تحظى الانتخابات الرئاسية الأمريكية الحالية بأهمية قصوى لدى الأمريكيين، ولا تقل أهمية لبقية العالم، لكن في ظل هذه الظروف سيكون الأمريكيين أعينهم على من يمكنه إيقاف تفشي وباء كورونا، وتهدئة احتجاجات الشارع الأمريكي على عنف الشرطة والتصرفات العنصرية.

وبحسب استطلاعات الرأي المختلفة، فلا تحظي القضايا الخارجية باهتمام الناخبين الأمريكيين ولا تأثر في الأصوات إلا بنسبة ضئيلة، غير أن قرار الناخبين رغم ذلك سيكون له تأثيره على منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وفقا لطبيعة السياسات التي يُتوقع أن ينتهجها كل مرشح.

وهو ما يفسر التوقعات الحذرة في المنطقة لنتائج انتخابات نوفمبر المقبلة التي ستؤثر في الاستقرار السياسي والاقتصادي لكل دولة وللمنطقة ككل، بحسب يوسي ميكلبرغ، الأكاديمي والباحث في معهد “تشاتام هاوس” البريطاني والمختص بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

كورونا ومستقبل ترامب

غيرت جائحة كورونا، التي تسببت الإدارة الأمريكية الحالية في تفاقمها بشكل كبير، والاحتجاجات على مقتل “جورج فلويد”، الكثير من مفردات المشهد السياسي والاقتصادي في أمريكا، وهو ما ينعكس بشكل مباشر على الانتخابات القادمة.

وتحت عنوان “مرصد السياسة الأمريكية: هل حان وقت بايدن؟”، أصدر مركز ” ING” ” للتحليلات الاقتصادية والمالية، في يونيو الماضي، تقريرًا تحليلاً للمشهد السياسي والاقتصادي للولايات المتحدة وتأثيره على الانتخابات القادمة، لافتًا إلى أن الاقتصاد الأمريكي يعاني في ظل الجائحة من ركود كبير، حيث فقد ما يقرب من 40 مليون أمريكي وظائفهم.

يحاول “ترامب” أن يجعل الانتخابات وكأنها استفتاء على شعبية خصمه السياسي “جو بايدن”

ورغم قيام الإدارة الأمريكية بتقديم سلسلة من الإجراءات التحفيزية، فإنها في حاجة إلى تقديم المزيد؛ وهو ما أثر بشكل كبير على مستوى شعبية الرئيس الأمريكي، ناهيك عن معالجته السلبية لقضية مقتل المواطن “فلويد” وما أعقبها من حركة احتجاجية واسعة النطاق.

ويحاول “ترامب” أن يجعل الانتخابات وكأنها استفتاء على شعبية خصمه السياسي “جو بايدن”، بدلًا من التركيز على إنجازاته الشخصية، ويتجاهل اللوم على التكلفة الاقتصادية لأزمة كورونا، ويلقي اللائمة بالكامل على الصين.

استراتيجية ترامب

وتعتمد استراتيجية “ترامب” الانتخابية على إثارة الرأي العام ضد خصمه بقضايا تقع بين نطاق “القضايا الوهمية والقضايا التي لم تثبت صحتها”، وهو ما يجعل خصمه في موقف الدفاع دائمًا، ويكون “ترامب” في مأمن من الهجمات المرتدة لخصمه، بسحب التقرير.

وأشار التقرير أيضا إلى بعض الملفات والقضايا التي ترمي بظلالها على الانتخابات القادمة، والتي ستمثل عامل حاسمًا في فوز أحد المرشحين، والتي أبرزها الصين والحرب التجارية.

إذا لم تكشف استطلاعات الرأي عن تحسن في شعبية “ترامب” خلال الشهور المقبلة، وهو ما يمكن أن يدفعه إلى اللعب بورقة الصين، فربما يعيد فرض تعريفات جديدة على المنتجات الصينية، أو يقوم بإلغاء الاتفاق التجاري بين الولايات المتحدة والصين الذي تم توقيعه في يناير الماضي 2020، ما ينتج عن حال حدوثه ودخول الاقتصاد الأمريكي في مستقبل أكثر قتامة وفرص أكبر لفوز “بايدن”.

ومن ضمن القضايا أيضًا، التعامل مع الأزمة الاقتصادية الراهنة، حيث عادة ما يضر الركود الذي يشهده عام الانتخابات بفرص إعادة انتخاب الرئيس المتواجد في البيت الأبيض، وبحسب المختصين فإن النسبة الحالية لركود الاقتصاد الأمريكي تمنح “بايدن” اليد العليا في الانتخابات الرئاسية.

يذكر أنه في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008، استغرق الاقتصاد الأمريكي، التي فقَد خلالها 4% من إنتاجيته، 14 ربعًا لتصحيح وضعه، لكن من المرجح أن يستغرق تعافي الاقتصاد من أزمة كورونا وقتا أطول، في ظل توقعات بانخفاض الإنتاجية بنسبة 13%.

أما مستقبل الحزب الجمهوري في مجلس الشيوخ، غير مضمون، فأي انخفاض ولو بسيط في شعبية “ترامب” سيكون كافيا لأن يفقد الجمهوريين سبعة مقاعد في مجلس الشيوخ.

أزمة دستورية

بعيدًا عن الأزمات والقضايا التي فرضت نفسها على المشهد الأمريكي والعالمي، لا يزال النظام الانتخابي والعملية الانتخابية بالولايات المتحدة مصدر قلق للكثيرين، خاصة الناخبين الأمريكيين، حيث إن الجمع بين نقاط الضعف الموجودة في النظام الانتخابي، والتهديدات الجديدة بسبب الجائحة وموقف ” ترامب” غير المعتاد تجاه العملية الانتخابية؛ يمكن أن يرسم صورة واضحة لأزمة دستورية غير مسبوقة على وشك أن تواجه واشنطن.

وفي ورقة بحثية، نشرها معهد السياسة الخارجية الفنلندي، الصادر بالإنجليزية، بعنوان “جائحة كوفيد 19 تهدد الانتخابات الأمريكية”، كشف أن هناك أسباب عديدة لدى الأمريكيين لعدم الثقة في نظامهم الانتخابي.

وأبرز الأسباب: منح الدستور للمسئولين الحكوميين والمحليين السلطة لإدارة الانتخابات، وهو الأمر الذي يحجم الرقابة الفيدرالية، ويمنح الفرصة الكبيرة للخطأ البشري وعدم الكفاءة.

كما تعاني المنظومة الانتخابية أيضًا من عدم وجود مسؤولين انتخابيين مستقلين وغير حزبيين، فعلى سبيل المثال، في انتخابات حاكم ولاية “جورجيا” عام 2018، كان برايان كيمب، كبير موظفي الانتخابات، المرشح الجمهوري لمنصب الحاكم، في مواجهة “ستايسي أبرامز” مرشحة الحزب الديمقراطي.

نسبة المشاركة المرتفعة من المتوقع أن تكون لصالح الديمقراطيين

إصلاح النظام الانتخابي

وساهم الصراع التاريخي بين الحزبي الديمقراطي والجمهوري في عرقلة جهود إصلاح النظام الانتخابي بالولايات المتحدة، فالجمهوريون يرغبون في قواعد وأنظمة أكثر صرامة للتعامل مع عمليات التلاعب المحتملة، بينما يُفضل الديمقراطيون قواعد ولوائح أكثر تساهلًا للتعامل مع القمع المحتمل دائمًا للناخبين، بحسب الورقة.

ويشير المعهد إلى أن أحد السيناريوهات المقلقة بشأن التصويت وسط الوباء، لاسيما أن ثلثي الأمريكيين قد لا يدلوا بأصواتهم بسبب كورونا، هو أن بعض السياسيين قد يحاولون الاستفادة من المخاطر الصحية الحقيقية لقمع إقبال الناخبين، في أماكن اقتراع مختارة بشكل استراتيجي على أمل تغيير نتيجة الانتخابات.

وبما أن نسبة المشاركة المرتفعة من المتوقع أن تكون لصالح الديمقراطيين؛ فإن الجمهوريين هم الذين قد يدُفعوا اللجوء إلى ذلك، فضلاً عن لعب التغطية الإعلامية دورًا بارز في المشهد الانتخابي والذي سيطر عليه أخبار كورونا بشكل أكبر.

وهناك خطر متزايد من أن تعتبر الانتخابات غير شرعية، أو يتم الطعن في النتائج أمام المحكمة، كما من المرجح أن يشكك “ترامب” في نتائج الانتخابات إذا جاءت في غير صالحه، خاصة في ضوء اعتراضه على آلية التصويت عن طريق البريد.

بالمقابل، يجزم البعض بأن الولايات المتحدة دولة مؤسسات اذ فان قبول ترامب من عدمه قد لا يؤثر، غير أن بإمكان وزير العدل ان يرفع الأمر للقضاء، فتصبح أمريكا إزاء أزمة دستورية لشهور حتى يحكم القضاء.

إذا رجحت الانتخابات كفة “بايدن” فمن المرجح أن تعود الولايات المتحدة إلى اتفاق باريس

2021.. أمريكا إلى أين؟

بينما يري المراقبين أنه حال فوز “ترامب” بولاية ثانية، فإن مستقبل السياسية الأمريكية سيشهد عدة تغيرات أكبر وأشرس، ومن المتوقع أن ينحسب “ترامب” من العديد من المنظمات العالمية، مع إمكانية إجراء جولة جديدة من الإجراءات ضد الصين، بجانب أوامر تنفيذية بشأن تصفية الاستثمارات، ناهيك عن المناورات الدبلوماسية.

لكن إذا رجحت الانتخابات كفة “بايدن”، الذي وعد باتباع سياسية الرئيس الامريكي الاسبق، فرانكين روزفلت، التي تسير على نهج الخطط الاقتصادية، فمن المرجح أن تعود الولايات المتحدة إلى اتفاق باريس ومبادرة البنية التحتية الخضراء، وغيرها.

ورغم تقدم “بايدن” على حساب ترامب في الاستطلاعات الرأي الحديثة، ألا أن أزمة “كورونا “تفرض حالة من عدم اليقين على المشهد الأمريكي والعالمي، وتجعل من الصعب توقع أو ترجيح هوية الرئيس الأمريكي القادم.

الشرق الأوسط بين “بايدن” وترامب”    

أما بالنسبة للسياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط في ضوء الانتخابات القادمة، فأن إخفاق واشنطن في الآونة الأخيرة في المنطقة قد يدفع بالرئيس الأمريكي المقبل إلى إدارة ظهره للمنطقة.

وسواء أسفرت الانتخابات الرئاسية عن فوز ترامب بفترة ثانية أو فترة أولى لـ بايدن، ستواجه الولايات المتحدة تحديات كبيرة تهدد مصالحها في المنطقة، ما يعني قضاء وقت أكثر في معالجتها؛ فهناك ضرورة لحماية بعض المصالح الأمريكية في المنطقة من بينها تدفق الطاقة، وأمن إسرائيل والدول الحليفة لها، وردع الإرهاب والأصولية، وضمان عدم هيمنة أي قوة إقليمية أو خارجية، بحسب ” ميكلبرغ”.

يرى الكاتب البريطاني، ديفيد جاردنر، أن احتمال خسارة ترامب الانتخابات الرئاسية المقبلة، يسرع في الشرق الأوسط “جميع أنواع الأعمال المميتة”، حيث يتسابق حلفاء ترامب على القيام بأشياء متهورة قد تفضل إدارة مستقبلية بقيادة الديمقراطي جو بايدن التراجع عنها، أبرزها ضم الضفة الغربية وتمكين ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، من عرش المملكة خلفًا لوالده، بحسب صحيفة “الفايننشال تايمز” البريطانية.

وسيحدث بالتأكيد، في حال أصبح “بايدن” رئيسًا، تغيير على مستوى التعاون مع الحلفاء، وتحول في اللغة، وتماسك أكثر في السياسات الأمريكية؛ ففي مجالين رئيسيين من المجالات التي تحظى باهتمام الولايات المتحدة وتثير قلقها، إيران والقضية الإسرائيلية الفلسطينية من المنطقي أن نتوقع تغييرا أوضح استنادا إلى خبرته في الحكم ونظرته الأوسع للعلاقات الدولية. وبحسب المراقبين، فلن يتبنى “بايدن” سياسة التدخل العسكري للولايات المتحدة في الشرق الأوسط مثل الرئيس السابق جورج دبليو بوش، كما أنه لن يبقي على سياسات ترامب “اللامبالية”.