع اللاجئين إلى أراضيهم. لقد أصابتهم فرقتهم وتعدد فصائلهم وولاءاتهم بمزيد من حماقة التقدير.
فمنذ أيام اجتمع بعض من قادة الفصائل الفلسطينية بقيادة محمود عباس، ودعوا لتجييش أدواتهم لتقويض القرار الإماراتي بالسلام مع إسرائيل، ملوحين بالضغط على الإمارات من خلال التنسيق مع أكثر من 400 ألف فلسطيني مقيم فيها من أجل التأثير بشكل أو آخر على تقويض المبادرة بشكل عدائي يلوح بتدخلهم في قرار الإمارات السيادي.
لقد شعروا بخطورة مبادرة الإمارات وريادتها التي ستشجع دول الخليج الأخرى، مثل: السعودية، والبحرين، وسلطنة عمان، والكويت لنهج نفس الطريق والتطبيع مع إسرائيل، ولذا هددوا بالمقاومة المسلحة، وما تشيعه من خوف لدى الجميع.
ليس على هذا النحو تُسترد أراضي الأوطان التي استُلبت، ولا عودة اللاجئين المشتتين، ليس بالتدخل في شؤون الدول الأخرى، أو التحريض على العنف والإرهاب الذي يعاقب عليه القانون الدولي.
تشي تصريحاتهم لكل مراقب بالافتقار للنضج السياسي، هذا العبث الذي استدعى إلى ذاكرتي مباشرة اجتماع محمد مرسي العياط، رئيس مصر سنة حكم الإخوان بمجموعة من الشخصيات والرموز السياسية لمناقشة تداعيات بناء سد النهضة في إثيوبيا، هو ذات التخبط دون إعداد خطة تقوم على معايير القوة بأنواعها، وتستند على مقومات واقعية، هي ذات اللهجة الجهورية والتجييش العاطفي، استسهال العنف والتصريح به بلا وجه حق، وتهديد حياة البشر بما فيهم مواطنيهم الفلسطينيين في بلاد الخليج والإمارات تحديدًا، والتعدي على سيادة الدول.
ربما ظل حق الفلسطينيين في دولة مستقلة هو العذر الوحيد الذي يمكن أن يُلتمس لهم، لكن ليس على هذا النحو الفج، فعنف الخطاب هذا وتعديه، إضافة إلى فرقتهم جعلتهم في الموقف الأضعف، لقد تغيرت الرؤى عما مضى، وأعاد الزمن تراتبية منظومة القوى، وأدركت المجتمعات والدول احتياجاتها الحقيقية التي تدعم استمرارها وتنمية واقعها ومستقبلها.
لن يضمن هذا التصلب في طريقة التفكير، وعنف وسائلهم وخطابهم مع الشعوب العربية التي طالما وقفت داعمة لقضيتهم بكل الوسائل المعنوية والمادية حق الحصول على دولة مستقلة لهم، ولن تضمن حقوق اللاجئين أيضًا في العودة. كما لن تجمّد تلك التهديدات استيلاء إسرائيل على الأراضي وبناء المستوطنات.
مشهد آخر لبعض الفلسطينيين من حركة حماس جرت أحداثه في لبنان إضافة إلى هذا الاجتماع السابق لقادة فتح، تجسد في لقاء إسماعيل هنية بــ “حسن نصر الله” برعاية من إيران. وهو ما يفصح عن فكر فصامي يعتمد أكثر ما يعتمد على الأوهام والضلالات، ويثير حولهما “فتح” و”حماس” الكثير من التساؤلات التي تشي إجاباتها بتحالفات تحاك ضد دول المنطقة.
لقد نجحت دولة الإمارات المتحدة في وصولها لنهضتها الحديثة في مجالات شتى من خلال صهر اختلاف مواطنيها في بوتقة دولة المواطنة، بوتقة الولاء للوطن الذي يعيش الجميع فيه ويتمتع بخيرات أرضه وفرص عمله واستثماراته رغم اختلاف الأديان والأعراق والقوميات، ورغم اختلاف أشكاله وعاداته وتقاليده.
كان الوطن ومصلحته التي هي مصلحة الجميع الدافع والمنطلق الذي أوصل المجموع للارتقاء بتجربة الإمارات وريادتها في توظيف التعدد واستثماره لصالحها.. أدركت الإمارات ميزة التعدد والتنوع فجعلت القانون هو الحاكم والفيصل، القانون الذي يسري على الجميع، ويطبق على المواطنين أو المقيمين دون فارق، فوفرت مناخًا آمنًا وعادلاً، ولذا أصبحت من أهم المراكز التجارية الجاذبة للشركات العملاقة متعددة الجنسيات، ثم ازداد الطموح فخاضت مجالات علوم الفضاء وتجاربه، والعلوم الطبية والفيزيائية والنووية، وهو ما يجعل التعاون مع إسرائيل يدعم طموحاتها تلك، ويفتح آفاقا جديدة تلبي خططها للمستقبل.
وقياسًا على نجاح التجربة الإماراتية في صهر الاختلاف والاستفادة من التعدد وضبطه بآليات قانونية محكمة رأت القيادة أن فلسفة نجاح تجربتها الرائدة يمكن أن يتسع ليشمل التعايش والسلام مع دول المنطقة، تحالفات قوية تقف بوجه رغبات إيران وتركيا الاستحواذية في السيطرة على دول المنطقة.
لا ضرورة أن تكون الأرض الواحدة التي تضم التعدد هي المنطلق الوحيد، بل اتسعت الرؤية ليصبح المنطلق إنسانيًا، يستهدف السلام على الجوار، كما يرتكز على التكامل، حيث التعاون الاقتصادي والعلمي والتجاري، لضمان حياة آمنة لجميع دول المنطقة مهما كان الميراث التاريخي محمل بالعداوات.
وأحسب أن كل مبادرة سلام مع إسرائيل ستواجه بالمعارضة خاصة على مستوى الشعوب التي نشأت وتربت وفي وعيها الثقافي أن إسرائيل هي العدو الحقيقي للعرب، ترتفع لغة تبادل المصالح في عالم اليوم، وفي ظني أنه كلما تواجدت مصالح لإسرائيل مع الإمارات أو دول عربية أخرى لكان العرب أكثر قدرة على الضغط على إسرائيل إذا استهدفت المد التوسعي على الأراضي الفلسطينية، وقتها يمكن أن تكون مصر، والأردن، والإمارات، ودولاً أخرى رادعًا قويًا لصالح فلسطين وحقها في وطن مستقل، فقوة الاقتصاد وتبادل المصالح والتوازنات هي اللغة التي يعرفها سلام اليوم.