حظر دستور 2014، فرض أي رقابة على الصحف ووسائل الإعلام أو مصادرتها أو وقفها أو إغلاقها بأي وجه إلا في حالة الحرب والتعبئة العامة، وكفل في أكثر من موضع حرية الرأي والتعبير باعتبارها حق للمواطن وواجب على الدولة، وحدد الدستور عددًا من الهيئات المستقلة عن السلطة وجعل منها الضامن لحماية حرية الصحافة وحيادها وتنوعها، وفي مقدمة تلك الهيئات المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام.
ورغم أن الإطار الدستوري، جعل من المجلس الأعلى للإعلام الهيئة الضامنة والحامية لحرية الصحافة والإعلام، إلا أنه ومنذ تأسيسه في 2017 والواقع يعكس صورة أخرى، فالهيئة المنوط بها كفالة حرية الرأي صارت إحدى أدوات السلطة في حصار وخنق الحرية وضرب فكرة التنوع والتعدد في مقتل.
وبدلًا من أن يسعى المجلس، إلى فرملة تغول السلطة على وسائل الإعلام خلال السنوات الماضية، عمد دائمًا إلى تبرير إحكام قبضة النظام على المنصات الإعلامية وتحكمه في أجندتها التحريرية، بدعوى الحفاظ على “الأمن القومي”، ذلك التعبير المطاط حمال الأوجه الذي تم استخدامه لتأميم ما تبقى من هامش يسمح بإنتاج محتوى صحفي يقنع المتلقي بمتابعته.
وبدعوى الحفاظ على “الأمن القومي”، حُجبت عشرات المواقع الإخبارية، وتعطلت طباعة عددًا من الصحف لحين رفع أخبار أو مقالات لم يرضى عنها السيد الرقيب، فضلًا عن إحالة العديد من الصحفيين والكُتاب إلى جهات التحقيق دون سند من القانون أو الدستور الذي حظر الحجب والمنع والغلق والمصادرة وكفل حرية الرأي والتعبير وألغى الحبس الاحتياطي في قضايا النشر.
ارتكب المجلس بتشكيله السابق، عشرات الخطايا في حق مهنة من المفترض أن يكون هو أحد حراسها ورأس حربة في معركة الدفاع عنها، فبارك تمرير مواد قانون تنظيم الإعلام رقم 180 لسنة 2018 التي جعلت من رئيس المجلس رقيبًا ومحتسبًا على ما تبثه وسائل الإعلام، فشرعن القانون قرارت الحجب والمنع المخالفة للدستور، ثم زاد الطين بلة عندما أصدر المجلس لائحة جزاءات كارثية أضافت العديد من القيود على العمل الصحفي بهدف تطوعيه بشكل كامل.
وحتى تكتمل الدائرة السوداء، أصدر المجلس لائحة تراخيص تعجيزية تفرض على المواقع القائمة سداد أرقام فلكية بدعوى تقنين أوضاعها، فوضع معظمها تقريبًا تحت مقصلة لائحة جزاءاته باعتبارها مخالفة لشروط الترخيص، فضلًا عن إغلاق الباب أمام أي محاولة لتأسيس أي منصة إعلامية جديدة بسبب شروط اللائحة الجديدة.
قبل أيام دعا الكاتب الصحفي كرم جبر الرئيس الجديد للمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، عدد من الصحفيين والإعلاميين إلى ورشة عمل لمناقشة “محددات وتحديات الإعلام في معالجته لقضايا الأمن القومي”، وطُرحت خلال تلك الجلسة “الخطوط الحمراء” التي لا يمكن لوسائل الإعلام تجاوزها.
ورغم أن منصات الإعلام المصرية، حاصرت نفسها بعشرات “الخطوط الحمراء” خلال الأعوام القليلة الماضية، إما خوفًا من الحجب والمُصادرة أو طمعًا في نيل مقعد قريب من مليك مقتدر، إلا أن الحضور اعتبروها قضية وطينة وأدلى كل منهم بدلوه فيها.
الحاضرون، توافقوا على عدد من التوصيات التي تتكرر في مثل تلك المناقشات الصحفية الوطنية، منها وضع استراتيجية إعلامية متكاملة تراعي القواعد المهنية والوطنية، واحترام ثوابت الدولة الوطنية، والعمل على ترسيخ دولة المواطنة الكاملة.. وهكذا توصيات أكلاشيهية.
التوصية الأغرب التي تضمنها البيان الصادر عن الورشة، هي تلك التي أشارت إلى أن يكون التناول الإعلامي معززًا لعلاقات مصر الخارجية ولا يخرج عن سياق السياسات المصرية الدولية، ولا يفرض عليها خيارات تتناقض مع المصالح العليا للبلاد، وهو ما يعني تماهي الصحف ووسائل الإعلام مع خيارات السلطة في سياستها الخارجية، وهو ما قد يرفع أقلام الكتاب والصحفيين عن الطعن في إجراءات دولة الاحتلال القمعية ضد الشعب الفلسطيني أو انتقاد التطبيع والهجوم على المطبعين مع العدو الصهيوني، لأن الدولة هنا مرتبطة بعلاقات “دافئة” مع حكام تل أبيب.
وذرا للرماد في العيون، أوصى المجتمعون بمراجعة الأكواد الإعلامية بما يتناسب مع الدستور والقانون وحرية الصحافة والإعلام وعدم التضييق عليها، وأن تكون هناك محددات واضحة لرؤية استراتيجية واضحة يتم العمل بمقتضاها.
كان أولى بالمجلس الأعلى والهيئات الإعلامية بتشكيلها الجديد، أن يطرحوا في أول اجتماع مع أهل المهنة أزمة حرية الصحافة والحصار الذي تمارسه السلطة عليها منذ نهاية عام 2016 تقريبًا، وأن يبادر المجلس المعني بحماية وضمان الحرية والتعددية والتنوع بجمع أطراف تلك الأزمة للوصول إلى صيغة تعيد الهامش الذي يسمح بإنتاج محتوى صحفي يعيد المتلقي مرة أخرى إلى وسائل الإعلام المصرية، بعد أن هجرها لبعدها عن القضايا محل اهتمامه وتركيزها على إرضاء السلطة بدلًا من إرضائه.
لن يطالب أحد بأن يقود المجلس بتشكيله الجديد، معركة مع النظام ومؤسساته لتفعيل مواد الدستور الخاصة باستقلال الصحافة وحريتها وتنوعها، المطلوب في تلك اللحظة أن يبعث المجلس برسالة إلى دوائر اتخاذ القرار مفادها أن دوام الحال كما هو عليه محال، وأن هجر الجمهور للمنصات الإعلامية المصرية هو الذي يخلخل الأوضاع ويضرب الاستقرار وليس العكس.
قبل أيام وأنا أطالع توصيات ورشة العمل المشار إليها و”الخطوط الحمراء” التي تباري الحضور في الحديث عنها، وقع في يدي كتاب “فى المرآة” للكاتب الساخر عبد العزيز البشري، وهو مجموعة من مقالات نشرها في جريدة السياسة الأسبوعية قبل 100 عام تقريبًا، ولفت نظري مقال يحلل فيه البشري شخصية رئيس الوزراء أحمد باشا زيور، متخذًا من هيئته ومظهره مدخلًا إلى تناول طبائع نفسه، التي رأى فيها الكاتب كل نقيصة.
البشرى أو “جاحظ العصر الحديث”، كما كان يُطلق عليه آنذاك، لم يكتف بوصف رئيس الحكومة المسنود من الملك فؤاد، ولم ينتقد قراراته أو سياساته، لكنه زاد وتندر وسخر ورسم بكلماته شخصية كاريكاتورية للرجل الأول فى السلطة التنفيذية بطريقة نالت منه وجعلته أضحوكة عصره وأوانه.
ورغم عُنف حكومة زيور في التعامل مع معارضيها، خاصة بعد قرارها بحل البرلمان وإلغاء قانون الانتخاب وإجراء انتخابات نيابية جديدة وفقًا لقانون مصنوع للحد من شعبية حزب الوفد، إلا أن البشري نشر مقاله في زاويته الأسبوعية “في المرآة” دون أن أن يخشى ملاحقته أمنيًا أو قضائيًا بدعوى نشر الأخبار الكاذبة أو سوء استخدام وسائل النشر أو تكدير السلم الأهلي، ودون أن تغلق الجريدة أو تصادر أعدادها أو يتم حجب الزاوية.
أعيد في السطور القادمة نشر مقتطفات من مقال البشري، لأذكر نفسي والسادة أعضاء الهيئات الإعلامية وباقي أبناء صاحبة الجلالة بكيف كانت مصر الخاضعة للاحتلال البريطاني والحكم الملكي تتمتع بحرية تعبير وصحافة لا يطمح إليها أكثر الناس تفاؤلًا الآن.
في مقاله “زيور باشا” يقول البشري عن رئيس الوزراء:
“أما شكله الخارجي، وأوضاعه الهندسية، ورسم قطاعاته ومساقطه الأفقية؛ فذلك كله يحتاج في وصفه وضبط مساحاته إلى فن دقيق وهندسة بارعة، والواقع، أن زِيوَر باشا رجل – إذا صح هذا التعبير- يمتاز عن سائر الناس فى كل شىء، ولست أعنى بامتيازه في شكله المهول طوله ولا عرضه ولا بعد مداه، فإن في الناس من هم أبدن منه، وأبعد طولًا، وأوفر لحمًا، إلا أن لكل منهم هيكلًا واحدًا، أما صاحبنا فإذا اطلعت عليه، أدركت لأول وهلة أنه مؤلف من عدة مخلوقات لا تدري كيف اتصلت، ولا كيف تعلق بعضها ببعض!”.
“وإنك لتجد ناسًا يصفون زيور بالدهاء وسعة الحيلة، بينما ترى آخرين ينعتونه بالبساطة، وقد يتدلون به إلى حد الغفلة، كما تجد خلقًا يتحدثون بارتفاع خلقه وتنزهه عن النقائص، إذ غيرهم ينحطون به إلى ما لا تجاوره مكرمة، ولا يسكن إليه خلق محمود!”
“كل أولئك زيور، وكل هذا قد يضيفه الناس إلى زيور، فلا تكاد تسعهم مجالسهم بما يأخذهم فيه من الدهشة والاستغراب، وإذا كان هذا مما لا يمكن في الطبيعة أن يستقيم لرجل واحد فقد غلط الناس إذ حسبوا زيور رجلًا واحدًا، والواقع أنه عدة رجال، وعلى الصحيح هو عدة مخلوقات، لا تدري كما حدثتك، كيف اتصلت ولا كيف تعلق بعضها ببعض!”.
“والظاهر أن زيور باشا برغم حرصه على كل هذه المتملكات الواسعة، عاجز تمام العجز عن إدارتها وتوليها بالمراقبة والإشراف، وما دامت الإدارة المركزية فيه قد فشلت كل هذا الفشل، فأحرى به أن يبادر فيعلن إعطاء كل منها الحكم الذاتى على أن تعمل مستقلة بنفسها على التدرج فى سبيل الرقى والكمال، وحسب عقله فى هذا النظام الجديد، أن يتوفر على إدارة رجليه وحدهما، ولعله يستطيع أن يسيرهما في طريق الأمن والسلام!”.
“وإن أهل مصر ليأخذون زيور باشا كله بما لا يحصى من الجرائم على القضية الوطنية، وإنهم ليعدون عليه سفهه فى أموال الدولة واستهتاره بمصالحها، وإنهم ليحسبون عليه إيثاره الأهل والأقربين، والأصحاب والمحبين، وذوي أرحامهم بمناصب الدولة ومنافعها. وقد يكون لمجلس النواب مع هؤلاء الرجل شأن إذا أقبل يوم الحساب!”.
“ولعل العضو الوحيد المقطوع ببراءته من كل ما ارتكب من الآثام هو مخ زيور باشا، فما أحسبه شارك ولا دخل فى شىء من كل ما حصل!”.
بالطبع لا أقصد من وراء إعادة نشر مقتطفات من مقال مر عليه نحو 100 سنة، تشجيع الزملاء من أصحاب الرأي والقلم اليوم على السير على طريق السلف الصالح في تلك المهنة والانطلاق في انتقاد من يرونه أهلًا للانتقاد، فتلك الأيام ولت والأحوال تبدلت ولم تعد عواقب الانتقاد، حتى لو كان بسيطا مأمونة، لكنني أذكر الزملاء أعضاء مجالس الهيئات الإعلامية بما كانت عليه حرية الصحافة والتعبير في مصر المحروسة، عسى أن يضعوه على مائدة اجتماعهم المقبل ليعرفوا أن مصر كان بها صحافة.
رحم الله الشيخ عبدالعزيز البشري وصحافة زمانه ويتولانا ومعنا صحافة زماننا بلطفه.