يدفع الانهيار المتسارع للعملة السودانية السلطات المالية والنقدية، إلى تسريع وتيرة الخطط الموضوعة لإحداث إصلاحات هيكلية للاقتصاد على أن تنتهي منتصف العام المقبل، تمهيدًا للحصول على قرض مالي.

وأقر السودان محادثات مع صندوق النقد، أسفرت عن برنامج إصلاحي “غير ممول” لمدة عام ينتهي يونيو 2021 تمهيدًا للحصول على برنامج تمويل، ونفذت الخرطوم حتى الآن شقًا واحدًا يتعلق بتحرير سعر الوقود.

وارتفع سعر الدولار أمام الجنيه السوداني بمقدار النصف في السوق الموازية خلال أول أسبوعين من سبتمبر الحالي، ليسجل مستوى 260 جنيهًا سودانيًا، وهو أعلى مستوى في تاريخ البلاد منذ الاستقلال، ما سبب حالة شلل تام في سوق الاستيراد لعجز الشركات عن توفير العملة.

يفترض أن يحرر السودان سعر الصرف بشكل كامل بحلول شهر يونيو من العام المقبل، ضمن روشتة للصندوق تتضمن تعزيز الإيرادات العامة وإلغاء الدعم واستبداله بتحويلات عينية موجهة لفئات معينة.

وتكمن المشكلة الأخطر في انعكاسات أزمة الصرف على التضخم الذي بلغ مستوى قياسيًا عند 144% خلال شهر يوليو الماضي، والتي كانت قد أدت لارتفاع أسعار السلع الأساسية مثل الخبز والحبوب والزيوت، بجانب النقل الذي قفز بعد زيادة أسعار تذاكر المواصلات الداخلية.

أزمة الدولار

وساهمت السياسات الاقتصادية الأخيرة للحكومة السودانية في تفاقم أزمة الدولار، بعدما أجرت تعديلات على الموازنة تتضمن الاعتماد على الاقتراض الداخلي لمواجهة عجز الموازنة، ما يعني بمنتهي البساطة انخفاض القيمة الشرائية للعملة المحلية وارتفاع التضخم.

ومع الحديث عن تخفيض قيمة العملة، يلجأ كثير من أصحاب الودائع بالبنوك إلى سحب أموالهم أجل المضاربة بالسوق السوداء أو تحويلها لأي عملة أجنبية لحفظ قيمتها.

لم يلتفت المسئولون الماليون في السودان إلى أن خطتهم على الاعتماد على الاقتراض في تعديلات الموازنة محفوفة بالمخاطر، فالاقتراض الداخلي سيجعل البنوك تتجه للاستثمار بودائعها في الدين الحكومي، وتتخلى عن تمويل حركة الاستيراد أو الاستثمار ما سيسبب تفاقما للبطالة والتضخم.

خبراء الاقتصاد اعتبروا أن موازنة 2020 غير واقعية لأنها تعتمد على الخارج بنسبة 50% مع مبالغة في تقديرات الموازنة.

يُظهر كثير من السياسيين السودانيين المقربين من الحكومة تفضيلًا للحديث عن وجود مؤامرة من نظام عمر البشير، لإظهار الحكومة الجديدة في موقف العجز، وخلق حالة نوستالجيا للنظام السابق، مهما كان سيئًا.

إلا أن المعارضين مثل خبراء الاقتصاد بـ”حركة المستقبل للإصلاح والتنمية”، التي نظمت ندوة قبل أيام عن الموازنة الحالية، يرون أن التضخم يتجه إلى 180% مع ازدياد حالات الفقر وتردي الخدمات الأساسية، كما اعتبروا أن موازنة 2020 غير واقعية لأنها تعتمد على الخارج بنسبة 50% مع مبالغة في تقديرات الموازنة.

مشكلات متوارثة

وكثير من المشكلات الاقتصادية الحالية للسودان متوارثة من النظام السابق، وتحديدًا بعد انفصال الجنوب الذي يمتلك 73% من نفط السودان الموحد و36% من إيرادات موازنته، وعدم وضع خطط واضحة حينها لتعظيم موارد الاقتصاد المحلي، خاصة قطاعي الزراعة والإنتاج الحيواني.

بدأت مشكلات الجنيه السوداني منذ انفصال الجنوب، فالدولار الذي يعادل حاليًا 55 جنيهًا للشراء و55.27 جنيهًا للبيع بالقطاع المصرفي، كان لا يتعدى 3,42 للشراء و3,47 جنيه للبيع قبل سنوات، لكن على مدار تلك السنوات لم يتم اتخاذ قرارات لمواجهة التبعات وظل الاعتماد فقط على تصدير المواد الخام والبنوك في تمويل العجز.

وتتفاقم المشكلة في السودان في إحاطة البنك المركزي البيانات المتعلقة بالاحتياطي النقدي بسرية تامة، فلا يعرف حجمه باستثناء عدد الشهور التي يكفيها والتي لا تزيد عن شهرين فقط، لكن الوضع سيغير مع خضوع البنك للهيكلة بإشراف فريق من صندوق النقد الدولي قريبًا.

الدين العام

ويبلغ حجم الدين الخارجي للسودان نحو 62 مليار دولار بينها 1.3 مليار دولار لصندوق النقد، وحال مقارنته بالناتج المحلي الإجمالي تصل النسبة إلى 190% وهي نسبة شديدة الخطورة لدولة لا تصدر سوى الحاصلات الزراعية والماشية الحية.

واعتمد السودان خلال العام الماضي على الدعم الخارجي العربي بقيمة مليار دولار، موزعة بين 300 مليون دولار من قبل صندوق النقد العربي، و250 مليون دولار من صندوق النقد السعودي، و250 مليون دولار من البنك المركزي الإماراتي، و200 مليون دولار من صندوق التنمية الكويتي.

كورونا والموازنة

وتأثرت الموازنة السودانية بشدة بفيروس كورونا من ناحية توقف تحويلات العاملين بالخارج التي تمثل مصدرًا أساسيًا للبنوك السودانية بقيمة تتراوح بين 7 و8 مليارات دولار سنويًا، بجانب الفيضانات التي أتت على عدد غير قليل من الأبقار وبورت المحاصيل.

بدأ البنك المركزي، نهاية العام الماضي، تداول عملات جديدة تتضمن فئات 100 و200 و500 جنيه، لمحاصرة أزمة السيولة لكنها لم تسهم في حل الأزمة، أو تقليل العبء على القطاع المصرفي كما لم تجد رواجاً بين المواطنين الذين لا يستطيعون استخدامها في تعاملات اليومية.

هناك حلول سريعة وضعتها قوى الحرية والتغيير للمشكلات الاقتصادية، في مقدماتها ضبط النفقات غير الضرورية كتحرك 10 آلاف سيارة حكومية تستهلك الوقود في غير ساعات العمل الرسمية، ووقف السفر غير الضروري للخارج للمسئولين أو السياحة الخارجية.

كما تتضمن أيضًا تطوير وسائل قانونية لمنع تهريب الأموال للخارج واسترداد الأموال المهربة، وإخضاع الولاية الكاملة للجمارك لوزارة المالية بدلا من وزارة الداخلية، وإصلاح الجهاز المصرفي، بجانب إنشاء بورصة للذهب لتحديد أسعاره، حيث إن الكميات المهربة منه تصل إلى قرابة نصف طن يوميًا بسبب تدني سعره محليًا.