حرية الأشخاص في الاعتقاد، وإقامة الشعائر الدينية، من أولى الحقوق التي نصت عليها المواثيق الدولية، وكفلتها الدساتير الوطنية لدول العالم، حتى تلك الدول التي تنص دساتيرها على دين رسمي للبلاد، لكن حدود هذه الحرية وكونها مطلقة أم مقيدة، اختلفت من دولة لأخرى.

فالمواد الخاصة بمسألة حرية الدين والعقيدة، كانت دائمًا مسار جدل واسع عند صياغتها، وعند تعريفها لهذه الحرية وحدودها، بل وعند تعريفها للدين نفسه، خاصة في الدول العربية والإسلامية.

الإعلان العالمي والعهد الدولي

تنص المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي اعتمد عام 1948، على أنه: “لكل شخص حق في حرية الفكر والوجدان والدين، ويشمل هذا الحق حريته في تغيير دينه أو معتقده، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حده”.

هكذا نرى توصيفًا دقيقًا وشارحًا للحرية المطلقة للدين والعقيدة، في الإعلان العالمي، لكن الإعلان والذي وقعت عليه مصر، لا يعدو كونه نصًا توافقيًا غير ملزم، ولا يترتب على مخالفة مواده عقوبات دولية، فلم يأخذ هذا التعريف المطلق للحرية الدينية، والذي اعتمد منذ أكثر من 70 عامًا شكل الاتفاقية الملزمة حتى الآن، وهو ما يدلل على مدى تشابك وتعقيد المسألة الدينية.

الصفة غير الملزمة لازمت أيضًا العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1966، والذي أكد على ما طرحه الإعلان العالمي من حرية الاعتقاد المطلقة وإقامة الشعائر الدينية.

إعلان 1981

بعد 20 عامًا من العهد الدولي، وفي فبراير 1981 صدر إعلان بشأن القضاء على جميع أشكال التعصب والتمييز القائمين على أساس الدين أو المعتقد، والمعروف بإعلان 1981، تضمن 8 مواد، تؤكد على حق كل إنسان في حرية التفكير والوجدان والدين، وإقامة شعائر دينه جهرًا أو سرًا، وحرية تغيير دينه، وحظر أي إجراء يحد من هذه الحرية، أو تعرضه لأي ضرر أو تمييز بسبب معتقداته.

إعلان 1981 كما سبقه من الإعلانات والعهود، لم يكن سوى وثيقة غير ملزمة، فيما فشلت كل الجهود الدولية التي بذلت طيلة العقود الماضية في إقرار اتفاقية ملزمة لدول العالم، تتضمن تعريفًا موحدًا للحرية المطلقة للاعتقاد والدين، وتحظر انتهاكها.

الدساتير المصرية وحرية العقيدة

حرية الاعتقاد والدين، قضية أساسية في الدساتير المصرية منذ دستور 1923، لكن صياغة المواد المتعلقة بحرية الاعتقاد، وإقامة الشعائر الدينية، وحدود هذا الحرية، قد اختلفت منذ دستور 23، كما تباينت الدساتير المتعاقبة في إطلاق هذا الحق أو تقييدها.

ففي دستور 1923 تنص المادة 12 على أن: “حرية الاعتقاد مطلقة” وتُلزم المادة 13 الدولة بحماية حرية إقامة الشعائر الدينية، “طبقًا للعادات المرعية في الديار المصرية على ألا يخل ذلك بالنظام العام ولا ينافي الآداب”.

نلاحظ هنا حرص الصياغة، على الحرية المطلقة للاعتقاد في المادة 12 وإرفاقها بحرية إقامة الشعائر في المادة 13 مع تقييدها بشرط عدم الإخلال بالآداب العامة، وهي صياغة تتسم بالتقدمية رغم شرط التقييد. لم يختلف دستور 1930 عن دستور 1923 بشأن المادتين 12 و13، حتى أنه ذكرهما بنفس الصياغة والترتيب.

حافظ دستور 1956 على مادة الحرية المطلقة للاعتقاد

وعقب ثورة 23 يوليو، حافظ الإعلان الدستوري الصادر عام   1953 على ما جاء في الدستورين السابقين، فجاء في مادته الرابعة: “حرية العقيدة مطلقة وتحمي الدولة حرية القيام بشعائر الأديان والعقائد طبقًا للعادات المرعية على ألا يخل هذا بالنظام العام ولا ينافي الآداب”.

كما حافظ دستور 1956 على مادة الحرية المطلقة للاعتقاد، مقيدًا أيضًا إقامة الشعائر بعدم الإخلال بالنظام العام، بينما خلا دستور 1958 من أي ذكر لحرية الاعتقاد، وعاد دستور 1964 لذكر مبدأ حرية الاعتقاد في المادة 34 بنفس الصياغة الواردة في إعلان 1953.

نص مُقتضب وإضافة

أما دستور 1971، والصادر في عهد الرئيس السادات، فقدم نصًا مُقتضبًا فجاء في المادة 46 أنه: “تكفل الدولة حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية”، بينما وضع إضافة تضمنتها المادة الثانية وهي: الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع”، بينما كانت الدساتير السابقة تكتفي بجملة: “الإسلام دين الدولة والعربية لغتها الرسمية” وشتان ما بين الأمرين، حيث أسست تلك الصياغة للجدل الدائر منذ نصف قرن حول دينية الدول أم مدنيتها.

عقب ثورة 25 يناير، حافظ الإعلان الدستوري الصادر في 30 مارس 2011، على نفس النص الوارد في دستور 1971، بشأن حرية الاعتقاد، كما حافظ على نص المادة الثانية كما هي.

ردة عن الدساتير السابقة

جاء دستور 2012 ليمثل ردة واضحة عما تضمنتها الدساتير المصرية، فنصت المادة 43 على أن: “حرية الاعتقاد مصونة. وتكفل الدولة حرية ممارسة الشعائر الدينية وإقامة دور العبادة للأديان السماوية. وذلك على النحو الذي ينظمه القانون”.

الانقلاب هنا جاء على شقين، الأول حذف جملة “حرية الاعتقاد مطلقة” واستبدالها بجملة “حرية الاعتقاد مصونة”، والشق الثاني، قصر إقامة الشعائر الدينية على أصحاب الأديان السماوية، حيث كانت الدساتير السابقة تنص على الحرية المطلقة للاعتقاد، بينما تقيد إقامة الشعائر بعدم الإخلال بالنظام العام.

أما دستور 2014 فقد عاد في المادة 64 للتأكيد على أن “حرية الاعتقاد مطلقة”، لكنه أبقى حرية ممارسة الشعائر الدينية وإقامة دور العبادة مقصورة على أصحاب الأديان السماوية.

كما جاء دستور 2014 بإضافتين خطيرتين، الأولى في المادة 44 والتي نصت على أنه: “تُحظر الإساءة أو التعريض بالرسل والأنبياء كافة”، وهي مادة ربما تبدو في ظاهرها حسنة النية، بينما في باطنها تكرس لقوانين ازدراء الأديان.

الإضافة الثانية كانت ما تضمنته المادة   219 والتي نصت على أنه: “مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية، وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة”، فقد حددت هنا المذاهب السنية دون غيرها.

مقارنة

لا نحتاج إلى ذكر نصوص دساتير الدول الغربية “الديمقراطية”، والتي أكدت على مبدأ الحرية المطلقة للأشخاص في الدين والاعتقاد، وممارسة الشعائر، وبناء دور العبادة، وحرية تغيير الشخص لدينه، وحظر التعرض له أو منعه من ممارسة شعائر دينه أو معتقده، وبين ما وصل إليه هذا المبدأ في الدستور المصري، من قَصر حرية إقامة الشعائر على أصحاب الأديان السماوية، لنكتشف ما يحمله الدستور المصري في نسخته الأخيرة من تضييق على حرية إقامة الشعائر، حتى مقارنة بنصوص الدساتير المصرية السابقة.

ليست دساتير الدول الغربية (الديمقراطية) فقط، ولكن نستطيع أن نرى قفزة في دستور تونس الصادر عام 2014، مقارنة بالدستور المصري، حيث نص الفصل السادس على أن: “الدولة راعية للدين، كافلة لحريّة المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينيّة، ضامنة لحياد المساجد ودُور العبادة عن التوظيف الحزبي”.

جملة “حرية الضمير” هنا، وكما فسرتها التيارات الدينية في تونس والتي استمرت في جدال لعامين قبل صدور الدستور، مع التيارات المدنية والتقدمية، تعني إتاحة المجال لغير أصحاب الديانات السماوية بإقامة شعائرهم.

انتهاك الدستور

حتى الصيغة التي تضمنها “دستور 2014” والتي تُقصر حرية إقامة الشعائر الدينية على أصحاب الأديان السماوية، تم انتهاكها، فلم يُقبل البرلمان المصري على إصدار قانون دور العبادة الموحد، تطبيقًا لنص الدستور في حرية إقامة دور العبادة، وعدم التمييز على أساس الدين.

الشيعة كأصحاب مذهب ينتمي للدين الإسلامي، محرمون أيضًا من حقهم الدستوري في إقامة شعائره                               ليس هذا وحسب بل تعددت حالات الاعتداء من قبل مواطنين مسلمين ضد مسيحيين، بعد إقامتهم شعائر دينية في منازلهم، وهو ما حدث في قرية “دمشاو هاشم” بمحافظة المنيا، قبل عامين، حيث تم اقتحام منازل مسيحيين من قبل مسلمين، وتم الاعتداء عليهم بالضرب وإتلاف محتويات المنازل، وإشعال النيران في سياراتهم، وقال المجني عليهم حينها إنهم أقاموا الشعائر في المنازل لعدم وجود كنيسة بالقرية أو بالقرب منها.

هذه الواقعة تكررت في العديد من المرات، وانتهت بجلسات صلح كانت تفضي في النهاية إلى تهجير المسيحيين “المجني عليهم”، وهي وقائع تدلل على انتهاك حق إقامة الشعائر الدينية المنصوص عليه في الدستور وحماية الدولة لهذا الحق.

الشيعة كأصحاب مذهب ينتمي للدين الإسلامي، محرمون أيضًا من حقهم الدستوري في إقامة شعائرهم، حيث نفى مسؤولون بالأوقاف في العديد من المرات وجود أي مسجد يُرفع فيه الآذان أو تقام فيه الصلاة طبقًا للمذهب الشيعي.

فيما شهد مركز أبو النمرس بمحافظة الجيزة حادثًا دمويًا عام 2013، بحق 4 من الشيعة بينهم القيادي المصري الشيعي حسن شحاتة، والذين تم قتلهم على أيدي عدد من سكان قرية زاوية أبو مسلم، عندما كانوا يقيمون احتفالًا دينيًا بأحد المنازل بالقرية بمناسبة ليلة النصف من شعبان، حيث تم اقتحام المنزل وسحلهم وضربهم حتى الموت.