في المجتمعات المنتجة للمعرفة، القادرة على التعامل مع العلم والفلسفة ومنتجاتهم، بوصفهما منتجات بشرية تخضع لمعايير الصدق والكذب المتعارف/المتفق عليها ضمنيًا يصبح التحاور حول مدى صدقية رؤية معرفية ما خاضعًا لهذه المعايير، وقادرًا على تطوير النظريات المختلفة، ومن ثم نجاح إحداها في الصمود، فعلى سبيل المثال: فإن المفكر الاشتراكي الأشهر “كارل ماركس”، قد طور نظريته المعرفية الشاملة عبر سجالات معرفية مع عدد من خصومه الفكريين والسياسيين، ولولا هذا الجدل ما ظهرت النظرية الماركسية بهذا التماسك، الذي منحها قدرة أكبر على الصمود والانتشار.

عندما أتحدث هنا عن قدرة المجتمع على التفاعل لا أقصد مساحة الحريات التي تمنحها أو تمنعها السلطة السياسية للأفكار وانتشارها -فهذا موضوع آخر- بل أعني المساحات التي يمنحها العقل/الوعي الجمعي للأفكار وتداولها عبر منظومة القيم التي تحدد مساحة التفاهمات المشتركة بين الأشخاص، ومدى قدرتها على قبول الاختلافات العقائدية -لا أقصد هنا الأديان- وتأسيس فضاءات الحوار المتبادل، بوصف هذه الممارسات الفكرية/المعرفية قادرة على تطوير المجتمع، ومنحه الحيوية اللازمة للاستمرار والتطور.

إن غياب المناخ الثقافي/الاجتماعي الداعم لحرية الفكر، وحرية التعبير، ليس بحاجة إلى قوانين وتشريعات بقدر ما هو بحاجة إلى تشييد منظومة قيم قادرة على توسيع الفضاءات الداعمة للإبداع والابتكار، والقابلة لحرية التعبير والاختلاف دون إقصاء للآخر، ودون وصمه بنعوت عادة ما تمنح أعضاء المجتمع حق استباحته ماديًا أو معنويًا، وهو الأمر الذي يترتب عليه غياب النقد، وتراجع الإبداع، وتفشي الظواهر التي تغذي الجهل، وتعلي من شأن الخرافات، تحت سمع وبصر العلم، ومن ثم يتراجع المجتمع تحت دعوات الحفاظ على الهوية (المنغلقة)، ومبررات الخصوصية الزائفة.

فعندما أتحدث عن “جماعة من البشر” بأنها تشكل “مجتمعًا إنسانيًا”، فأنا أقصد بالطبع أنهم يعيشون معًا على مساحة من الأرض، وقد تمكنوا مع مرور السنوات المشتركة من وضع أطر ضمنية، ومعلنة، لعدد من القواعد الحاكمة للتعايش المشترك، ربما يأتي في مقدمتها الأمن والأمان بقصديتهما المادية والمعنوية، فلا يمكن لجماعة من البشر أن يشاركوا الأرض والحياة في إطار من العنف المتبادل، أو في إطار سطوة مجموعة منهم على الأخرى “في حالات المجتمع العبودي لم يكن العبيد جزءًا من المجتمع حسب رؤية القيم الحاكمة في حينها”.

فالمجتمع يتشكل عبر مناخ من السلم الاجتماعي، الذي يوفر للفرد وللمجموع مساحات من الوقت والجهد التي تدفعهم  للإبداع، والإنتاج، الذي يضمن استمرار المجتمع، وتشكيل آلياته ومؤسساته الداعمة لوجوده، والتي تقوم في أساسها على مجموعة من القيم المشتركة التي تدعم بقاءه، وتضمن استمراره، كونها مؤسسات مجتمعية تدعم أعضاء المجتمع على المستوى الفردي، وكذلك على المستوى الجمعي، فحيادية المؤسسات تجاه أعضاء المجتمع تشكل شرطًا أساسيًا لبقاء المجتمع ونموه وتطوره، وهو الأمر الذي يضمن ولاء الفرد للمجموع، ومن ثم قدرة الفرد على دعم المجتمع والمشاركة في تنميته وتطويره.

فاحتياج الفرد للمجتمع لا يقل عن احتياج المجتمع للفرد، وهو الأمر الذي تديره مؤسسات المجتمع الهادفة للحفاظ على بقائه وضمان استمراره، بحيث تضمن قدرة المجتمع على احتواء الفرد وتوفير احتياجاته المادية والمعنوية، ليدرك وجوده، ليس فقط بوصفه “ذات” متفردة، ولكن بوصفه “عضو” في مجتمع يشبع احتياجه المادي، والاجتماعي، والعاطفي …إلخ، ومن ثم ينتمي الفرد للمجتمع، ويشارك في الحفاظ على بقائه وتطوره.

وقد يحدث في بعض الأحيان صراعات اجتماعية على المستوى الفردي أو الجمعي، فالاجتماع الإنساني قد يؤدي إلى مثل هذه الصراعات، وعادة ما تتخذ صور متفاوتة العنف، ومختلفة التوجهات، فقد تتخذ شكل تمرد فردي أو جيلي على الثقافة السائدة، وربما تتخذ شكل رغبة في الاستحواذ على موارد، أو رغبة في تسييد ثقافة… إلخ. ولكن.. “المجتمع” المتعافي الذي يتسم بالقوة والحيوية يستطيع دائمًا احتواء مثل هذه الصراعات ودمجها في عناصر قوته، مثلما يضع القواعد التي تمكنه من ضبط إيقاع الصراع، لمنع انفلات الأمور لصالح جماعة أو فرد.

أما “المجتمع” الذي يفشل في احتواء مثل هذه الصراعات فيصبح مهددًا بالتفكك، وربما التحلل والانزواء، وربما يمر مجتمعنا بلحظة مشابهة.

من الطبيعي أن المجتمع يتشكل عبر عمليات ثقافية، واجتماعية، واقتصادية…إلخ وعبر مسافات زمنية تطول وتقصر حسب عمر وتاريخ المجتمع، وهو الأمر الذي ينطبق أيضًا على عمليات التفكك والتحلل التي قد تعتري مجتمع من المجتمعات في لحظة زمنية في مسار تاريخه الاجتماعي، وهذا البطء “العملياتي” الذي تحدث به مسارات تحلل أو انهيار مجتمع ما، قد يمنح فرصة للمؤسسات القائمة على المجتمع لتدارك الأمر وإصلاح ما فسد، ومقاومة هذا التحلل، وتعديل مسار المجتمع وعلاج أمراضه، وقد تصبح مجرد لحظات انتظار تتسم بالقسوة والألم الذي يقع على “أفراد” المجتمع بنسب متفاوتة، وقد يتخذ شكل ظواهر وأعراض مرضية.

وفي هذه اللحظة تتجلى العالمانية بوصفها أحد العلاجات الهامة التي يمكنها التعامل مع أزمات المجتمع الراهنة، مثلما يمكن أن تشكل ثقافة قادرة على التعامل مع الصراعات المتشعبة في جذور المجتمع، كان أول من ابتدع مصطلح العالمانية سـكيولرزم Secularism هو الكاتب البريطاني” جورج هوليوك”.

غير أنه لم يقم بصياغة عقائد معينة على العقائد التي كانت قد انتشرت منذ عصر التنوير في أوروبا؛ بل اكتفى فقط بتوصيف ما كان الفلاسفة قد صاغوه سابقًا وتخيله “هوليوك” من نظام اجتماعي منفصل عن الدين غير أنه لا يقف ضده، إذ صرح: “لا يمكن أن تفهم العلمانية بأنها ليست ضد المسيحية هي فقط مستقلة عنها، ولا تقوم بفرض مبادئها وقيودها على من لا يود أن يلتزم بها.

فالعالمانية إذن تعني فصل الزمني عن الروحي، فكما يترتب على السلطة الدينية وعلى السلطة المدنية أن يتقيدا بالمضمار الخاص بكل منهما، فإن الإيمان والعلم ليس لهما أي شيء مشترك وعليهما أن يحترما استقلالهما الداخلي بشكل متبادل.

بقول جون لوك: “من أجل الوصول إلى دين صحيح، ينبغي على الدولة أن تتسامح مع جميع أشكال الاعتقاد دينيًا، أو فكريًا، أو اجتماعيًا، ويجب أن تنشغل في الإدارة العملية وحكم المجتمع فقط، لا أن تُنهك نفسها في فرض هذا الاعتقاد ومنع ذلك التصرف.

يجب أن تكون الدولة منفصلة عن الكنيسة، وألا يتدخل أي منهما في شؤون الآخر. هكذا يكون العصر هو عصر العقل، ولأول مرة في التاريخ البشري سيكون الناس أحراراً، وبالتالي قادرين على إدراك الحقيقة.

ويعبر عنها بوضوح “على عبد الرازق” حين يؤكد: إن الإسلام لم يفرض على المسلمين نظاما خاصا يجب أن يحكموا بمقتضاه، بل ترك لنا مطلق الحرية في أن ننظم “الدولة” طبقا للأحوال الفكرية، والاجتماعية، والاقتصادية التي توجد فيها، مع مراعاة “تطورنا الاجتماعي” ومراعاة مقتضيات الزمن. إن كل ما جاء به الإسلام من عقائد، ومعاملات، وآداب، وعقوبات، فإنما هو “شرع ديني” خالص لله تعالى، ولمصلحة البشر “الدينية” لا غير.

وسيان بعد ذلك أن تتضح لنا تلك المصالح الدينية أم تخفى علينا، وسيان أن يكون للبشر منها “مصلحة مدنية” أم لا، فذلك مما لا ينظر إليه الشرع السماوي إليه.

إن الأغراض الدنيوية قد جعل الله الناس أحرارا في تدبيرها، وأن الرسول (ص) قد أنكر أن يكون له فيها حكم أو تدبير فقال: “أنتم أعلم بشئون دنياكم”. وهي ذاتها الرؤية التي طرحها الإمام محمد عبده، حين قال: ليس من وظائف الرسل عمل المدرسين ومعلمي الصناعات وتعليم التاريخ، ولا تفصيل لما يحتويه عالم الكواكب، ولا بيان ما اختلف من حركاتها، ولا ما استكن من طبقات الأرض، ولا مقادير الطول فيها والعرض، ولا ما تحتاج إليه النباتات في نموها، والحيوانات في أنواعها، أما ما ورد من كلام الأنبياء من الاشارة إليها فإنما يقصد منه النظر إلى ما فيه الدلالة على حكمة مبدعة أو توجيه الفكر إلى القول لإدراك أسراره وبدائعه”.