منذ إعلانها الاستقلال نهائيًا عن الصومال في 1991، كانت صوماليلاند محط أنظار قوى إقليمية، عربية وإفريقية على السواء، رغم عدم حصولها حتى الآن على الاعتراف الدولي.
وساهمت تجربة الانفصال بالاعتماد الكلي على المبادرات المحلية، بعيدًا عن أي تدخلات أجنبية في بناء المؤسسات وتداول السلطة من خلال انتخابات حرة دون انتظار القروض أو المنح الدولية، فضلاً عن القدرة على فرض الأمن والاستقرار وتجاوز الحرب الأهلية وتجنب التطرف والإرهاب، في جذب الاستثمارات وتدافع القوى الإقليمية في الشرق الأوسط وشرق إفريقيا، على الإقليم الواقع على حافة القرن الإفريقي.
اهتمام إقليمي
على مدار الأشهر الماضية، كان لصوماليلاند دور في التجاذبات على صعيد الملفات المشتعلة، سواء في إفريقيا مثل ملف سد النهضة، أو حتى الدخول على خط الأزمة بين الصين وتايوان بإقامة علاقات دبلوماسية رسمية مع الأخيرة رغم اعتراض بكين.
دخول صوماليلاند والتي تُعرف أيضًا بـ “أرض الصومال”، على خط أزمة سد النهضة، بدأ مع إعلان نيتها الدخول كوسيط في المفاوضات، وهو ما كشفت عنه إثيوبيا على لسان المتحدث باسم وزارة خارجيتها، دينا مفتي.
“مفتي” أعرب عن قلق أديس أبابا من تقارب مصر مع صوماليلاند، ونية القاهرة إقامة قاعدة عسكرية في الإقليم، وهو ما اعتبره خطًا أحمر وتهديدًا مباشرًا للأمن القومي لبلاده.
وكشفت مصادر دبلوماسية عن عدة زيارات رسمية من القاهرة إلى هرجيسا عاصمة أرض الصومال خلال الأشهر الماضية، من أجل دعم العلاقات الثنائية وفتح مكتب اتصال أو قنصلية مصرية، بينما يمكن لمصر البناء على عدد من الجهود الذاتية لمصريين مقيمين هناك ويديرون مواقع وخدمات حيوية في الإقليم بشكل خاص في القطاع الطبي والبيطري.
ومنذ مجيء آبي أحمد رئيسًا لوزراء إثيوبيا في 2018، كانت صوماليلاند محور اهتمام إدارته في إطار سياساته لحل مشاكل أديس أبابا مع جيرانها بداية من إريتريا والصومال، فضلاً عن محاولاته تقوية العلاقات مع الدول التي تتمتع بالموانئ لفتح أفاق أمام دولته الحبيسة، وهو ما يفسر محاولاته الدخول في شراكة مع موانئ بربرة في صوماليلاند وعصب في إريتريا.
الاهتمام الإقليمي بصوماليلاند برزت فيه كينيا أيضًا، مع المشاكل المتراكمة والتصعيد الدبلوماسي بينها وبين الصومال بسبب النزاع الحدودي.
وبدأت نيروبي في دعم وتعزيز علاقاتها مع صوماليلاند حيث تدفقت الوفود الدبلوماسية والبرلمانية خلال شهري يوليو وأغسطس الماضيين، على هرجيسا.
ويرى المراقبون أن محاولات التقارب الكينية تستهدف بالأساس استخدامها كمنطقة عازلة في مواجهة جماعة الشباب المجاهدين التي تُمثل تهديدًا لها حيث نفذت فيها العديد من العمليات الإرهابية
الأهمية الجيوسياسية
تأتي الأهمية الجيوسياسية لأرض الصومال كجزء من أهمية القرن الإفريقي في تأمين مرور الطاقة والسفن التجارية عبر مضيق باب المندب والبحر الأحمر الذي بات شريانًا حيويًا لنقل الطاقة إلى السوق الأوروبي والعالمي.
منذ أن أبدت صوماليلاند اهتمامها باستضافة قواعد بحرية بريطانية وروسية، في إطار تدافع القوى الدولية والإقليمية للوجود العسكري النشط على طول ساحل البحر الأحمر، بدأت عدة زيارات لمسئولين عسكريين لها من بينها وزير الدفاع البريطاني جافن ويليامسون في يناير من العام الماضي، لبحث إنشاء قاعدة بحرية بريطانية في أرض الصومال في ميناء بربرة، بينما توقع مراقبون بدء مفاوضات مع روسيا لإقامة قاعدة روسية قريبًا أيضًا.
لم يكن الكشف عن نية مصر إنشاء قاعدة عسكرية في صوماليلاند هو المحاولة الأولى لاستغلال الموقع الهام لإقليم أرض الصومال على البحر الأحمر، حيث بدأت الإمارات كأول دولة في الشرق الأوسط ببناء ميناء وقاعدة عسكرية في مدينة بربرة، ضمن خطة للاستثمار في الدول المطلة على خليج عدن ودول القرن الإفريقي (وتحديدًا الصومال، جيبوتي، إثيوبيا، إريتريا) ضمن الصراع الدائر في اليمن لبسط النفوذ على المنطقة المحيطة بمضيق باب المندب.
وهو ما يعد الخطوة الأولى لوضع صوماليلاند في سياق القوى الإقليمية المستقلة ذات النفوذ الجيواستراتيجي، ويضعها ضمن أوراق التنافس الإقليمي والدولي.
رغم عدم الاعتراف العربي رسميًا بصوماليلاند كدولة مستقلة ذات سيادة إلا أنه منذ مارس 2018 بدأت الإمارات في تدريب قوات أمن في المنطقة في إطار اتفاق لإنشاء قاعدة عسكرية إماراتية، والتي تستهدف من خلالها تحقيق التنمية الاقتصادية والأمنية وردع الجماعات المتشددة في المنطقة حسب تصريحات رئيس أرض الصومال موسى عبدي.
وبدأت الإنشاءات في القاعدة العسكرية رسمياً في مدينة بربرة على بعد 300 كيلو متر جنوب اليمن من خلال اتفاق يسمح لها بالبقاء لمدة ثلاثين عامًا.
إلى جانب القاعدة العسكرية، بدأت شركة موانئ دبي في أكتوبر من العام الماضي في مشروع بقيمة 101 مليون دولار لتوسيع ميناء بربرة، حيث بدأ في تصدير الأبل والماعز إلى الشرق الأوسط واستيراد المواد الغذائية، وتسلمت موانئ دبي العالمية رسميًا في مارس 2017 إدارة ميناء بربرة بحصة 51% مقابل 30% لهيئة الموانئ في أرض الصومال و19% لإثيوبيا.
أزمة الاعتراف الدولي
رغم أن جواز السفر الذي تصدره هرجيسا أصبح مقبولًا لدي عدد من الدول العربية والإفريقية والأجنبية مثل الإمارات والسعودية وكينيا وجنوب إفريقيا وجامبيا وتركيا والمملكة المتحدة، إلا أن أرض الصومال لم تحظى بالاعتراف الدولي رسميًا كدولة مستقلة ذات سيادة، رغم التحولات الجيوسياسية وتدافع الاهتمام الإقليمي والدولي على منطقة القرن الإفريقي.
كذلك رغم عدم اهتمام صوماليلاند بالمعارضة التي تبديها جمهورية الصومال على أي تقارب أو تعاون مع أي من الدول أو الكيانات الإقليمية، إلا أن أزمة الاعتراف تظل عائقًا أمام التوسع في إقامة علاقات خارجية واستغلال فرص الاستثمارات المختلفة.
يأتي هذا مع ظهور عدة مؤشرات تكشف اتجاهات أصحاب المصالح بالضغط لحصول أرض الصومال على الاستقلال وتحقيق الإدارة الذاتية للإقليم بحكم الأمر الواقع، وذلك لتسهيل إقامة علاقات تجارية واستغلال ميناء بربرة الذي أصبح محط اهتمام قوى إقليمية بتعظيم نفوذها وتقوية مصالحها عبر هذا الميناء الحيوي.
وفق آخر التطورات في جلسات التفاوض والحوار على استقلال إقليم صوماليلاند، تبدو الأمور في غاية التعقيد نتيجة تصلب المواقف التفاوضية من قبل الحكومة الصومالية في مقديشيو، والتي لا تزال ترفض الاعتراف بالاستقلال رغم مضي أكثر من ثلاثة عقود من الحكم الذاتي للإقليم، كذلك مواقف الحكومة في أرض الصومال التي بات لديها أرض صلبة ومواقف قوة نتيجة الدعم الدولي وقدرتها على تسيير الحكم الذاتي في الإقليم وتجنيبه الصراعات والنزاعات المحلية التي لا تزال تعصف بالصومال.
بدأت المفاوضات رسميًا منذ ثماني سنوات لبحث الانفصال، وكانت جيبوتي قد استضافت في يونيو الماضي جلسة مباحثات بين جمهورية أرض الصومال والحكومة الصومالية الفيدرالية بمشاركة ورعاية رئيس الوزراء الإثيوبي والسفير الأمريكي في الصومال والإيجاد وممثلين عن الاتحاد الأوروبي، إلا أن الجلسات شهدت مزيدًا من الخلافات بين أطراف التفاوض وزيادة الاتهامات بالتملص من الاتفاقيات السابقة، وهو ما يصعب توقع حصول تقدّم حقيقي لاعتراف حكومة الصومال بالانفصال، في حين بدت المفاوضات وكأنها محاولة لاقتسام المساعدات الدولية من قبل صوماليلاند، بينما يسعى رئيس الصومال ، محمد عبد الله فرماجو إلى تحقيق بعض المكاسب السياسية قبيل الانتخابات الرئاسية المقررة مطلع 2021.
على الصعيد الإفريقي، رغم بعض العلاقات الودية بين دول إفريقية وإقليم صوماليلاند إلا أنه بعد مرور ثلاثة عقود على انفصاله، وتوصية بعثة الاتحاد الإفريقي لتقصي الحقائق في صوماليلاند عام 2005 بضرورة الاعتراف بها دولة مستقلة إلا أنه لا يوجد أي اعتراف رسمي من أي من الدول الإفريقية أو الاتحاد الإفريقي نفسه بصوماليلاند كدولة مستقلة ذات سيادة، حيث استمرت المناقشات داخل الاتحاد الإفريقي في التمسك بسياساته الرافضة لأي محاولة انفصالية في القارة، بحجة أنها قد تزيد من الصراعات الحدودية القائمة في أنحاء القارة.
وترهن دول إفريقية اعترافها بالإقليم دولة مستقلة، بحصوله على اعتراف من الحكومة الفدرالية الصومالية.
رغم فتح مكاتب تمثيل ذات طبيعة قنصلية لبعض الدول في هرجيسا، إلا أن هذه الخطوات الدبلوماسية لم يصحبها أي اعتراف رسمي بصوماليلاند كدولة مستقلة ذات سيادة على أرضها، حيث دائمًا ما تصحب هذه التحركات اعتراضات واسعة من الحكومة الصومالية الفيدرالية ضد أي دولة تبدأ خطوات للتعاون أو التنسيق مع أرض الصومال.
وهو ما حدث مع غينيا التي أعلنت الصومال قطع العلاقات الدبلوماسية معها بعد تدشينها علاقات مع أرض الصومال، وهو ما اعتبرته الصومال انتهاك السيادة والوحدة الصومالية، ففي الوقت الذي تتشدد فيه الصومال في الاعتراف بالانفصال لا يزال لدى صوماليلاند آمال في تكرار سيناريو جنوب السودان وإريتريا اللتان انفصلتا رسميًا بدعم ومباركة دولية.
غير مؤثر
ويرى مراقبون أن اعتراضات الصومال ورفضه الاعتراف بأرض الصومال غير مؤثر في وقت تتنافس فيه عدد من القوى السياسية الفاعلة للحصول على مناطق نفوذ بخاصة مع الأهمية الاستراتيجية لميناء بربرة مع تصاعد الأزمة الخليجية والتوتر في اليمن وانخراط تركيا في مشروعات التنمية وإعادة الإعمار في الصومال، مع سياسات أردوغان التوسعية ومحاولة استخدام الصومال كبوابة لتوسيع النفوذ التركى دبلوماسيًا واقتصاديًا.
قد لا تستطيع صوماليلاند إقناع العالم والحصول على الاعتراف الرسمي في ظل الوضع السياسي الراهن، إلا أن قدرتها على توظيف المزايا الجيوسياسية قد تدفع إلى تدشين علاقات ثنائية قوية تساعد في تعزيز موقف صوماليلاند للحصول على الاعتراف بالإدارة الذاتية للإقليم بعيدًا عن الحكومة الفيدرالية الصومالية.
إلا أن قدرة الصومال وصوماليلاند على توظيف الخلافات بعيداً عن المواقف المنفردة والمتشددة هي الفيصل لإمكانية استغلال الاحتياجات الإقليمية لتحقيق قدر من المكاسب، إلا أنه رغم مشاكل الاعتراف تتجه التوقعات في إطار إمكانية أن تلعب هرجيسا دورًا فاعلاً في إعادة رسم خريطة الإقليم، وهو ما بدأت القاهرة تدركه خلال العام الماضي بتوظيف قدرتها السياسية نحو مزيد من التعاون لحماية وتأمين مصالح مصر سواء في القرن الإفريقي أو في البحر الأحمر.