أن تقرر خوض صراع تعلم جيدًا أنك ستواجه من خلاله الكثير من الهجوم، والرفض سواء من المجتمع أو عدد من مدعين الدين، أو من الجهة التي يُفترض أن تستوعب جيدًا ما يقدم إليها من حرية فكر وهي الرقابة على المصنفات الفنية، وتقوم بتقديم نوعية من الأعمال الفنية التي تتشبع بجزء من الخيال أو الفانتازيا كما يُطلق عليها، للهروب من الأجواء الرقابية التي يقرها البعض على الكل، مستخدمًا إما سلطته المجتمعية أو الإدارية، في فرض رأيه على الفن، وأن تواجه كل هذا مُحاكي الله والقدرة الآلهية والمجتمع وعالم السياسية بشكل سلس، وسهل ممتنع على الجمهور ليخرج الجميع من أمام شاشة السينما بكثير من التساؤلات والرغبة في العلم والمعرفة، فالطبع ستكون أمام عمل فني لشخصية أثارت إعجاب الجميع وتعلم منها من اقترب منها مهنيًا وهو الرائع رأفت الميهي.
مع ما تم سرده سابقًا عن السيرة الفكرية للمخرج والمؤلف والسيناريست رأفت الميهي صاحب النظرة الفلسفية الساخرة التي تركت علامات وبصمات في عالم السنيما جعلته محلقًا وحده في سماء لم يقدر أحد على أن يزاحمه بها، كما أنه حين قدم أفلام عديدة ككاتب كان فريدًا من نوعه فيما جاء به قلمه، ليجعلنا وبعد رحيله بأعوام نقف محاولين البحث في بواطن هذا الفنان المُعقد كما أطلق عليه العديد من رواد الوسط الفني ولكنهم أكملوا هذا الوصف كونه الفنان صاحب الرؤية.
الكاتب المبدع
من المثير للدهشة أن نجد رصيد رأفت الميهي من المؤلفات الفنية أكبر من ما حققه من أعمال على مستوى الإخراج، فمع تقديمه لـ28 عمل فني ما بين تأليف وسيناريو وحوار، نجد أن أولى إنتاجاته جاءت في فيلم “غروب وشروق” الذي تصدر قائمة أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية، بعد أن أخرجه للنور كمال الشيخ والذي حاكى به الواقع السياسي المصري قبل ثورة الـ1952، لتثمر الصداقة بين الطرفين عن أعمال تركت بصمة كبيرة في عالم سينما السبعينات والتي كان منها “شيء في صدري”.
استمر رأفت الميهي كاتبًا في عالم السينما لمدة 10 سنوات دون أن يقدم أي عمل إخراجي، فكانت من أفلامه “شيء في صدري” و” صورة ممنوعة”، ليقدم عدد من الأفلام التي يواجه بها المجتمع وشخصياته المختلفة وتساعده في ذلك السندريلا سعاد حسني، بداية من فيلم “غرباء”، التي قدم من خلاله مجموعة من الأنماط الفكرية المتناقدة بين “مها” بطلة العمل التي تعتنق الفكر العلماني، وشقيقها الذي ينتهج الفكر الديني ويرى أن آراءها بالطبع خارجة عن الدين، في مواجهة مبكرة جدًا للاختلاف الفكري الذي يعيشه المجتمع اليوم، وكان هذا العمل عام 1973.
وفي صورة آخري من الهجوم على عادات المجتمع والدفاع عن حقوق المرأة، شاركته سعاد حسني في فيلم “الحب الذي كان”، الذي أظهر من خلاله ثورة المرأة على تقاليد المجتمع لتفوز بالحب الذي تريده، وأخرج العمل علي بدر خان، وجاءت الثلاثية بعمل من الأعمال المميزة في تاريخ سعاد حسني وفي تاريخ الميهي، وهو “أين عقلي”، الذي قدم من خلاله صراع الرجل مع المجتمع واختلاف العادات المصرية التي تم وصفها بأنها بالية، هي ما يخص “عذرية المرأة” وبين اعتبار هذه العذرية شيء ليس له أهمية كما في أوروبا، والعالم الغربي، في محاولة لكشف ما تعانيه المرأة إذا فقدت عذريتها قبل الزواج، وكانت هذه المواجهة من إخراج عاطف سالم.
وكانت آخر الأفلام التي قامت ببطولتها السندريلا وهي من تأليف رأفت الميهي،” على من أطلق الرصاصة”، والذي شارك في بطولته محمود ياسين وعزت العلايلي ومجدي وهبة وجميل راتب وأحمد توفيق من إخراج كمال الشيخ.
رأفت الميهي والسياسة
مع بداية المؤلف والمخرج رأفت الميهي مشواره كاشفًا للوضع السياسي المصري ومواجهًا المجتمع والسلطة بما يجرى بها، مع أول أعماله “غروب وشروق”، والذي كشف به فساد الملكية والقائمين على العمل السياسي في مصر حينها، وسوء الأحوال السياسية في مصر بذلك التوقيت.
استكمل مشواره في عالم السياسة ككاتب مع المخرج كمال الشيخ، من خلال “الهارب” الذي قام ببطولته شادية وحسين فهمي، الذي تحدث فيه عن ممارسات الأجهزة الأمنية ضد الشباب المسيس، وكان ذلك عام 1974، ثم تبعه بـ””، وهو أول فيلم يطرح فكرة الحل الفردي والعدالة الناجزة في ظل سيطرة الفساد وغياب القانون، كما أنه كشف جانب من جوانب الفساد في عهد الرئيس الأسبق أنور السادات وتأثير سياسة الانفتاح ومساءها على المجتمع، والتحذير من تدمير أجيال بأكملها لحساب فئة الانتهازيين ولصوص كل عصر، وكانت براعة سيناريو الميهي أن الأحداث جرت في إطار تحقيق متقن تتكشف من خلاله الحقائق تباعًا دون افتعال أو مباشرة، وبالطبع واجه هذا العمل غضب كبير من قِبل سلطة تلك المرحلة.
ولكن كانت الضربة الأشهر الأقوى في العصر الحديث بفيلم الميهي، الأفوكاتو، الذي واجه به نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك، بما في الحياة القانونية من ثغرات، تساعد الفاسدين على تملك زمام الأمور والتلاعب بحياة المواطنين كيفما يشاؤون وظهر هذا جليًا في شخصية “حسن سبانخ” الذي يتعبر القانون لعبته، ولا يتولى الدفاع في قضية إلا إذا كانت بها ثغرات سواء سياسية أو أمنية أو فساد اجتماعي.
الإخراج ومكاشفة الواقع
مع حلول عام 1981 قرر رأفت الميهي أن يخوض عالم الإخراج بنظريته الخاصة كتابيً، وكاميرته المتميزة ليكون باكورة إنتاجه فيلم “عيون لا تنام”، الذي صارح به المجتمع بتملك أصحاب سن الشيخوخة في مستقبل الشباب، وتوغل القيم المادية في المجتمع، في محاولة للتعايش مع أن الإنسان سيعيش للأبد، وحقق هذا الفيلم نجاح كبير إلا أنه تم اعتباره على أنه استكمال لمسيرة الميهي في التأليف.
استطرد رأفت الميهي عالم الواقعية و”العقد” الذي اتهم به من خلال فيلمه “للحب فرصة أخيرة”، في صراع بشري بين الخير والشر، وما يلقاه البشر من عذاب وطموحات وأحلام يوجهها الإحباط، وكان ذلك من خلال بطولة معالي زايد ويحيى الفخراني.
ضرب الخيال والأحلام في عالم الميهي
في نهاية الثمانينات وحتى نهاية حياة رأفت الميهي، انتقل إلى مرحلة جديدة حاول بها الهروب من الرقابة الدينية والمجتمعية والثقافية، مستخدمًا عالم الخيال والأحلام والفانتازيا، وكانت البداية من خلال ثلاثية “السادة الرجال”، والذي أوضح من خلاله ذكورية المجتمع ورغبة السيدات التخلص مما يتعرضن له من ضغوط، ثم اتبعه بـ”سمك لبن تمر هندي”، الذي حاكى به الله بشكل غير مباشر محاولًا طرح تساؤلات إلاهية عن وجود الإنسان وما يحدث له، وأنهى تلك الثلاثية التي شاركه بها محمود عبد العزيز و معالي زايد بفيلم ” سيداتي آنساتي” مؤكدًا أن العلم والمنطق لا مكان لهما في هذا الوطن ليتخلى دكتور في الذرة عن شهادته ليعمل ساعي، وتتخلى سيدات عن كرامتهن كزوجة فريدة بزواجة 4 من شخص واحد، حالة من الفانتازيا والخيال خلقها رأفت الميهي ليثبت بها وجهة نظره في المجتمع ويكون فلسفته الخاصة التي كشفها للجمهور وجعلتهم في حالة من التساؤل.
استمر الميهي في تقديم تلك النوعية من الأعمال التي تعد ساخرة ولكنها عميقة لمن يحاول الفيلم وكان ذلك في “تفاحة” و” و”ميت فل”، و”عشان ربنا يحبك”، الذي انهى به حياته الفنية كمخرج.
وعن رأفت الميهي قال الناقد الفني طارق الشناوي، أن رأفت الميهي كان حالة خاصة في عالم السينما سواء كاتب أو مخرج، فاستطاع أن يكون ذو طابع وروح خاصة لكل ما قدم من فاتنازيا أو مواجهه للواقع ومكاشفة له، جعلته منفردًا في سماء السينما التي كان يسعى إليه كتاب الرواية ليحول الأعمال إلى الروح الخاصة به.
وأضاف “الشناوي” أن تاريخ رأفت الميهي لم يكن طويل في عالم السينما ولكنه ذو مذاق خاص، وحققت أعماله نجاح كبير بالرغم من أنها فانتازيا، ولا يمكن قبولها منطقيًا ولكنه كان صاحب وجهة نظر وبعد فكري فوجدناه في الأفلام السياسية بما قدمه من انتقادات وحاول أن ينوه لتأثيرها السلبي حدث بشكل كبير سواء في عصر السادات أو مبارك، فهو الفيلسوف صاحب بعد النظر الذي اعتقد أنه لم يأخذ الكافي من حقه في حياته.