حالة من القلق تسود داخل الأراضي الليبية، بالتزامن مع المدّ السلفي، الذي تشهده البلاد منذ 2011، والذي بات يستغل حالة عدم الاستقرار، وخفوت نجم جماعة الإخوان، لفرض سيطرته ونشر أفكاره، ومن ثم الوصول للحكم.
وتعتبر السلفية المدخلية، هي المتحكم الحالي في الخطاب الديني داخل ليبيا، وخلال الفترة الماضية زادت سلطتها، وبدأت أفكارها تتغلغل داخل المجتمع الليبي، بعد الاعتماد على استخدام القوة في نشرها، وجذب أتباع بصورة مستمرة يؤيدون هذا التوجه.
ورغم ما يعانيه المجتمع الليبي من صراعات بسبب الجماعات الإرهابية والمليشيات المسلحة على أراضيه، إلا أن السلفية المدخلية باتت أزمة جديدة يواجهها الليبيون.
السلفية الليبية
ظهر التيار السلفي في ليبيا، قبل أعوام قليلة من الثورة الليبية، بعد أن فتح الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي الأبواب أمام أنصار السلفية المدخلية، ليمهدوا الطريق لملف توريث الحكم في ليبيا، في ظل سيطرة تامة من القذافي على الوضع الليبي، ورفض وجود حياة سياسية بالمعنى المعروف، واعتماد “الكتاب الأخضر” كدستور للبلاد.
ووجد القذافي ضالته في أنصار السلفية المدخلة، والتي تتبنى أفكار رافضة للخروج عن الحاكم، وداعية لطاعته وتنفيذ أوامره، إذ استخدمهم لمواجهة التيارات الإسلامية الأخرى، والتي كانت السجون الليبية تعج بها.
ورغم أن أنصار السلفية المدخلية ولائهم للسلفي السعودي ربيع المدخلي، إلا أن القذافي فتح لهم الأبواب على مصرعيها، بل واستدعى أئمة التيار السلفي بالسعودية ومصر للقدوم إلى ليبيا، في إعادة تأهيله للتيار السلفي لمواجهة المد الإخواني وثورة الجماعات الإسلامية الأخرى ضد نظام القذافي، ومساعي التوريث.
من خلال الساعدي القذافي، نجل الرئيس الليبي، تغولت السلفية المدخلية داخل ليبيا، وأصبحت تسيطر على الخطاب الديني والدعوى والاجتماعي أيضًا، كما استخدمت رجال الدين لتطويع المجتمع للحاكم، في بداية الألفية الجديدة، بعد إخضاع كافة المؤسسات لها، وتسهيل كل العقبات لنشرها للفكر السلفي المدخلي داخل المجتمع الليبي
مع قيام الثورة ضد معمر القذافي عام 2011، بدأ في استخدام السلفية المدخلية لمواجهة التمرد ضده، وانشترت فتاوى المدخلية التي تحرم الخروج على الحاكم، منهم الشيخ مجدي حفالة، الذي أفتى بتحريم الخروج عن القذافي باعتباره ولي أمر ووجب طاعته، ودعى بضرورة المكوث بالمنزل وعدم الانصياع للفتنة، وهي الفتوى التي تبرأ منها فيما بعد، أيضًا الشيخ المدخلي محمد الأنقر، الذي هاجم دعوى الشيخ صادق الغرياني، الذي أيد الخروج على القذافي، واصفًا إياه بـ”الإخواني المٌفلس”.
مع سقوط حكم الإخوان، تمدد أنصار السلفية المدخلية بصورة أكبر في المجتمع الليبي، واستطاعوا فرض نفوذهم وأفكارهم، خاصة مع سيطرتهم الكاملة على الخطاب الديني في ليبيا منذ عهد القذافي.
وبدأ أنصار السلفية المدخلية في استخدام القوة ضد معارضيهم، وكان على رأسهم أنصار الفكر الصوفي، إذ هدموا الأضرحة الصوفية، منها: مسجد سيدي الشعاب الدهماني، وضريحي الشيخين عبد السلام الأسمر، وأحمد الزروق، كما أضرموا النيران في مكتبة مسجد في مدينة زليتن، ليس هذا فحسب، كما استهدفت السلفية المدخلية المنتمين للتيار الثوري، والجماعات الإسلامية الأخرى في ليبيا.
أماكن انتشار السلفية في ليبيا
استطاعت السلفية المدخلية، التغلغل داخل قوات الأمن المسلحة، وباتت جزءًا من الجيش الليبي بقيادة اللواء خليفة حفتر، بعد فتوى أطلقها الأب الروحي لهم “ربيع المدخلي”، وتأكيده لهم على دعم اللواء حفتر، ومحاربة الإخوان باعتبارهم خطر على الإسلام، وهو ما حدث من خلال بعض الكتائب التي شكلها السلفيون المداخلة، التي شاركت جميعها ضمن صفوف الجيش الليبي، بقيادة حفتر.
ففي منطقة الشرق، تنشط السلفية المدخلية بقوة، وتعد كتيبة التوحيد السلفية الشهيرة بكتيبة “الميار” نسبة إلى أشرف الميار المسؤول عنها، من أقوى الكتائب السلفية في شرق ليبيا، وتتجه فتواها دائمًا ضد المعارضين للواء حفتر، وتعتبرهم خوارج العصر، وتدعو لقتالهم، ومن أشهر الشخصيات التابعة لمدخلية الشرق محمود الورفلي، الذي يعد من أشرس الشخصيات السلفية، والذي اشتهر باستخدام القوة ضد أعدائه.
وفى جنوب رق البلاد تعتبر كتيبة “سبل السلام”، هي العاكس للسلفية المدخلية، ويشرف عليها عبد الرحمن الكيلاني، وتعتمد على مواجهة القادمين إلى ليبيا من الجنوب، مثل: التشاديين، كما تعمل على نشر الفكر السلفي المدخلي بين الأهالي، ومواجهة التيارات الإسلامية المناهضة للسلفية المدخلية.
أما في طرابلس تنتشر كتائب حركة ردع، والتي تعد أقوى الحركات المدخلية تسليحًا وقوة، ورغم أن جميع فصائل السلفية المدخلية فى ليبيا أعلنت الدعم لقوات حفتر، إلا أن كتائب ردع لم تعلن ذلك، ما جعل البعض يحسبها على حكومة فايز السراج، المعترف بها دوليًا، وهو ما يعد تناقض لافت للنظر، فيما تشهد نفس المنطقة انتشارًا واسعًا لرجال الدين التابعين للسلفية المدخلية، ممن يقودون الحراك الديني لدعم اللواء حفتر، في تلك المنطقة، التي تعتبر مركز النفوذ الحقيقي للسلفية المدخلية.
توسيع النفوذ واختراق الهوية الليبية
لم تكتف السلفية المدخلية بمد أذرعها داخل السلطة السياسية، وإنما فرضت أحكامها داخل الحياة الاجتماعية، وتوسعت بشكل كبير ما جعلها صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة في إصدار الأحكام .
في البداية استخدمت السلفية المدخلية القوة في فرض أفكارها من خلال صراعها مع التيار الصوفي، الذي تعرض للعديد من المضايقات، منها هدم الأضرحة الصوفية، وتكفير الصوفيين واعتبارهم خوارج، ومنعم من إقامة الطقوس الخاصة بهم.
ليس هذا فحسب، بل استخدمت عناصر السلفية المدخلية القوة في مواجهة أي أفكار تنويرية، ومنها ما قامت به في 2017، عندما صادرت شحنة من الكتب الأدبية لعدد من الكتاب منهم: نجيب محفوظ، ونيتشة، وباولو كويلو.
وفي نفس العام منع الجيش الوطني الليبي سفر النساء دون سنّ الـ60 عامًا دون محرم، ما تم تفسيره بأنه ضغط من عناصر السلفية المنضمة للجيش الليبي، في عام 2018، هاجمت قوات “الردع” مهرجان كوميك كون في طرابلس واعتقلت منظميه
اختراق المجتمع دينيًا، كان أسهل ما نفذته السلفية المدخلية للتغلغل بالمجتمع الليبي، إذ افتتحت عددًا كبيرًا من المساجد، كما استولت على معظم المساجد الموجودة في طرابلس، وعدد من المدن الليبية، وسيطرت على الخطاب الديني بالكامل، كذلك افتتحت عددًا من المكتبات لنشر كتب شيوخها، مثل: مكتبة مالك، والرشد، والهداية، كما افتتحت مراكز تربوية، وتحفيظ قرآن، لضمان خروج أجيال متشبعة بالأفكار السلفية المدخلية.
المدراس كانت أهم أهداف السلفية المدخلية، إذ افتتحت أكثر من 20 مدرسة، تردد أن تمويلها سعودي، تمتد لعديد من المدن الليبية ولكن تبقى لطرابلس نصيب الأسد، حيث يوجد بها 5 مدارس تابعة للسلفية المدخلية، وتدرس تلك المدارس مناهج ذات طابع سلفي.
مؤخرًا بدأ عناصر السلفية المدخلية يتبعون منهج جديد في فرض أفكارهم، من خلال شن حملات ضد المعارضين لهم، أو الممارسات التي تتعارض مع أفكارهم، مثل حملات القبض على السحرة والمشعوذين، وإدعاء انتشارهم في ليبيا، وهو الأمر الذي أثار المخاوف، من استخدام تلك الحجة للقضاء على المعارضين للفكر المدخلي.
وأكثر من أثار الجدل، هو دعوات تطبيق حد الموت على السحرة والمشعوذين، ما اعتبره البعض استخدام أسلوب القتل ضد من ينتهج أفكار غير سلفية مع نشر الأفكار الظلامية، مثل: إدعاء وجود سحر وشعوذة، ووجوب محاربتهم.
شبح أفغانستان يطارد ليبيا
بات شبح تجربة طالبان في أفغانستان تثير مخاوف القطاع الليبي من تكرارها على الأراضي الليبية، الأمر الذي أكده الباحث في شئون الجماعات الإسلامية، ياسر فراويلة، قائلاً: “السلفيون هم من يحتل المشهد في ليبيا، من الألف للياء مثل السلفية المدخلية التي تسيطر على أماكن عدة، مثل: طرابلس، أو السلفية الجهادية التي تسيطر على الغرب “.
وقال “فراويلة”، إنه من غير المستبعد حدوث اقتتال سلفي- سلفي بين الجهاديين والمدخلية، خاصة وأن الإخوان في ليبيا يعانون من التمزق، والجماعات الإسلامية الأخرى تشهد هجمات من الجيش الوطني الليبي، هذا بخلاف وجود محاولات لاستغلال التيار السلفي باعتباره صاحب نفوذ على الأراضي الليبية، وهو ما فعلته تركيا، من تدريب للعناصر السلفية ومحاولة استمالتها للتعاون من تركيا، فيما يخشى الليبين من تحويل بلادهم لأفغانستان ثانية، تسود فيها أحكام التشدّد والاقتتال، والحروب الأيدولوجية بين التيارات الدينية المختلفة.