عندما تنازل ابن شقيق صلاح الدين عن القدس ليحتفظ بدمياط

لا تدع عنوان المقال يخدعك، فليس الهدف منه التقليل من شأن دمياط، فدمياط في ذلك الوقت كانت من الأهمية بمكان بحيث أن الاستيلاء عليها يفتح الباب للاستيلاء على القاهرة نفسها، لكن للأسف نحن لا ندرس الحملة الصليبية الخامسة بشكل جيد على الرغم من أهميتها وخطورتها على مصر تحديدًا، فقط نكتفي بفيلم الناصر صلاح الدين للمخرج يوسف شاهين وبالقول إنه حرر القدس، على الرغم من أن القدس احتلت بعد صلاح الدين ثلاث مرات حسب ما وصلني، وحررت ثلاث مرات، لكن لسبب ما لا يعلن أبدًا ولكني أعرفه لا نسمع عن تحرير القدس على يد الناصر داود ولا الصالح أيوب ولا الظاهر بيبرس الذي حررها التحرير النهائي، يمكن بيبرس بس اللي اتعمل له سيرة شعبية تنصفه مع أنه قتل قطز صاحبه علشان العرش، فكل الضوء مسلط على صلاح الدين لأسباب تتعلق بشرعنة الحكم العسكري وشرعنة التحول القسري للمصريين من المذهب الفاطمي للمذهب السني.

في هذه الجولة من الحروب الصليبية 1213 الى 1221 ميلادية كانت دمياط هي هدف الحملة، في وقت كدس فيه فرسان المعبد الثروات في جزيرة قبرص وأصبحوا قوة عسكرية وتجارية كبيرة، كانت أعينهم على نهر النيل كمجرى ملاحي هام يجب السيطرة عليه من أجل التجارة، وساعة لربك وساعة لتجارتك، وتصادفت هذه الرغبة مع هوى في أوروبا يرغب في السيطرة على القاهرة، قلب المقاومة لهم في الشام، وهي فكرة البابا أنوسنت الثالث، والتي أصدر من أجلها قرارات كثيرة سياسية ودينية ليحفز الأمراء على المشاركة، عفو ديني وإعفاءات ضريبية وإعلان أن من شارك بالمال والتجهيز كمن شارك بنفسه، لكن تظل هذه جبهة جديدة عليهم تمامًا، فالدلتا أحراش ومستنقعات ومزارع وكثافة بشرية، بعكس الصحراء التي طالما حاربوا الأيوبيين فيها.

انضم الملك أندرو الثاني ملك المجر للحملة، وليوبولد السادس دوق النمسا، وفريدريك الثاني إمبراطور ألمانيا التي كانت تسمى وقتها الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وويليام الأول كونت هولندا، وملك عكا الصليبي جون أوف بريان وكان وقتها في قبرص.

كانت دمياط مدينة محصنة بالأسوار القوية، وببرج في جزيرة في البحر أمام أسوار المدينة يرتبط بها بجسر من المراكب يسمى برج السلسلة، لأنه كان يتميز بسلسلة حديدية ضخمة تسد مدخل نهر النيل ومدخل الميناء، تمتد من هذا البرج إلى المدينة، ولا يستطيع الصليبيون حصار المدينة دون تخطي تلك السلسلة التي بإمكانها تمزيق أقوى مراكبهم الحربية، ودمياط مدينة تحتاج إلى الحصار بالبحر والبر، لكن دوق النمسا بمعاونة الفرسان الهوسبيتاليين  ورجل الدين والمحارب الصليبي أوليفر فون بادربورن الذي كان بارعًا في الهندسة، استطاع بناء برج خشبي على سفينتين، ومد منه السلالم إلى برج الحصار لاقتحامه، بينما كان يقصف أسوار دمياط بالمنجنيق، وبرغم مقاومة باسلة من المصريين نجحوا بالفعل في السيطرة على البرج ورفعوا علم القديس جورج عليه، ومن هنا بدأ حصار مدينة دمياط.

في هذه الأثناء مات الملك العادل في سوريا، وهو شقيق صلاح الدين الأيوبي، واشتعل الصراع بين أبنائه وأبناء صلاح الدين، لكن الحكم في النهاية وصل إلى الملك الكامل ناصر الدين أبو المعالي محمد، ابنه، بينما أرسل البابا هونوريوس في روما، وهو خليفة أنوسنت الثالث الذي توفي قبل الحملة، أرسل مندوبه الكاردينال البرتغالي بيلاجيو جالفاني ليشرف على الحملة الصليبية، وسط عدم ارتياح الأمراء الصليبيين لتعارض ذلك مع مصالحهم كما سنرى.

فماذا فعل الكامل بمجرد وصوله للحكم؟ عرض على الصليبيين تسليمهم القدس مقابل تركهم دمياط!، بل وبناء تحصيناتها المتهالكة لهم!، وعلى الجانب الآخر لم يكن للصليبيين رغبة حقيقية في استرداد القدس التي كانت في ذلك الوقت شبه مهجورة وتحصيناتها منهارة ويسهل استردادها مرة أخرى، فيما عدا الملك جون أوف بريان ملك عكا والقدس، كما كانت أعين الأمراء الصليبيين على مكاسب أخرى ومدن أخرى وأراض أكثر خصوبة، حتى أن مندوب البابا بيلاجيو جالفاني نفسه رفض العرض وطالب بقلعة الكرك وقلاع شرق نهر الأردن وهو ما رفضه الكامل، وأعلن جالفاني أن فتح مصر هو الضمان لاسترداد حقيقي للقدس، وأن ترك دمياط للمسلمين سيجعلها قلعة حصينة أكثر مما هي عليه الآن، وهو الأمر الذي أغضب بعض الأمراء الصليبيين الذين كانوا يظنون أن القدس هي أهم شيء، مثل ويليام كونت هولندا الذي انسحب بفرسانه احتجاجًا عائدًا إلى بلاده.

أدى حصار دمياط الشديد إلى انسحاب قوات الكامل منها وتحصنهم بطلخا قرب مدينة المنصورة من أجل الدفاع عن القاهرة، وهنا تتضارب الأقوال حول استراتيجية الكامل، هل كان جاهلًا غير كفؤ؟ أم كان يعلم أن حر الصيف وفيضان النهر سيكون في صالحه لا في صالح الصليبيين غير المعتادين على تلك الظروف؟، ظل الصليبيون في دمياط حوالي سنة ونصف، في تلك الأثناء تم تتويج فريدريك الثاني إمبراطورًا على ألمانيا أو الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وكان يُتهم بالعلمانية، وعلى خلاف مع البابا، وقرر المشاركة في الحملة بإرسال لويس الأول دوق بافاريا على رأس جيش ألماني، وصل لويس دمياط ليجد حالة من التراخي بين الجنود، لكن كانت أوامره ألا يتحرك نحو القاهرة إلا عندما يصل الإمبراطور فريدريك بنفسه.

إلا أن الكاردينال بيلاجيو في يوليو 1221 قرر بالفعل الزحف جنوبًا نحو المنصورة واضطر لويس للزحف معه، وكان قوام هذا الجيش نصف قوات الحملة الصليبية في دمياط، ولم يكن الجو في صالحهم، فقد كان الصيف وموعد فيضان النهر، وبرغم تحذيرات بعض الأمراء إلا أن مندوب البابا رفض إلا أن ينفذ رغبة البابا في الزحف نحو القاهرة.

أنهك الزحف صيفًا الجنود وأدى إلى خسائر كبيرة بسبب الجو أكثر مما تسببت به المواجهات مع جنود الكامل في فارسكور والمنزلة، وارتفع النهر فعلًا في أغسطس وقطع طريق الإمدادات بالأوحال، فقرروا الانسحاب إلى دمياط، وهنا حاصرهم الجنود المصريون، وسقط الجميع أسرى، القادة أُخذوا مقابل فدية والجنود أُخذوا للعمل بالسخرة، وأصبح موقف البابا محرجًا للغاية، فهو من ورط الجيوش في أوحال الدلتا، وهنا قرروا تغيير القيادة ليتولاها محاربون مخضرمون للهرب من الحصار المصري، وبالفعل تولى الملك جون ملك بيت المقدس القيادة هو وفرسان المعبد واستطاعوا الإفلات من حصار المصريين والتوجه إلى دمياط، ليفاجئوا في الطريق بقوات قادمة من سوريا تعترض طريقهم، قوات الأشرف موسى أخو الملك الكامل، بعد أن تصالحا.

كان بإمكان الملك الكامل هنا القضاء تمامًا على الجيش الصليبي في المنصورة، وهو ما أراده إخوته، لكن كانت دمياط ستظل تحت يد الصليبيين، وستمدها أوروبا بالمزيد من الجنود المحاربين، فقد كان الكامل يعلم بوصول فريدريك الثاني وجيشه، كما كان وجود الجيش السوري لإخوته على أرض مصر يقلقه، إلى جانب مشاكل في البلاط في القاهرة نفسها، وهنا ومن منطلق قوة، فرض الكامل شروطه، انسحاب الصليبيين من المعركة، انسحاب كامل من دمياط، إخلاء سبيل الأسرى المسلمين، دفع فدية الأسرى الصليبيين، وسلام لمدة 8 سنوات كاملة.

ولم يكن للصليبيين خيار آخر، إما القبول أو الموت محاصرين في قيظ الصيف في مصر، فقبل بيلاجيو وجون ما عرضه الكامل واعتبروا أنفسهم محظوظين أن رجالهم لم يقتلوا، ورغم وصول فريدريك الثاني إلى دمياط مع قواته الألمانية، إلا أن وصوله لم يغني عن الصليبيين شيئًا، زي ما جه زي ما رجع، فقد فشلت الحملة الصليبية الخامسة فشلاً ذريعًا وانتصر الكامل، ولام البابا فريدريك الثاني على تأخره في المشاركة في الحملة ولام فريدريك الثاني البابا على تسرعه بالزحف نحو القاهرة دون انتظاره، وأصبح بيلاجيو أضحوكة أوروبا كلها، ولم يسلم الملك الكامل من النقد أيضًا حتى يومنا هذا لعدم قضائه على الجيش الصليبي قضاءً حاسمًا.

عاد الكامل والمعظم عيسى أخوه للنزاع بعد الحملة الصليبية الخامسة، فتحالف عيسى مع سلطان خوارزم جلال الدين بن خوارزم شاه، وتحالف الكامل مع فريدريك الثاني، وهنا يختلف المؤرخون العرب عن الغربيين، فالعرب يزعمون أن الكامل هو من سعى لهذا الحلف، بينما يقول المؤرخون الغربيون بالعكس، وأن الكامل كان يخشى من تحالف فريديرك مع أخيه.

ومن المهم هنا أن نذكر أن فريدريك الثاني كان شخصية هامة جدًا تاريخيًا، فقد كان ربيب البابا أنوسنت الثالث وابن وريثة عرش صقلية وتربى هناك على الحضارة الإسلامية، وكان يتكلم ستة لغات منها العربية، بل أنه ألف كتابًا عن الصيد العربي بالصقور، وكان يوظف عربًا في خدمته في صقلية، وربطته صداقة بمبعوث الكامل الأمير فخر الدين يوسف حتى أنه ظل في بلاطه ودارت بينهما الكثير من المناقشات عن الدين والفلسفة والعلم سجلتها الكتب، ويعتبر من أكثر شخصيات الحروب الصليبية تفهمًا للحضارة الإسلامية حتى أن بعض المؤرخين العرب يمدحونه ويثنون عليه.

ويختلف المؤرخون الغربيون حول فريدريك، إن كان رجلًا علمانيًا تمامًا وعبقريًا في الدبلوماسية، أم أنه كان مسيحيًا متدينًا حريصًا على القيام بواجبات دينه كما يقول كريستوفر تايرمان في كتابه حرب الله ولكنه لم يكن يرضخ لبلطجة الكنيسة أو ابتزازها.

وعن طريق الأمير فخر الدين، عرض الكامل على فريدريك القدس مرة أخرى مقابل مساعدته ضد أخيه، حسب المؤرخين العرب، ومن أجل ألا يهاجم مصر حسب المؤرخين الغربيين، مش عارف هو كان عاوز يخلص من القدس مضايقاه تقريبًا، لكن فريدريك كان دائمًا تحت ضغط من البابا هونوريوس، وحتى عندما مات هونوريوس وتولى البابوية جريجوري التاسع استمر الضغط حتى أن جريجوري هدد فريدريك بالحرمان الكنسي إن لم يقم بواجبه في حملة صليبية جديدة، وهو نفس تهديد هونوريوس إلا أنه نفذه هذه المرة.

وفي الحقيقة جريجوري كان قلقا من فكرة أن ألمانيا وصقلية إمبراطورية واحدة شماله وجنوبه مما يهدد نفوذه، فكما قلنا فريدريك هو أيضًا ملك صقلية وريثًا لأمه، وكان جريجوري حريصًا على عدم استقرار إمبراطورية فريدريك.

فريدريك الثاني لم يكذب خبرًا وقرر القيام بالحملة الصليبية السادسة، 600 محارب فقط وكأنه خارج في نزهة، ماهو ضامن بقى، وده حسب المؤرخين العرب، لكن بوصوله علم أن المعظم عيسى قد توفي واستقرت الأمور في البلاط الأيوبي، لكنه لم ييأس، وطالب الكامل بالوفاء بعهده، وهنا يختلف المؤرخون الغربيون عن العرب، فهم يقولون إن الكامل كان يحاصر دمشق في ذلك الوقت، وإنه كان سيطرد فريدريك إذا سقطت دمشق في قبضته، لأنه كان يخشى من أسطول فريدريك الذي يشكل تهديدًا على مصر مرة أخرى ولم ينسى ما حدث في دمياط.

الحقيقة أن تضارب الأحداث بين المؤرخين العرب والغربيين في هذه النقطة مزعج جدًا، وإن كنت أميل للمؤرخين الغربيين هنا بسبب واقعية ما كتبوه، بينما غلب على العرب العاطفية والمبالغة والهوى في ذم وشيطنة الكامل، ومن الرواية الغربية فقد قرر فريدريك الاستيلاء على القدس قبل سقوط دمشق، فتحصن في يافا ليهاجم منها القدس، وانضم إليه فرسان المعبد والهوسبيتاليين بعد أن كانوا يقاطعونه تنفيذًا لأوامر البابا بمقاطعته، بل وخاطروا بالحرمان الكنسي بمعاونة فريدريك من أجل استرداد القدس، وهنا أحس الكامل بالخطر، فعرض على فريدريك تسليم القدس وبيت لحم والناصرة، وهدنة 10 أعوام، فهو مهتم أكثر بدمشق وملك أخوته في سوريا.

وبالفعل سلم الكامل القدس في معاهدة يافا 18 فبراير 1229، ودخل فريدريك القدس ملكًا في 17 مارس 1229، وكانت هذه أغرب وأنجح الحملات الصليبية التي لم ترق فيها قطرة دماء واحدة من أي من الطرفين، وبرغم أن جريجوري التاسع قد وقع عليه الحرمان الكنسي بالفعل، إلا أن فريدريك استرد القدس للكنيسة وأنجح الحملة السادسة مما أشعر البابا بالحرج.

ويشهد المؤرخون المسلمون والغربيون على معاملة فريدريك الثاني الحسنة للمسلمين ومنعه التعدي على قبة الصخرة والمسجد الأقصى والسماح للمسلمين بزيارتهم وحرية التنقل، وإعادته ممتلكات المسلمين إليهم، وفريدريك يحمل لقب ملك القدس أصلًا قبل دخولها لأنه تزوج من ابنة ملك القدس الملك جون أوف بريان، وظل الكامل وفريدريك صديقين واستمرت الصداقة مع الصالح نجم الدين أيوب ابن الكامل أيضًا حتى أنه يقال إنه حذر الصالح أيوب من نوايا الصليبيين ضده.

ويصف المقريزي ما حدث بعد تسليم الكامل للقدس بقوله: ” فاشتد البكاء وعظم الصراخ والعويل، وحضر الأئمة والمؤذنون من القدس إلى مخيم الكامل، وأذّنوا على بابه في غير وقت الأذان.. واشتد الإنكار على الملك الكامل، وكثرت الشفاعات عليه في سائر الأقطار”، وظل القدس محتلًا 15 عامًا أخرى حتى حرره الخوارزميون في 11 يوليو 1244.

والخلاصة هنا في النهاية أن الأمر الواضح بالبلدي هو أن المصالح لما تتصالح ما تعرفش مين الصالح، فلا هي حروب دينية ولا فيها من التقوى والشرف شيء، كل يغني على ليلاه، أو على كرسيه، سواء الطرف المسيحي أو المسلم، حتى أن القدس في مرحلة ما كما ذكرنا لم تكن تهم لا المسلمين ولا المسيحيين، كان الأهم لديهم العروش والثروات والضياع وطرق التجارة والثروة، الكامل يريد عرش مصر وسوريا له ولأولاده، والبابا يريد التخلص من نفوذ فريدريك في أوروبا، وفريدريك يريد أن يتخلص من تدخل البابا في سياساته العلمانية.

مصادر ومراجع:

 

God’s War: A New History of the Crusades – Christopher Tyerman

Frederick II: A Medieval Emperor – David Abulafia

The Fifth Crusade – Mark Butler

Just Tell Me the TRUTH About the Crusades – Nick Garrett

Freemasons Inside the World’s Oldest Secret Society – H. Paul Jeffers

Medieval Warfare in Societies Around the Mediterranean

Frederick II: A Bridge Between East and West (video)

الكامل في التاريخ – ابن الاثير

السلوك لمعرفة دول الملوك – المقريزي

مفرج الكروب في اخبار بني أيوب – الحموي

بحوث ودراسات في تاريخ العصور الوسطى – سعيد عبد الفتاح عاشور

الحركة الصليبية – سعيد عبد الفتاح عاشور

ماهية الحروب الصليبية – قاسم عبده قاسم

الأيوبيون – السيد الباز العريني