خمس سنوات مرت على استباحة اليمن ومعالمه الأثرية، لاسيما مدينة صنعاء القديمة، والتي تعد واحدة من أقدم المدن في العالم ويعود تاريخها لما ألف سنة، فما بين قصف لقوات التحالف وبين انتهاك للحوثيين وإهمال المسئولين جرد اليمنيين من هويتهم ودٌمرت أهم حضارات التاريخ البشري.

كشفت أرقام حديثة مدي حجم الدمار التي تعرضت لها الآثار اليمنية إلى الآن، فقد بلغ إجمالي ما تعرض للتدمير في اليمن 13 مدينة أثرية ومعبدين وسدًّا و15 قلعة و9 حصون و15 مبنى تاريخيا و13 مسجدا و15 ضريحا وكنيستين و5 متاحف.

“إن الحرب الدائرة في اليمن أتت على كل شيء ولم تدخر بعيداً، حياة اليمنيين وممتلكاتهم الثقافية، بما في ذلك ماضيهم التليد، ومدحهم الثقافي، وذاكرتهم الجمعية، ليس ذلك خسارة لليمنيين فحسب، بل للتراث الثقافي لجميع الشعوب”، بحسب ما ذكرته رضية المتوكل، رئيسة منظمة “مواطنة” اليمنية لحقوق الإنسان.

صنعاء القديمة

“الفيضانات باليمن تدمر أقدم مدن العالم لكن الانسان يقف خلف الكارثة”، بهذه المقدمة، أصدر مركز “كارينغي” للشرق الأوسط، تقريرًا حديثًا بعنوان “صنعاء أقدم مدينة في اليمن تتجرد من هويتها”، يسلط الضوء علي الدمار الذي شمل مدينة صنعاء علي وجه التحديد، إذ حازت الأخيرة علي نصيب الأسد من الخراب الذي طال البلاد علي مر السنوات الماضية.

وبجانب الصراعات الداخلية والحرب الدائرة باليمن منذ سنوات، هددت الظروف المناخية والفيضانات والسيول بقاء التراث، ما تم وضعه في لائحة اليونسكو للتراث العالمي المعرض للخطر.

وأشار التقرير إلى أن الخسائر البشرية والاقتصادية التي نتجت عن أزمات ضربت مدن كلبنان واليمن مؤخرًا، لها تكاليف أخري اخترقت قلوب شعوبها وهي “فقدان الهوية”.

فمثلما أدى انفجار بيروت في أغسطس إلى مزيد من التدمير في أحياء المدينة القديمة، تسببت الفيضانات والسيول الغزيرة في صنعاء في تدمير الأبراج القديمة والمباني الأثرية، وبالنسبة للعديد من اليمنيين، فإن هذا يعتبر هجوم آخر على هويتهم الوطنية، إذ تعد صنعاء القديمة رمزًا تاريخيًا مهمًا لكافة الأجيال.

وقد عبرت منظمة “اليونسكو”، أواخر الشهر الماضي، عن أسفها الشديد للخسائر في الأرواح والممتلكات في عدد من المراكز التاريخية في اليمن، بما في ذلك مواقع التراث العالمي في زبيد وشبام وصنعاء، وخاصة في الأيام الأخيرة في أعقاب الظروف الجوية القاسية التي اكتسحت البلاد”.

وشيدت صنعاء القديمة في واد جبلي على ارتفاع 220 مترًا، وتضم ستة آلاف منزل تم بناء بعضها قبل ألف سنة، وصنفت المدينة على لائحة التراث العالمي منذ 1986

اهمال وانتهاكات

ومنذ بدأ التحالف الذي تقوده السعودية حملته العسكرية في مارس 2015، ضربت عدة غارات جوية صنعاء القديمة، ما أدي إلى تدمير المباني والمنازل السكنية، والتي بني معظمها من الطين.

وبحسب المختصين، فقد “شوهد العديد من المنازل والمباني المدرجة في قائمة اليونسكو للتراث العالمي بين الأماكن المتضررة”.

كما ألحقت الغارات الجوية على مباني وزارة الدفاع والأمن الوطني أضرارًا كبيرة بالعديد من المناطق التراثية نظرًا لقرب هذه المباني من المدينة القديمة.

ووفقًا للسكان المحليين، فإن حتى قبل اندلاع الصراعات والحرب باليمن، فأن الحكومات المتعافية غضت الطرف عن تدهور الإرث الثقافي بالبلاد، اذ أن منذ عام 2004، أي في وقت إعلان “صنعاء” عاصمة للثقافة العربية، لم يتم اجراء أي صيانة أو ترميم للمباني الأثرية بالمدينة، حيث تركزت أعمال الترميم على الشواهد الأمامية فقط.

وبجانب الإهمال، فقد ازداد وضع المدينة سوءً منذ سيطرت الحوثيين عليها في سبتمبر 2014، إذ تحولت اللامبالاة والإهمال إلى تدنيس، إذ بدأ الحوثيون في طلاء العديد من المباني القديمة بشعارات وهتافات دعائية.

علاوة على ذلك، ساهم التوسع في البناء على غزو المدينة وتشويها من نوع آخر، حيث باع العديد من السكان منازلهم القديمة لسماسرة والتجار، الذين اعادوا بنائها إلى مراكز تجارية ومحلات، فهم تعاموا معها على أنها ممتلكات عادية وليس تراث قيم بحاجة لعناية.

ورغم القوانين التي تجرم بناء مباني جديدة بالمدينة، إلا أن هناك العديد من الأسواق الجديدة والمباني التي شيدت في صنعاء، اذ اختفت المباني البيضاء الراقية، ولا توجد إحصاءات رسمية تكشف حجم البناء الحديث، ولكن بالنظر إلى ازدحام المدينة اليوم، فإن الدليل على التوسع الحضري واضح.

ما يفاقم الوضع أيضا هو سياسات الحوثيين، حيث اضطر بعض مالكي المقاهي والمطاعم داخل المدينة القديمة إلى الاغلاق والبحث عن مصدر دخل آخر لأن الحوثيين من “وجهة نظر دينية” حظروا اختلاط الرجال والنساء في الأماكن العامة.

الفيضانات.. ناقوس الموت

وصف العديد من المراقبين الفيضانات التي ضربت صنعاء وبعض مدن اليمن، بـ”ناقوس الموت”، لاسيما أنها معرضة لخطر الفناء، ومع تغافل السلطات بدأت بعض المبادرات الاجتماعية حملات لمساعدة المتضررين وإنقاذ آثار المدينة.

بحسب مندوب اليمن الدائم لدى اليونسكو، محمد جمعة، فإن “المناشدات الدولية ودور المنظمة الداعم للتراث اليمني بالأموال والتنديدات يعتبران جزء من حل المشكلة ومعالجتها، بدون حل الأسباب الرئيسية الأخرى للدمار، ستظل المدينة القديمة وسكانها في خطر”.

وشهدت مدينة صنعاء وحدها تدمير 4 مدن أثرية وقلعة وحصنين و5 مبان تاريخية و3 مساجد وضريح ومتحفين، وفي عدن تم تدمير قلعة ومبنيين تاريخيين ومسجدا وضريحا وكنيستين ومتحفا.

وبحسب دراسة علمية حديثة أعدها الباحث اليمني المتخصص في إدارة الاستشعار عن بُعد المهندس، سامي محب الدين، فإن هناك حوالي 238 منزلاُ في صنعاء القديمة تحتاج تدعيم عاجل و166 منزلا تحتاج إلى تسقيف و12 منزلا تحتاج إعادة بناء و456 منزلا تحتاج لترميم و1032 منزلا تحتاج لصيانة، وجميعها تحتاج ميزانية لا تقل عن 2.5 مليار ريال يمني.

تجريف التاريخ

وتحت عنوان “تجريف التاريخ: انتهاكات أطراف النزاع للممتلكات الثقافية في اليمن” كشفت المنظمة اليمنية، “مواطنة” لحقوق الانسان، في تقريرها السنوي، الصادر في نوفمبر 2018، معلومات تفصيلية، عن تورط جماعة أنصار الله الحوثي والتحالف الدولي وجماعة رئيس اليمن عبد ربه منصور هادي والرئيس الراحل على عبدالله صالح ومجموعات إرهابية اخرى في تدمير ممنهج للمعالم التاريخية اليمنية على مرّ سنوات حرب مازالت مشتعلة منذ عام .٢٠١٥

يوثق تقرير “تجريف التاريخ”، الذي يبلغ عدد صفحاته 89 صفحة، مستندًا على استقصاء ميداني منذ عام 2014 لـ 2018، أنماطاً مختلفة ومتعددة من الانتهاكات والاعتداءات التي نفذتها كافة أطراف النزاع في اليمن كالقصف الجوي الذي يشنه التحالف العربي بقيادة السعودية والإمارات. ويوثق التقرير أيضاً الهجمات البرية، التفجير، التخريب والهدم، وإلحاق أضرار متفاوتة الجسامة، علاوة على تدبير أعمال عدائية من جوار هذه الأعيان الثقافية، بما في ذلك الاستخدام المتعمّد لها لأغراض عسكرية مباشرة.

ويظهر التقرير اهتمام الحوثيين بالسيطرة على القلاع والقصور التاريخية لما لها أهمية استراتيجية في المعارك العسكرية، فقد شن الحوثيون وقوات الرئيس السابق على عبدالله صالح، هجوماً برياً على موقع القفل في صعدة وقصر دار الحجر في لحج وجوامع تاريخية في تعز، ومدرسة الإشرافية التاريخية.

وكشف عن استخدام الحوثيين للمعالم الأثرية، حصوناً عسكرية لشن هجماتهم انطلاقا منها كما فعلوا في قصر السلطان العبدلي، فأجبروا سكانه على مغادرته واستخدموه ثكنة عسكرية لهم، أما في محافظة تعز، فسيطر الحوثيون عام ٢٠١٤ على قلعة القاهرة واُبعِدوا عنها عام ٢٠١٦ ليتم لاحقاً استخدام القلعة من أجل قصف مواقع الحوثيين.

ولخص بعض خبراء الاثار والمهتمين بالمحافظة على البيئة، بعض المخاطر التي تتعرض لها الأثار اليمنية، عدم اهتمام كل الفرقاء بالآثار اليمنية بشكل عام، نبش المواقع الأثرية في كل المحافظات من قبل فئات مختلفة من المجتمع، تهريب القطع الأثرية من المواقع الأثرية والمتاحف للخارج، نمو سوق كبيرة لبيع الآثار اليمنية في الدول الأوروبية وأمريكا، تدمير عدد من المتاحف اليمنية وتوقف أغلبها عن العمل.

من صنع الانسان

ويعقب أحمد ناجي، باحث اليمني، والزميل غير مقيم في مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، بأن الوضع الكارثي والغير انساني في اليمن هو من “صنع الانسان”، بحسب قوله، حيث تهدد الحرب وانعكاساتها الاقتصادية، والإهمال المستمر مدينة صنعاء التاريخية، التي تعتبر رمز أساسي للهوية الوطنية اليمنية.

وأوضح “ناجي” أن بدون جهود وقائية وإجراءات صارمة، ستظل صنعاء القديمة والعديد من المناطق الأخرى في اليمن تعاني بشكل قاسي من الفيضانات والكوارث الأخرى مثل الانسكاب النفطي، فالحل يكمن في سلطة مسئولة في اليمن لكن هذا حلم بعيد المنال.

وقد تبدو حماية التاريخ والهوية الثقافية لليمن غير مهمة، لكن الآثار طويلة المدى للإهمال “خطيرة”، فمن الناحية الاقتصادية، ستستمر السياحة الداخلية في التدهور مع اختفاء المدن القديمة في اليمن، وسيُجبر المزيد من السكان على ترك منازلهم وأعمالهم، مما يضيف عبء على المناطق الحضرية المزدحمة بالفعل.