سنوات من القحط عاشتها المملكة العربية السعودية على عدد من المستويات الفنية، خاصة على مستوى السينما أو المسرح، أكثر من 30 عام عاشها نجوم المملكة لم يستطعن اعتلاء مسرح من مسارح المملكة بسبب الجماعات المتشددة، التي قامت إحداهما ذات مرة بالهجوم على المسرح أثناء عرض المسرحية وقاموا بالاعتداء على الممثلين وأوقفوا العرض المسرحي بالقوة، وعُرفت هذه الحادثة باسم “أحداث كلية اليمامة”.

خسر الكثير من نجوم الدراما السعودية إحساس الظهور أمام كاميرا السينما والمشاهدة على الشاشة الفضية، بعدما تم تحجيمهم في الدراما، في غياب تام لعالم السينما عن المملكة لسنوات طوال، ولكن حدثت المفاجأة التي قادها ولي عهد المملكة محمد بن سلمان منذ عامين، بفتح الأبواب المغلقة والتي تراكمت عليها أتربة الدهر أمام مواكبة العالم، وانطلاق الحداثة والتغيير خاصة في عالم السينما الذي لقي حتفه منذ ستينات القرن الماضي.

ليأتي قرار محمد بن سلمان بالإنفراجة التي تبعت الأزمة لسنوات، بزيادة الحياة الثقافية للمملكة، وإزاحة الستار عن الغبار الذي استوطن على العقول الثقافية، وكان هذا التطور خاصة على الجانب الفني، والتي من المتوقع أن يصل عدد دور عرض السينما به إلى 80 دار تضم نحو 700 شاشة بحلول السنوات القليلة المقبلة.

السينما السعودية خطوات لم تكتمل

بدأت السينما السعودية اتخاذ خطواتها مع ثلاثينات القرن الماضي، حيث كان أول من ادخل دار عرض سينمائية إلى المملكة هم الموظفين الغربيين في “شركة كاليفورنيا العربية للزيت القياسي”، التي تحول اسمها فيما بعد إلى “أرامكو”، ومع حلول عام 1950 تم إنتاج أول فيلم سعودي وهو “الذباب”، من بطولة حسن الغانم الذي يعتبر أول ممثل سينمائي سعودي.

ثاني التجارب السينمائية السعودية عام 1966، من خلال فيلم “تأنيب الضمير”، وفي عام 1975 قدم المخرج السعودي عبدالله المحيسن فيلم عن تطوير مدينة الرياض، وأعقبه عدد من الأفلام الأخرى التي دارت أحداثها حول المملكة العربية السعودية والتطور بها، ليكن آخر تلك الأفلام عام 1982 وهو “الإسلام جسر المستقبل”، لتتوقف المملكة عن إنتاج أي أعمال سينمائية حتى بداية العودة بحذر ومراقبة في عام 2006.

محاولات لم تحقق النجاح المطلوب

محاولات سينمائية طفيفة وصلت إلى 5 أعمال، حاول بها أبطال السعودية الوصول إلى بوابة السينما، على استحياء، بداية من تجربة “كيف الحال”، الذي انتشر كأول فيلم سعودي يجسده مجموعة من الشباب وأحدث صدى كبير ليتشجع المنتجين لتقديم عمل آخر وهو “مناحي” الذي قام ببطولته فايز المالكي ليواجه المنع من العرض في مهرجان جدة، من هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتي وصفه رئيسها بأنه “الشر المطلق”.

ومع هذا المنع والمواجهة لم ييأس القائمين على الفن من المحاولة مرة أخري، ولكن هذه المرة بامرأة وهي هيفاء المنصور أول مخرجة في المملكة العربية السعودية، والتي قدمت فيلم “وجدة”، وهو فيلم روائي قصير وتم عرضه في مهرجان البندقية، وحاز على صيت واسع في توقيت عرضه، كما تم إنتاج أول فيلم رسوم متحركة سعودي بتقنية 3D بعنوان “بلال” عام 2015، وتم عرضه في مهرجان دبي السينمائي الدولي، بعدها تم عرضه في صالات العرض التجارية، لتتوالى الأعمال السينمائية، بإنتاج فيلم “بركة يقابل بركة” عام 2016.

مخرجات في مواجهة النوع والنهي

من رحم الأزمة يولد الإبداع.. هذه هي العبارة التي تستحقها وبجدارة مخرجات المملكة اللاتي قررن أن يقفن في وجه الرفض والتطرف الفكري الذي ساد ليقدمن أفلام معبرة عما تعانيه المرأة السعودية بشكل خاص داخل المجتمع على مدار عقود، فظهرت على الساحة هيفاء المنصور وشهد أمين، وهند الفهّاد، وريم البيات، وعهد كامل، وسميرة عزيز ، واللاتي أذعن صوت المرأة السعودية في العديد من المهرجانات الدولية، فكانت الأولى هي أول مخرجة سعودية وشاركت بأول عمل لها “وجدة” عام 2012، في مهرجان فينيسيا، كما أنها شاركت في ذات المهرجان في عام 2019، بفيلم “المرشّحة المثالية” ولكن جاءت المشاركة في المسابقة الرسمية للمهرجان، وهذه هي المرة الأولى التي تشارك بها أحد أفلام المملكة.

شهد أمين

والمخرجة الثانية شهد أمين كانت من أكثر الحاصلات على شهرة في العالم بسبب مشاركات في مهرجانات عالمية حيث شاركت بفيلم ” سيدة البحر”، فقد اقتنص جائزة “فيرونا” عن فئة الفيلم الأكثر إبداعًا، كما فاز بجائزة التانيت البرونزي بمهرجان قرطاج. فكانت شهد أمين وهيفاء المصور جامعات بين التراث السعودي والرغبة في الحصول على الحرية.

الاقتصاد السعودي في انتظار التطور الفني

قال الرئيس التنفيذي للهيئة العامة للإعلام المرئي والمسموع في المملكة حينها، بدر الزهراني، في لقاء صحفي سابق، أن السينما السعودية ستكون واحدة من مصادر تنويع الدخل في قطاع الترفيه، حيث ستسهم في زيادة الناتج المحلي الإجمالي وكذلك زيادة الإنفاق على الترفيه المحلي.

كما قُدر من قِبل المهتمين بأن العمل في القطاع السينمائي سيحدث أثر اقتصادي يؤدي إلى زيادة حجم السوق الإعلامية، وتحفيز النمو والتنوّع الاقتصادي من خلال المساهمة بنحو أكثر من 24 مليار دولار إلى إجمالي الناتج المحلي، واستحداث أكثر من 30 ألف وظيفة دائمة، إضافة إلى أكثر من 130 ألف وظيفة مؤقتة بحلول عام 2030.

وفي اتجاه آخر، أقامت المملكة مهرجان البحر الأحمر السينمائي، في دورته الأولى بمارس الماضي لدعم الأفلام السعودية، وذلك في مدينة جدة، وتضمنت المسابقة 11 فيلماً في سينما السعودية الجديدة، و13 فيلماً في مسابقة الأفلام القصيرة، و23 فيلمًا في برنامج مخصص لأفضل إنتاجات العام، و17 فيلمًا تجريبيًا، ومشروع إنتاج خاص يضم خمسة أفلام قصيرة لمخرجات سعوديات.

السعودية إلى العالمية

في خطوة هي الأولى من نوعها، قررت منصة نتفيلكس العالمية عرض 6 أفلام سعودية قصيرة على منصتها خلال هذا العام، وهي أفلام “وسطي”، وهو حاصل على جائزة أفضل مخرج وأفضل فيلم أجنبي في مهرجان ويليامزبيرغ للأفلام المستقلّة في عام 2017. و”سومياتي بتدخل النار؟”، و” من كآبة المنظر” و”الجرذي” و”ستارة”.

كما أن الأفلام السعودية خلال العامين الأخرين شاركت في عدد من المهرجانات العالمية التي أذاعت صيتها وأعلنت عن وجود ثقافة فنية كبيرة تحملها العقول الثقافي السعودية، لنجد أنه عام 2018، شاركت 9 أفلام سعودية في مهرجان كان، وهما “لا تروح بعيد”، “القط”، “الكيف” ،”كبش فداء”، “تعايش”، “الظلام هو لون أيضًا”،”وسطي”،”سومياتي بتدخل النار”، “المدرسة الموسيقية”.

كما شارك فيلم “وجدة” للمخرجة السعودية هيفاء المنصور، في مهرجان لندن السينمائي، كما حصل الفيلم على ثلاث جوائز عالمية خلال مهرجان البندقية السينمائي رقم 69، كما أنه كان ضمن الترشيحات الأولية لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم بلغة أجنبية لعام 2013، ليصبح بذلك أولَ فيلم سعودي يصل إلى هذه المرحلة.

وهناك أيضًا فيلم “بركة يقابل بركة” الذي رُشِّح للمنافسة على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي، كما حصل فيلم “سيدة البحر” على جوائز عدة كما كان ذكره في السابق.

طفرة تاريخية

وقال الناقد عصام زكريا، أن المملكة تشهد طفرة تاريخية في عالم السينما حاليًا، خاصة أن ما يحدث بدعم من القائمين على الحكم، والذي من المتوقع أن يزداد خلال الفترات القادمة.

وأضاف أن مردود الاهتمام بالسينما لن يتوقف على انتعاش الحالة الفنية فقط، ولكن سيكون له مردود ثقافي هائل وتغيير لنظرة العالم تجاه المملكة خاصة مع بداية تصوير أفلام هناك، وكان أول هذه الأعمال هو “إلا أنا” للنجم تامر حسني وسيكون لهذا مردود كبير.

وفي اتجاه آخر قال الناقد طارق الشناوي، أن الانفتاح الفني في السعودية حاليًا، سيكون مردوده كبير على السعودية بالسينما والموسيقى وليس على المستوى السنيمائي فقط، موضحًا أن دعم صناعة السينما في السعودية سينعكس بشكل إيجابي على واقع صناعة السينما الخليجية والعربية بشكل عام، ويرجع ذلك إلى أن ما تم فرضه من قيود في الماضي على الدراما السعودية كان ينعكس على مجمل الإنتاج العربي، بسبب مشكلات التسويق للسعودية وهو ما سيتم تجاوزه حاليًا. وأضاف أن ما تم عرضه من أعمال سينمائية سعودية يدل أن القادم من الأفلام سيتميز بالجرأة وطرح أفكار نابعة من المجتمع السعودي وما تم التعرض له خلال السنوات الماضية وهو ما سيقابل بحفاوة كبيرة.