من شأن الرأسمالية وما تمثله من سلطة الاقتصاد، الذي هو المحرك الرئيسي لكثير من أوجه نشاط المجتمعات، أن تُبقي على النظام السياسي الاجتماعي القائم والمستقر، الذي فيه توطدت أركانها وترسخت، ويخطئ من يظن أن الرأسمالية ضد الثقافة بكل أنواعها، أو أنهما لا تجتمعان، ففي الوقت الراهن كثيرًا ما توظف الرأسمالية نوعًا من أنواع الثقافة “الثقافة الجماهيرية”؛ لتحقيق مآرب وأغراض متنوعة لها من خلال وسائل إعلامية متعددة، منها الخاص الذي يملكه الأفراد أو العام الذي تملكه الدول، ولا تستقر وتنتعش سلطة رأس المال، أو تتوطد أركان دولة، إلا وهي في حاجة إلى أيديولوجيا، أو عقيدة، أو ثقافة تؤسس بها لشرعيتها، وضمان ديمومتها، وقبول الناس لها، وما يجعل سلطة ما تتخذ من ثقافة أو عقيدة غطاء لها، مدى ما تقدمه تلك العقيدة أو الثقافة لها من مقومات الرسوخ والثبات، وتحقيق أغراضها، والحماية من كل أشكال المعارضة والتحدي إلا فيما ندر، وقبول الناس بها، لكن للثقافة التي أتحدث عنها في هذا المقال معنى آخر مغاير.

الثقافة المستقلة

يعرف ماثيو آرنولد الثقافة بقوله: “الثقافة هي سلوك اجتماعي ومعيار موجود في المجتمعات البشرية. وتعدّ الثقافة مفهوما مركزيا في الأنثروبولوجيا، يشمل نطاق الظواهر التي تنتقل من خلال التعلم الاجتماعي في المجتمعات البشرية. بعض جوانب السلوك الإنساني، والممارسات الاجتماعية مثل الفكر، الفن، الموسيقى، الرقص، الطقوس، مبادئ التنظيم الاجتماعي، بما في ذلك ممارسات منظمة سياسية واجتماعية المؤسسات، الأساطير، الفلسفة، الأدب، والعلم”.

وللثقافة دلالتان أولا: علمية خاصة، وهي جملة الفاعليات والمجالات الإنسانية التي تتبدى في السلوك والفكر معا، مما يتيسر تعلمه ونقله عبر الأنساق والنظم الاجتماعية. وهي تشتمل علي المعارف والمعتقدات والفنون والأخلاق والقانون والعرف، وغير ذلك من الإمكانيات أو العادات التي يكتسبها الإنسان.

على هذا النحو هي الكل المعقد المتشابك من أساليب الحياة الإنسانية المادية والروحية التي ابتدعها الإنسان واكتسبها.. في رحلة من تاريخ تطوره، فبينما تحكم القوانين الطبيعة، تسود القيم والمعايير عالم الإنسان أو الثقافة.

ثانيا: دلالة عامة شائعة تنحصر مساحتها في مجموع الصور المرهفة للوعي الاجتماعي التي تنعكس على المرايا المصقولة لأدوات التعبير والإبداع، وهي التي ينتجها المفكرون والمبدعون، أي المثقفون.

وللثقافة أيضًا مستويات وأنواع، فمنها الثقافة الجماهيرية، والشعبية، والنخبوية، ومنها المحلية، والقومية، والإقليمية، والعالمية.

كما أنها تتدرج من ثقافة مهيمنة، وبين بين، وتابعة، وبين هذه المستويات والأنواع علاقات مرسلة من التأثير والتأثر التي لا تبرح أن تستقر.

الثقافة نتاج مجتمع تشكلت له ومعه وبه، الثقافة التي أتقصّاها هي الثقافة المهيمنة، وليست التابعة أو البين بين، الثقافة التي تساعد في تطور المجتمعات، والوصول بها إلى مدارج عليا من رقي الوعي والإبداع العلمي والفني والفكري، الوصول بالمجتمع إلى أن تنظم حركة المواطنين به مجموعة من القيم السامية، التي انتخبها الإنسان على مر تاريخه مثل العدل والحرية والمساواة والحب والتسامح وقبول الآخر.. وغيرها من قيم.

وتتبدى الرأسمالية: نظام اقتصادي ذو فلسفة اجتماعية وسياسية تقوم على أساس تنمية الملكية الفردية والمحافظة عليها، متوسعًا في مفهوم الحرية، تقوم أيضًا على أساس إشباع حاجات الإنسان الضرورية والكمالية.

ويوصف النظام الاقتصادي للدول بالرأسمالية: حين تقوم على سيطرة الرأسمالية على اقتصاد السوق بتحرير سعر السلعة، تحت شعار: دعه يعمل دعه يمر، ودمج الشركات حتى سميت الشركات العابرة للقارات، ثم منذ بداية القرن الواحد والعشرين بدأت الدول تتجه إلى الموازنة بين الملكية العامة والخاصة، خاصة بعد الأزمات الاقتصادية الطاحنة التي أقلقت أقوى الاقتصاديات في العالم.

وتتنوع أشكال الرأسمالية ما بين رأسمالية الدولة، وفيها تحرص الدول على ملكية إنتاج سلع استراتيجية رئيسية، وبعض المشاريع والمؤسسات المحورية بالمجتمع، ورأسمالية الأفراد ومؤسساتهم، وتبقى كل المؤسسات أيا كانت شخصياتها الاعتبارية، وانتماءاتها المجتمعية: عامة أو خاصة، حكومية أو أهلية، ومهما تنوعت نشاطاتها زراعية أو تجارية أو صناعية أو خدمية، و ارتبطت أهدافها بتحقيق الربح المالي أو لم ترتبط ، وقدمت خدماتها كمؤسسة خدمية غير هادفة للربح أو رابحة، يظل هدف الجميع  تشكيل وعي وهوية وتوجه الجماهير، فالجميع أصبح تابعا لثقافة الاستهلاك وإعادة الإنتاج السريع.

أعود مرة ثانية للثقافة التي أستهدفها وتوضيح دورها الطليعي بالمجتمعات؛” ثقافة النخب”، وهي بطبيعتها تند عن أن تكون تابعة، أو في ركاب أية نوع من أنواع سلطة الرأسمالية.

المثقف والسلطة

المثقف هو الإنسان الذي يملك رؤية الحقائق على طبيعتها، وهو غالبا انشقاقي، هاوٍ لإبراز الوجوه التي يمكن أن يُعتم عليها، رافض لأي سلطة، من المفترض أنه قادر أن يقول الحقيقة في وجه السلطة، مبرزا لسلبياتها مهما كانت قوتها وجبروتها.

ليس من هَمّ المثقف ولا دوره إرضاء من يمثلون السلطة بأنواعها: سياسية، رأسمالية، دينية، أو سلطة الجموع غير الواعية أحيانا، أو سلطة العقلية الاستعمارية التي تنخدع بأساليب الإمبريالية الأخطبوطية، كل هذا ليس من أدواره، بل على النقيض عليه أن يساهم في خلخلة الراسخ وإقلاق المستقر الذي يحمل دوما جوانب نقصه، وضرورة فلترته على الدوام.

ولا يمكن أن تحمل رؤى المثقف الحقيقي حياة ومصداقية إلا إذا كانت تتضمن فيما تتضمن مدى مفتوحا؛ يجددها ويطور محاورها، من خلال بحث دءوب، لا يقدسها أو يقع في بريق إنجازها متصورا أنها هكذا أصبحت على الوجه الأكمل، كما ليس من أدواره على الإطلاق التبرير لأية سلطة، ويبقى التغيير دائما هو الحقيقة المؤكدة في الحياة. وهو ما يؤمن به المثقف المستقل الحر.

فمن سمات المثقف الأساسية أنه شخص لا يمكن استيعابه، وأن جوهر وجوده تمثيل كل الفئات والطبقات من الناس، وخاصة تلك الطبقات التي لا تجد من يدافع عن وجودها بدرجة لائقة بالحياة الإنسانية.

الثقافة فعل فردي في جوهره

عادة ما تتبدي ثقافة النخبة من خلال أفراد المثقفين، وللطبيعة الخاصة التي تميز المثقف والتي سبق وأشرت إليها عادة ما يأتي جهده منفردا، وصادما لجموع المتلقين، فاضحا لأية سلطة، وكاشفا لنواقصها وفسادها، وجوانب الخلل بها، أي أن المثقف لا ينخرط في الغالب ضمن الجموع متباينة التوجهات، ويجابه عادة بالاستنكار لدى عموم متلقيه، كما يلاقي الجديد – الذي يحمل اختلافا- حربا عادةً؛ لعدم اعتياديته. لكن يحدث أنه قد يتجمع في بعض الفترات أو المراحل الزمنية تيار يضم جهد أفراد من مثقفيه، كُلٍّ في مجاله، وبجهدهم مجتمعا ورؤاهم يصنعون ما يشبه حركة أو تيارا أو مدرسة، يسهم مجملها في تغيير مسار نهضة الدول.

فحين تتبدي حركة مجموعة ظواهر غير منسق فيما بينها في أوائل القرن العشرين، عصر النهضة المصرية الحديثة، فيكتب علي عبد الرازق” الإسلام وأصول الحكم”، ويحطم فيه أسطورة حتمية حكم الدولة الإسلامية والخلافة، ويحارب طه حسين أيقونات أدبية وتاريخية لم تخضع للفحص العلمي الدقيق، من خلال كتابه “في الشعر الجاهلي”، وينفي عبدالله عنان المؤرخ انفصال السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية في التاريخ الإسلامي، في كتابه “عن القضاء في العالم العربي”، ويتوصل إلى أن جميع السلطات كانت تحت حذاء السلطان، ويجدد الشيخ محمد عبده الرأي الفقهي في كثير من المسائل الخلافية التي تخص تعليم المرأة وبعض النظرات في الفن، ويكتب قاسم أمين مجموعة مؤلفاته حول المرأة وتعليمها وتحررها، يمكن هنا مع ظواهر أخرى مصاحبة: تعليمية، وفنية، وعلمية، أن نقول: إن هناك حركة ثقافية غير تابعة لسلطة رأسمالية الدولة، أو الأفراد بمؤسساتهم، أو سلطة الاستعمار، أو سلطة دينية متمثلة في الأزهر، أو أية تيارات وجماعات متأسلمة، المعتدل منها أو المتطرف، الثقافة في تلك المرحلة اجتهاد أفراد في مجالات شتى حتى علوها لتشكل تيارًا يحمل المجتمع لرؤية مختلفة في الحياة .. ونستكمل