تغافلت السياسة السودانية منذ بداية الإعلان عن مشروع بناء سد النهضة الإثيوبي، على النيل الأزرق، عن الآثار المترتبة على بناء السد والملء والتشغيل، فيما يتعلق بنقص نصيب السودان من المياه، واحتمالات تعرضها لمخاطر الجفاف، وتوقف محطات مياه الشرب.

وما يمكن أن تتعرض له من مخاطر فيما يخص مسألة عوامل أمان السد، والذي لا يبعد عن الحدود السودانية سوى بـ 40 كيلو مترًا، ما يهدد السودان بفيضانات مدمرة حال حدوث أي خلل في بنية السد وخزانه، خاصة أن هناك دراسات دولية حذرت من الطبيعة المنزلقة للأراضي التي بني عليها السد والقريبة من الأخدود الإفريقي العظيم.

لكن تحولات طرأت على الموقف السوداني من مسألة سد النهضة، بداية من الإطاحة بالرئيس السوداني عمر البشاير في 2019، وحتى عملية الملء الأول لخزان سد النهضة، والتي أعلنت عنها إثيوبيا في الحادي والعشرين من شهر يوليو من العام الحالي، حيث تدرجت تلك التحولات متخذة أشكال ومستويات متعددة.

البشير ودعم مشروع السد

مع إعلان إثيوبيا الرسمي عزمها إنشاء سد على النيل الأزرق، في فبراير من عام 2011، شاب الموقف السوداني الرسمي الكثير من الغموض، وبدا السودان تحت قيادة البشير وكأن الأمر لا يعنيه.

 لكن في الأول من ديسمبر من عام 2013، أعلن الرئيس السابق عمر البشير، للمرة الأولى صراحة، تأييده لبناء سد النهضة.

جاء إعلان البشير خلال زيارته لولاية القضارف شرقي السودان، بصحبة رئيس الوزراء الإثيوبي السابق هايلي مريام ديسالين، حيث افتتحا مشروع الربط الكهربائي بين إثيوبيا والسودان، والذي أتاح للسودان شراء 100 ميجاواط من إثيوبيا بأسعار منخفضة، إضافة إلى 200 ميجاواط حظي بها السودان مجانًا من إثيوبيا عبر سد “تقزي” على نهر عطبرة.

وأشار البشير في كلمة ألقاها أمام حشود في ولاية القضارف إلى الفوائد التي حصل ويحصل عليها السودان من إثيوبيا والمتمثلة في مده بالكهرباء، إضافة للفوائد المنتظر أن تعود على السودان من بناء سد النهضة.

عين على الكهرباء وأخرى على “الشفقة”

اختيار مكان الإعلان عن التأييد السوداني لإنشاء سد النهضة، له مغزى أيضًا، فولاية “القضارف”، وبالتحديد منطقة “الفشقة” هي منطقة نزاع مستمر منذ عقود بين السودانيين والإثيوبيين، حيث بدأت الأزمة في الستينيات بتسلل المزارعين الإثيوبيين للشفقة ووضع أياديهم على مساحات من الأراضي الزراعية، ازدادت الأزمة في نهاية التسعينيات بعد دخول رجال إثيوبيين على علاقات قوية بالنظام، بمعدات زراعية كبيرة، واستولوا على نحو 50 كيلو متر مربع من الأراضي الزراعية، بعدما طردوا المزارعين السودانيين، بدعم من الجيش الإثيوبي.

كانت عين الرئيس السابق عمر البشير أثناء إعلانه تأييد بلاده لمشروع سد النهضة، بخلاف مده بالكهرباء، على أراضي “الشفقة” المغتصبة من الجانب الإثيوبي، كثمن لتأييد المشروع، فبعد أسابيع من إعلان تأييد البشير لسد النهضة، توصلت لجان ترسيم الحدود المشتركة بين السودان وإثيوبيا إلى اتفاق يقضي بإعادة أراضي الشفقة للسودان، وهو الاتفاق الذي لم ينفذ حتى الآن.

سياسة نفعية ضيقة

هكذا فإن البشير اتبع سياسة نفعية ضيقة متجاهلًا المصالح الاستراتيجية للسودان، فهو كما تقول الدكتورة أماني الطويل، الخبيرة في الشؤون الأفريقية، في  ورقة بحثية بعنوان “تحولات الموقف السوداني من أزمة سد النهضة”، قام بتوظيف ملف سد النهضة في المزايدات والابتزاز الإقليمي لتعظيم مكاسبه الشخصية ووجوده في السلطة، وقد انعكس غياب المصلحة الوطنية في حرص النظام على المستوى الشعبي في إسكات الأصوات التي كانت ترى خطورة السد على المصالح السودانية، كما تعمد البشير ونظامه السياسي عدم القيام بأي دراسات سودانية فنية عن السد، وتبنى خطابًا يمجد في فوائده متماهيًا مع الدعاية الإثيوبية.

 الثورة السودانية وبداية التحول

خلقت الثورة السودانية، مساحات واسعة من النقاش حول كافة القضايا، بما فيها قضية سد النهضة، وبدأت في الظهور أصوات معادية للمشروع داخل قوى “إعلان الحرية والتغيير” وتكونت عدة مجموعات داعية إلى إعادة النظر في الموقف السوداني من مشروع سد النهضة، وبناء موقف يستند لدراسات موضوعية عن المخاطر والمكاسب السودانية المترتبة على إنشاء السد.

استمرار التذبذب

ورغم الطرح الداعي لدراسة الموقف السابق من سد النهضة، وتغييره في ضوء المصالح الاستراتيجية للسودان، إلا أن موقف الحكومة الانتقالية ظل متذبذبًا، ترى “الطويل” في الورقة المشار إليها والصادرة عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية أنه: “اتضح ذلك مع تأزم الموقفين المصري والإثيوبي عقب الجلستين التفاوضيتين اللتين عقدتا في سبتمبر وأكتوبر 2019، واللتين أسهمتا في اتجاه مصر نحو عرض الموقف دوليًا في الأمم المتحدة، فقد ظلت مواقف السلطة الانتقالية السودانية غير واضحة، رغم موافقتها على الانضمام للقاء برعاية واشنطن في نوفمبر 2019، خاصة أن تلك الموافقة لم تأتي إلا بعد موافقة إثيوبيا على حضور اللقاء، وحينما قاطعت إثيوبيا الجولة الأخيرة من مفاوضات واشنطن في فبراير 2020،  للتوقيع على الاتفاق النهائي، اتخذت السودان نفس الموقف وقاطعت الاتفاق ورفضت التوقيع”.

 تحول عميق

التحول العميق في الموقف السوداني تجاه أزمة سد النهضة، بدأ فقد خلال الأشهر الأربعة السابقة بداية من شهر مايو، حيث توافقت رؤية السودان مع الموقف المصري الرافض لملء خزان السد قبل الاتفاق، ورفضت اقتراح إثيوبي بتوقيع اتفاق جزئي لملء بحيرة السد.

الموقف السوداني تطور خلال شهر يونيو، حيث أرسلت السودان خطابًا إلى مجلس الأمن تطالب فيه حث المجلس لجميع الأطراف المعنية بأزمة سد النهضة على الامتناع عن اتخاذ أية إجراءات منفردة من شأنها أن تؤثر على السلم والأمن الإقليمي والدولي.

لقد أظهرت السلطة الانتقالية في السودان وعيًا مختلفًا عما كان سائد خلال العام الأول من إدارتها البلاد عقب الإطاحة بالبشير، فتخلصت من اللهجة المتذبذبة واللغة التوفيقية، بل والمنحازة أحيانًا لإثيوبيا، وهو ما تم ترجمته في تصريحات مسؤولين سودانيين منهم وزير الري والموارد المائية ياسر عباس، حيث قال: “إن الآثار الإيجابية المحتملة لسد النهضة على السودان يمكن أن تتحول إلى مخاطر، دون اتفاق حول الملء والتشغيل”، إضافة لتصريحه الهام الذي عبر عن التوافق التام مع الموقف المصري حيث أكد على: “أهمية الوصول إلى اتفاقية ملزمة قانونًا في قضية ملء وتشغيل سد النهضة دون التطرق إلى توزيع حصص مياه النيل الأزرق” وهو ما تشير إليه الدكتورة أماني الطويل في ورقتها البحثية.

نحو موقف سوداني حاسم

حاولت إثيوبيا استغلال ورقة الفيضان، للضغط على الحكومة السودانية لقبول الإجراءات الأحادية التي اتخذتها بشأن ملء خزان السد، بإقناع السودان بأن الملء لن يؤثر على حصتها من المياه، بل على العكس سيقلل من احتمال تكرر الفيضان الذي تسبب في غرق آلاف المنازل وتشريد مئات الآلاف من المواطنين، لكن الحكومة السودانية أثبت أنها باتت مدركة تمامًا لمخاطر وآثار نقص المياه الذي قد يسببه جدول إثيوبيا الخاص بملء خزان السد وتشغيله، هذه الآثار التي ظهرت جلية عندما رصدت السودان انخفاضًا في منطقة الدويم بمقدار 95 مليون متر مكعب من المياه، بعد بدء إثيوبيا عملية الملء الأول لسد النهضة في 21 يوليو من العام الحالي، ما أدى إلى خروج بعض محطات الشرب من الخدمة نتيجة للنقص المفاجئ في منسوب المياه.

كما أظهرت الحكومة السودانية قدرة على التفرقة بين زيادة استثنائية في منسوب النيل أدت إلى الفيضان، وبين خطر الجفاف على المدى المتوسط والبعيد، والذي قد يسببه ملء خزان وتشغيل سد النهضة طبقًا للجدول الزمني الإثيوبي، فنجد  ياسر عباس وزير الري والموارد المائية السوداني،  يؤكد بشكل حاسم في تصريحات نهاية أغسطس الماضي، رفض بلاده لملء الخزان قائلًا: “إن السد الذي تبنيه إثيوبيا على النيل الأزرق على بعد نحو 40 كيلو مترًا من حدود السودان، سيكون وبالاً على 20 مليون سوداني من القاطنين على ضفاف النيل في حال لم يتم التوصل إلى اتفاق ملزم ينظم ملء وتشغيل السد”.

يتطور الموقف السوداني يومًا بعد آخر بشأن سد النهضة، فبينما بدأت الحكومة الانتقالية حكمها بموقف متذبذب، وربما منحاز لإثيوبيا، فقد أظهرت الشهور الماضية، تقاربًا كبير بين الموقفين المصري والسوداني، وبدت السودان في طريقها لاتخاذ مواقف حاسمة تجاه أزمة سد النهضة، بعد إدراجها لمخاطر الجفاف الذي بات غير مستبعد.