قبل 42 عاما، شرخ الرئيس أنور السادات الحاجز الزجاجي الصلب بين الدول العربية والعدو الإسرائيلي، بإعلانه الاستعداد الذهاب إلى «بيتهم نفسه، إلى الكنيست الإسرائيلي ذاته»، ورغم إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم بيجين سياسة حكومته حينها، وهي أنهم لن يعودوا إلى حدود عام 1967، ولن يعترفوا بالدولة الفلسطينية، ولن يقبلوا باتصالات مع منظمة التحرير، إلا أن الرئيس المؤمن بأن «99% من أوراق اللعبة في يد أمريكا» قرر المضي قدمًا في طريق «السلام» وذهب إلى العدو ليعقد معه اتفاقًا منفردًا، يُخرج به مصر من معادلة الصراع ويفتح به الباب أمام اتفاقات مماثلة.

عندما حاولت قوى مصر الحية من ساسة وصحفيين ومفكرين مصريين الاحتجاج على خطوة السادات، أشهر الرئيس في وجه معارضيه المادة 74 من الدستور، والتى تمنح رئيس الجمهورية اتخاذ إجراءات سريعة لمواجهة أي «خطر يهدد الوحدة الوطنية أو سلامة الوطن أو يعوق مؤسسات الدولة عن أداء دورها الدستورى.. ويوجه بيانًا إلى الشعب ويجرى الاستفتاء على ما اتخذه من إجراءات خلال ستين يوماً».

أصدر «بطل الحرب والسلام» قرار اعتقالات سبتمبر الشهيرة والتي طالت أكثر من 1500، بدعوى «ضرب دعاة الفتنة»، وأغلق العديد من صحف المعارضة، ونقل عشرات الصحفيين إلى أعمال إدارية، حتى يتمكن من تمرير معاهدة السلام في صمت ودون ضجيج، قام «المقامر الكبير بآخر لعبة كبرى وجازف بأوراقه كلها مرة واحدة» على حد تعبير الأستاذ محمد حسنين هيكل في كتابه «خريف الغضب»، ليدرك منذ هذه اللحظة أنه «يعيش دراما» سوف تصل نهايتها في يوم من الأيام، بلغت الدراما ذروتها بعد أيام قليلة وسقط السادات برصاص أولاده وهو يحتفل بذكرى النصر في المنصة.

قبل رحيله الدرامي حقق السادات للموساد الإسرائيلي حلمه بفتح باب لإقامة علاقات رسمية مع الدول العربية وأنهى عقودًا من الصراع والعزلة فُرضت على العدو حتى تمكن من تحقيق مخططه تدريجيًا، بحسب ما أعلن الرئيس الحالي للموساد يوسي كوهين قبل أيام «هدف الموساد كان دائمًا الوصول إلى وضع نحافظ فيه على العلاقات بمستويات مختلفة»، مضيفًا «نحن نتحدث عن كسر في السقف الزجاجي القائم بيننا والدول العربية، والحديث يدور عن سنوات من الاتصالات التي أديرت بطريقة دقيقة للغاية».

لاقت كامب ديفيد استنكارًا ورفضًا عربيًا كبيرًا، عندما كان العرب يعدون إسرائيل كيانًا غاصبًا لا يمكن قبوله أو عقد معاهدات معه، وقررت الدول العربية تعليق عضوية مصر في الجامعة العربية وسحب سفرائها من القاهرة، واعتبروا الاتفاقية «طعنة في الظهر» ليس للفلسطنيين والسوريين فقط، بل للعرب جميعًا، سئُل ياسر عرفات حينها عن السلام بين السادات وبيجن فقال: «دعهم يوقعون ما يحلو لهم.. السلام المزيف لن يدوم».

رغم خطوة السادات المفاجأة التي فرضها على الدولة المصرية باعتباره «كبير العائلة»، ورغم رغبة الكيان في توسيع الشرخ وإزالة الحاجز مع دول الطوق ليتمكن بعدها من الوصول إلى الأطراف، إلا أن العلاقات المصرية الإسرئيلية ظلت باردة لسنوات أصبحت فيها كلمة «التطبيع» مرادفا لـ«الخيانة»، وقاومته المؤسسات الشعبية وحتى الرسمية، وكان لنقابة الصحفيين المصرية السبق في تلك المعركة عندما قررت جميعتها العمومية حظر التطبيع المهني والنقابي والشخصي مع الكيان الصهيوني في أعقاب توقيع اتفاقية كامب ديفيد في 17 سبتمبر عام 1978، وتحدت السادات الذي أراد أن يعاقب الصحفيين فقرر تحويل نقابتهم إلى «نادي للصحفيين»، لكن مقاومة أعضاء الجميعة العمومية أفشلت مخطط الرئيس.

لحقت بنقابة الصحفيين العديد من المؤسسات وجمعيات العمل الأهلي والمدني، وأصدرت نقابة الأطباء قرارًا مماثلًا يحظر التطبيع المهني والشخصي مع الكيان، وبعد سنوات من قرار «الأطباء» زار وزير الصحة الإسرائيلي القاهرة، فتم استقباله بفتور وقُيدت حركته للدرجة التي لم يتمكن فيها من زيارة مؤسسات طبية أو الالتقاء بالأطباء، اشتكى الوزير الإسرئيلي للرئيس المصري حينها حسني مبارك من فتور الدعوة وعدم استقبال الأطباء له فأجاب مبارك بـ«نحن لا نملك نقابة الأطباء، فهى من مؤسسات المجتمع المدنى ولديها استقلال فى قراراتها، ولا أستطيع إعطاء تعليمات للنقابة، وهذا التصرف بسبب البرود فى حل المشكلة الفلسطينية، وأنكم لا تقومون بأى إجراء يدل على سلامة النية أو الاستعداد لحل المشكلة، ونرجو فى الفترة القادمة أن يحدث تحسن يُرضى الشعب المصرى ويجعله يقبل التطبيع»، وفق ما روى الدكتور حمدي السيد نقيب الأطباء الأسبق.

انتشرت لجان المقاطعة ومقاومة التطبيع ليس في مصر وحدها بل في معظم العواصم العربية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، «لجنة الإمارات الوطنية لمقاومة التطبيع مع العدو الإسرائيلى»، التي دعمها ومولها الشيخ سلطان القاسمي عضو المجلس الأعلى لاتحاد دولة الإمارت وحاكم الشارقة، والتي لا يعرف أحد مصيرها بعدما صار التطبيع بين أبو ظبي وتل أبيب أمرًا واقعًا.

عندما بدأت المحادثات المباشرة بين الفلسطينيين ودولة الاحتلال في بداية التسعينيات والتي تبلورت باتفاق «أوسلو» ثم «غزة- أريحا»، اعتبرت بعض الحكومات أن هناك مبررًا لإقامة علاقات مع تل أبيب، فالشقيقة الكبرى فتحت الباب وأصحاب القضية قبلوا ما فُرض عليهم، إلا أن تلك العلاقات ظلت «سرية» كالزوراج العرفي، تخشى الأنظمة الجهر بها خوفًا من رودد الفعل الشعبية الغاضبة.

أخيرًا وما أن وصلنا إلى محطة «السلام الدافئ»، بدأت مرحلة المجاهرة بالأثم، واحتفى بعض الحكام والمسئولين العرب بالعلاقات والزيارات الرسمية وغير الرسمية مع دولة الاحتلال، وما ظل «عرفي» لسنوات تحول إلى «شرعي» بتوجيهات أو إملاءات أمريكية لا يستطيع هؤلاء الحكام رفضها أو حتى مناقشة بنودها.

وقع حكام الإمارات والبحرين اتفاق «إبراهام» مع إسرائيل، وهم يعلمون أن الاتفاق يدعم فرص الرئيس الأمريكي ترامب في انتخابات الرئاسة التي تظهر استطلاعات الرأي تأخره فيها، ومن ناحية أخرى يحقق الاتفاق لرئيس الوزراء الإسرئيلي بنيامين نتنياهو إنجازًا كبيرًا في مجال السياسة الخارجية، وهو إنجاز لم يسبقه إليه سوى مناحم بيجن عندما وقع على معاهدة السلام مع مصر عام 1979، ولحقه إسحق رابين الذي أبرم معاهدة سلام مع الأردن عام 1994. فيما تمكن نتنياهو من توقيع اتفاقيتي تطبيع مع بلدين في يوم واحد، وهو ما يخفف من الضغوط الداخلية التي تلاحق رئيس الوزراء الإسرئيلي.

في المقابل لا يعرف أحد ما ستجنيه الإمارات والبحرين من اتفاقات التطبيع المجانية مع العدو، سوى نيل الرضا السامي من سيد البيت الأبيض، والحديث عن دعم إسرائيل لدول الخليج في أي مواجهة محتملة مع إيران، ما هو إلا محاولة لتسويق الاتفاق، وإقناع الرأي العام الخليجي أن الحكام لم يبيعوا بسعر بخس، فالدولة العبرية تتلاعب بالجميع، ولو تغيرت الخريطة السياسية لا مانع لديها من إقامة علاقات طبيعية مع دولة الملالي.

بعض المراقبين راهنوا أن علاقات الأنظمة الخليجية «الإمارات والبحرين و…» مع الكيان الصهيوني، لن تدخل في مرحلة «الدفء» على غررا ما جرى مع مصر بعد «كامب ديفيد»، إلا أن حكام أبو ظبي ودبي تحديدًا كان لهم رأي آخر، فما أن دخل التوقيع حيز التنفيذ حتى أعلن الجانبان عن توقيع اتفاقات تعاون في مجالات التجارة والموانئ والبورصة، بعد أن صدر قرار إمارتي حكومي بإلغاء قانون مقاطعة إسرائيل الصادر عام 1972.

ما لم يكن يتخيله أحد أن يصل الاحتفاء بتوقيع اتفاق سلام مع إسرئيل إلى بث أغنية إمارتية بعنوان «عاشت إمارات السلام»، تتغنى كلماتها بالعدو وتقول «خذني زيارة لتل أبيب.. أرجوك يالنشمي اللبيب.. أنا بدوي ونهجي رهيب.. عاشت إمارات السلام».

الأغنية التي ألفها الشاعر عبدالله المهري وغناها المطربان خالد العبدولي ويحيى المهري، نشرها المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي ادرعي، على صفحته، وعلق قائلًا: «ما أجمل هذه الكلمات التي تزينت بلحن ينضح سلامًا، وإلى الجميع نقول أهلا بكم في إسرائيل».

ارتكب العديد من الحكام والمسئولين العرب الكثير من المعاصي والذنوب في حق الشعوب العربية، لكن ما أعظم من الذنب هو المجاهرة به وتبريره والاحتفاء به، قد يظن هؤلاء أن الترويج لإقامة علاقات مع العدو قد يحوله إلى صديق أو قد يدفن القضية الفلسطينية إلى الأبد، العدو لن يتحول أبدًا إلى صديق إلا بعد أن يؤدي ما عليه من حقوق، والقضية لن تموت مادام هناك من يذكر الأجيال الجديدة بجرائم العدو وحقوقنا التاريخية.