في حقله الكبير بمحافظة الفيوم، يقف محمد شعبان، المزارع الستيني، يتندر على زهور القطن البيضاء التي توشك على الحصاد، تحاصره الهموم والمخاوف من أن يلقى محصوله نفس مصير العام الماضي، الذي لم يستطيع حتى الآن تصريف كميات راكدة منه، يخزنها في حظيرة للمواشي.

تلقي المزارع العجوز صدمة حينما عرف أسعار بيع قنطار القطن للعام الحالي التي لا تتجاوز 1800 جنيه للقنطار، تبتعد كثيرًا عن توقعاته، ليعيد حسبة معقدة كان يراهن فيها على “الذهب الأبيض”، في استكمال تجهيز بنته الصغرى للزواج.

يعرف الفلاح المخضرم، الذي طحنته الزراعة لعقود، إن أرضه لن يزيد إنتاجها على 5 قناطير بما يعادل 9 آلاف جنيه، ما يجعل العائد الصافي الذي حصل عليه بعد استبعاد تكاليف التقاوي والحرث والتخطيط “الفرج” والري والعزيق “تنظيف الأرض من الحشائش” والأسمدة والمبيدات وأخيرًا الحصاد، لا يتجاوز ألف جنيه للفدان.

يبتسم الفلاح بمرارة قائلا: “تخيل فدان بعد تعب ٦ أشهر تحصل على عائد ألف جنيه بما يعادل ١٦٠ جنيهًا في الشهر، عائد المحصول لا يكفي لشراء مرتبة واحدة لسرير صغير في غرفة عريس أو عروسة“.

لكن حال شعبان يبدو أفضل عن الكثير من جيرانه الذين استأجروا أراضٍ زراعية إيجار الفدان الواحد منها يتراوح بين 10 و12 ألف جنيه في العام، ما يحول العائد البسيط الذي حصل عليه إلى خسائر لا تقل في المتوسط عن 3 آلاف جنيه للفدان الواحد لأي فلاح مستأجر لأرضه.

طبقت الحكومة منظومة جديدة لتداول الأقطان، تم تنفيذها في محافظتي بني سويف والفيوم العام الماضي، وتمتد العام الحالي إلى البحيرة والشرقية، على أن يتم تعميمها في جميع المحافظات العام المقبل، ما جعل السعر يهبط إلى ٢١٠٠ للقنطار العام الماضي مقابل 2700 جنيه لعام 2018.

تهدف المبادرة، التي تم تطبيقها العام الماضي إلى تسليم المزارعين أقطانهم بمراكز التجميع التابعة للشركة القابضة، وإلغاء بيع المحصول كالمعتاد على الأرض للتجار، بتنظيم مزاد علني يتم تحديد سعر الفتح بشكل يومي، عبر حساب متوسط أسعار البيما الأمريكي مع سعر “أنديكس A “.

و”بيما” هو سعر القطن الأمريكي طويل التيلة ويقاس بالرطل وتشتهر بزراعته كاليفورنيا وأريزونا في الولايات المتحدة، بينما “أنديكس A” فيرتبط بسعر الأقطان قصيرة التيلة.

تسعير متعسف

وكان السعر العام الماضي، في أول تطبيق للآلية الجديدة، يتم تحديده من خلال الهيئة العامة للتحكيم وفرز القطن، ثم يزايد عليه التجار، ويمكن للمزارع أن يرفض بيع قطنه إذا لم يعجبه السعر، قبل أن تجري عليه تعديلا بتحديد سعر فتح المزاد وفقا “أنديكس A مضافا إليه هامش معين، ما يجعل سعر فتح المزاد أقل.

يخدم النظام الجديد التجار باعتراف هشام توفيق، وزير قطاع الأعمال، الذي قال نصًا إن النظام القديم للمنظومة، لم يكن مناسبا للتجار، وكان في مصلحة المزارعين تم تدارك هذا الخطأ، وسيتم تحديد السعر وفقا لأسس مختلفة.

استطاع التجار لي ذراع وزارة قطاع الأعمال العام الماضي بعدما عزفوا عن الدخول في المزادات حتى طبقوا مآربهم الخاصة وحددوا الطريقة التي يحققون منها أعلى ربح، ففي النهاية يمثل القطن المستورد مكاسب أفضل لهم لسهولة تسويقه للمغازل.

تشتري الشركة القابضة للغزل والنسيج التابعة لقطاع الأعمال، الأقطان من خلال 4 شركات تابعة لها هي الوادي للتجارة وحليج الأقطان، والشرقية للأقطان، والدلتا لتجارة وحليج الأقطان، والمصرية لكبس القطن.

يقول “شعبان” إن ما استفاده الفلاح من المنظومة الجديدة لا يتعدى تسليمه كيس من الكتان لوضع المحصول داخله وقطعة دوباره، والتي تخدم أيضًا المصنعين بتقليل الشوائب في المحصول وخدمة المعتزل الجديد التي أدخلتها الدولة وتعتمد على التكنولوجيا.

حضر المزارع قبل أيام أول مزادات بيع القطن بمحافظته لم يرتفع التجار سعر البيع عن سعر الفتح إلا أربعة جنيهات، يضحك بمرارة حينما يقول: “تخيل أني وجيراني أجرنا عربة صغيرة ٢٠٠ جنيه وجلسنا على مقهى، وأنفق كل منا ٥٠ جنيها، لنجد أن القنطار تحرك فقط ٤ جنيهات، تعادل ثمن نصف رغيف فول.

يتوقع خبراء الزراعة أن تتقلص المساحة المنزرعة بالقطن العام المقبل بسبب المنظومة الجديدة، بعدما تقلصت مساحة العام الحالي إلى 180الف فدان مقابل ٢٣٠ ألفا العام الماضي، ومساحة 336 ألف فدان موسم 2018،

تتنافى المنظومة الجديدة مع الدستور الذي ينص على إلزام الدولة بشراء المحاصيل الأساسية بهامش ربح دون اعتبار للسوق العالمية.

تدمير الزراعة

يقول نقيب الفلاحين إن المنظومة الجديدة قد تدمر زراعة القطن وتظلم الفلاحين لصالح التجار، مطالبا بوضع سعر ضمان لشراء الأقطان وتطبيق قانون الزراعات التعاقدية وحل أزمة تعثر تسويق الأقطان طويلة التيلة محليا مع فتح أسواق للأقطان بالخارج تستوعب الإنتاج المصري.

طالب حسين أبو صدام، نقيب الفلاحين لوضع ملف القطن في يد وزارة الزراعة التي تعبر عن الفلاح وليس لوزارة قطاع الأعمال التي تمثل المصنعين والتجار، لعودة زراعة القطن لسابق عهدها باعتباره زراعة كثيفة العمالة وتحل أزمة الاقتصاد في استيراد الزيوت بنسبة ٩٦٪ وكذلك الأعلاف.

يقول وليد السعدني، رئيس جمعية منتجي القطن بمصر، إن موسم الحصاد بدأ وهناك نصف مليون قنطار راكدة من العام الماضي فشل الفلاحون في بيعها متى الآن، في ظل تفضيل المصانع المحلية القطن المستورد.

ووفقا للدراسات الحكومية يبلغ استهلاك المغازل المحلية من القطن المستوردة نحو 3 ملايين قنطار قطن، ولا يزيد استهلاكها من القطن المحلي 300 ألف قنطار.

يلمح “السعدني” إلى وجود تنافر بين إهمال زراعة القطن والسعي في الوقت ذاته لتطوير صناعة الغزل والنسيج، معتبرا الحل في فرض رسوم إضافية على القطن المستورد لتشجيع المنتج المحلي الذي كانت مساحة بلغت في الستينات تعادل ثلاثة ملايين فدان.