موجة غضب اجتاحت قطاعات من المصريين ومن المهتمات والمهتمين بالنضال ضد العنف ضد النساء في العالم، بعد أنباء توجيه اتهامات لعدد من الشهود في قضية اغتصاب فتاة الواقعة المعروفة إعلاميا باسم “قضية الفيرمونت”.

الجريمة التي أثارت الغضب جاءت وسط موجة من البوح التي استهدفت كشف نماذج من جرائم العنف الجنسي التي تعانيها النساء في مصر.

الغضب يعكس عمق الوجع بسبب تاريخ طويل من العنف ضد النساء، لذا يمكن بسهولة أن يتم توجيهه في مسار غير عقلاني، فتاريخيًا شارك الجميع -أفرادًا وجهات رسمية وشبه رسمية وأحيانًا أهلية- في جرائم العنف ضد النساء ولو بالتواطؤ أوالتقليل من أهميته وتأثيره.

بعد توجيه اتهامات للشهود في واقعة الاغتصاب البشعة ثار الغضب ضد النيابة العامة والمجلس القومي للمرأة وانطلقت سلسلة من الاتهامات بمحاولة التكتم على الجريمة الأصلية باستحداث جرائم أخرى يعاقب عليها القانون المصري بينما هي في حد ذاتها لا يمكن اعتبارها جرائم من المنظور الحقوقي والنسوي.

القضية ليست قانونية بحتة، لكنها نسوية في المقام الأول، فهي نموذج لتعقيدات المستويات المختلفة من السياقات الاجتماعية والثقافية التي تسيطر عليها المفاهيم الذكورية، فهي في أحد جوانبها تتعلق بالعنف الذكوري المتمثل في انتهاك مجموعة من الذكور لأجساد النساء، كما أنها توضح السياق الاجتماعي الرافض للحريات الجسدية والذي يتعامل مع النساء بطريقة مغايرة للرجال خاصة حين يتعلق الأمر بالممارسات الجنسية، فعلى حين يتم التسامح دومًا مع الرجال الذين يمارسون الجنس خارج إطار الزواج، يرفض المجتمع -في أغلبه- نفس الفعل من النساء، في تأكيد على الرؤية الذكورية التي تسمح للرجال بالتحكم في أجسادهم وأيضًا تمنحهم حق الوصاية على أجساد النساء ومعاقبتهن إذا خرجن من تحت تلك الوصاية وحاولن القيام بنفس الممارسات التي يفعلها الرجال بمباركة من التقاليد والأعراف المجتمعية.

هي على الجانب القانوني نسوية أيضًا، حيث إنها تفتح بابًا واسعًا لمناقشة العديد من الاتهامات غير المنطقية التي يعج بها القانون المصري ولها ما يماثلها في قوانين دول العالم الثالث بينما تجاوزتها الكثير من الدول المتقدمة.

تلك المواد التي تشمل على سبيل المثال “التحريض على الفسق والفجور”، والاتهامات المتعلقة بتجريم المثلية الجنسية، وهي اتهامات تتبع في جوهرها حكمًا “أخلاقيًا” مسبقًا يرفض سلوكيات بشرية بعينها رغم كونها مستمرة منذ بداية تاريخ البشر، وكانت في كثير من الأوقات من السلوكيات الشخصية التي تتسامح معها المجتمعات باعتبارها اختيارات شخصية، ولكن حين يسود التشدد الذكوري الذي يسعى لفرض نمط واحد لهيمنة الرجال، تقفز تلك الاختلافات إلى الواجهة باعتبارها “جرائم” يرفض المجتمع التسامح معها.

من ناحية أخرى فقضية الفيرمونت لها علاقة بأخلاقيات وسلوكيات الطبقات المختلفة في المجتمع، فهي نافذة على طبقة الأثرياء التي تمتلك المال والنفوذ ولا تحتكم لما تفرضه الطبقة الوسطى من قيم وأنساق أخلاقية، الجناة /المتهمون جميعهم من أبناء الطبقة الأكثر ثراءً ونفوذًا، ومن هنا تحديدًا تأتي صعوبة المسار القانوني، فأهالي المتهمين يشغلون جيشًا من كبار المحامين ويجتهدون بحثًا عن ثغرة أو مسار قانوني مختلف لتبرئة الجناة أو تحويل الاتهام من اغتصاب جماعي إلى اتهام آخر أخف وطأة في عقوبته النهائية.

في يوم 24 أغسطس الماضي، أصدرت النيابة العامة بيانًا تعلن فيه القبض على بعض المتهمين ووضع أسماء الهاربين منهم على قوائم الترقب والوصول ومنع السفر، موضحة أن تحقيقاتها بدأت في الرابع من أغسطس 2020، بعد تلقي بلاغ من “المجلس القومي للمرأة” مرفق بشكوى قدمتها إحدى الفتيات إلى المجلس من تعدي بعض الأشخاص عليها جنسيًّا خلال عام 2014 داخل “فندق فيرمونت نايل سيتي”.

لاحقًا تم ضبط أحد المتهمين قبل هروبه خارج البلاد، كما اتخذت النيابة العامة، إجراءات القبض على 7 من المتورطين بالقضية من خلال “الإنتربول”، بعد سماع أقوال المجني عليها وشهادة بعض الشهود.

وكانت النيابة قد دعت إلى ضرورةَ الحفاظ على سرية المعلومات الخاصة بالمتهمين قبل الشروع في التحقيقات وإلقاء القبض عليهم واستجوابهم، لعدم منحهم فرصةً للهروب، وضمانًا لسلامة التحقيقات، مؤكدةً أنَّ الحفاظَ على سرية بيانات المتهمين لا يقلُّ أهمية عن الحفاظ على سرية بيانات المجني عليهم في مثل تلك الواقعة.

وفجأة شهدت نهايات شهر أغسطس تطورًا جديدًا، بتوجيه اتهامات للشهود لتبدأ موجة الغضب حول كيف تحول الشهود إلى جناة؟ وبتدقيق المعلومات المتاحة اتضح أن دفاع المتهمين في واقعة الاغتصاب تقدموا ببلاغ جديد ضد الشهود في واقعة الاغتصاب، وهو ما يعني فتح تحقيق في قضية ثانية لا تنفي بالضرورة القضية الأولى، وأن من أقدم على تلك الخطوة لم يكن الجهات الرسمية ولا شبه الرسمية ولكن الدفاع عن المتهمين بالاغتصاب.

في تلك القضية الثانية، التي تستهدف التأسيس للتشكيك في الظروف المحيطة بالقضية الأولى، قررت النيابة حبس 6 متهمين – بينهم اثنان من شهود الإثبات في القضية الأولى، وتضمنت الاتهامات “تعاطي مواد مخدرة، والتحريض على الفسق والفجور، وممارسة اللواط والسحاقية، وإقامة حفلات جنس جماعي، واستغلال مواقع التواصل الاجتماعي لإثارة مشكلات وهمية تخص قضية العنف ضد المرأة”.

وفي تطور لاحق ظهرت بوادر قضية ثالثة تفتح زاوية أخرى وتجر معها متهمين جدد، حيث طالب البلاغ رقم 2901/ 2020ع، بـ”مساءلة مدير الفندق والعاملين الحاليين والسابقين”، مشيرًا إلى أن “هناك بعض الحفلات الفنية الوهمية التي أقيمت في هذا الفندق كان الهدف منها جذب الضحايا والتغرير بهن وإجبار بعضهن على الاشتراك في جرائم الجنس الجماعي”، مطالبًا بـ”اتخاذ اللازم قانونًا تجاه هؤلاء الأشخاص”.

المسار يجب ألا يكون عبر المنظومة القانونية وحدها، حيث ينبغي فتح مناقشات جادة حول الجوانب النسوية المتعلقة بالقضية كما ينبغي التخطيط لمسار نضال طويل يستهدف تعديلات تشريعية مدروسة بناء على الخبرة المستقاة من هذه القضية لتفادي مثل هذا التلاعب في المستقبل، ولإلغاء بعض مواد قانون العقوبات الفضفاضة على شاكلة “التحريض على الفسق والفجور”.