قنا هي إحدى أهم محافظات جنوب الصعيد، حَظيت بأهمية كبيرة في مصر القديمة، سماها الفراعنة “شابت”، وأطلق عليها الرومان “بوليس” بمعنى المدينة التي احتضنت النيل، و”كن” أي الحصن، وفي عهد العرب سميت “أقني” ثم قنا، واسمها القبطي “قونة”.

تزايدت أهمية قنا في العهد العربي، حيث أصبحت مركزًا للتجارة لقربها من ميناء القصير، وميناء عيذاب على البحر الأحمر ـ ذو الأهمية الكبرى، للترويج لتجارة الأعشاب والتوابل والبن من اليمن والهند، كما وأصبحت قنا جزءًا مما يعرف بـ “الاقتصاد العالمي للمحيط الهندي”، وجاء إلى مدنها عن طريق القوافل النيلية والبرية تجارة الذهب والعبيد من شرق إفريقيا.

عاصمة دولة الجنوب

لم تحظ قنا بأهمية كتلك التي حظيت بها خلال القرن السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر من الميلاد، حيث تأسس نظام حكم ذاتي في  الصعيد على يد قبائل الهوارة ـ دولة موازية للولاية العثمانية التي يديرها الوالي من القاهرة، عاصمتها قنا ومقر حكمها “فرشوط”، لكنها كانت دولة بمباركة عثمانية مقابل الضرائب التي كانت تدفعها ” الهوارة” للباب العالي في تركيا، على شكل أطنان من الغلال، تذهب إلى أسطنبول، وإلى الحجاز لإطعام الحجاج، حيث كان السلطان العثماني مسؤولًا عن إطعامهم بوصفه خليفة المسلمين، فكانت دولة الجنوب وعاصمتها قنا، سلة غذاء الإمبراطورية العثمانية.

لم تكن الأمور مستقرة في دولة الجنوب وعاصمتها “قنا” خلال القرون الثلاثة، فقد شهد الصعيد اضطرابات عدة تغلب في بعضها المماليك، لكن الأمر كان يعود دائمًا لسيطرة “الهوارة” على زمام دولتهم الجنوبية من أسيوط وحتى أسوان.

في أواخر عشرينيات القرن الثامن عشر، صعد إلى رئاسة قبائل “الهوارة” ودولتهم الجنوبية، شابًا من أبرز الشخصيات السياسية والشعبية في مصر، هو شيخ العرب همام بن يوسف بن أحمد بن محمد بن همام بن سيبيه الهواري.

استطاع همام، أن يثبت نفوذ دولة الجنوب من خلال تقوية التحالفات الداخلية لـ “الهمامية” مع الفلاحين الذين كانوا عماد اقتصاد دولته الزراعي، ومع الأقباط، الذين إلى جانب اشتغال جزء منهم بالزراعة، كانوا من المتعلمين فاستعين بهم في شؤون الإدارة، والبدو أو العربان، والذين كانت مهمتهم حماية طرق التجارة الجنوبية سواء في البر أو عبر البحر الأحمر أو القوافل النيلية.

أسس شيخ العرب همام، الدواوين، وبنى جيش كبير تمتع بالتدريب الجيد، عن طريق المماليك الفارين من النزاعات في القاهرة والدلتا، ووسع نفوذ دولته التجاري استنادًا على موقع قنا آنذاك كأهم مركز تجاري في مصر، لكنه استمر في إرسال الضرائب إلى السلطان العثماني، والتي كانت علاقة همام به مباشرة دون وساطة الوالي العثماني في القاهرة.

في المؤلفات القليلة عن دولة همام في الجنوب، يؤكد المؤرخون على مدى “راشدية” تلك الدولة، والتي استطاع همام أن يضمن لسكانها عدالة اجتماعية، ويحقق دولة تتمتع بالرفاه الاجتماعي، المبني على النمط الزراعي/ التجاري، حتى مع كون الهمامية، وشيخ العرب همام بالخصوص الملتزم الأكبر للأراضي الزراعية بالصعيد، ووصف المؤرخون لاحقًا “دولة الجنوب” بأنها أقرب للجمهوريات الأوروبية، مطلقين عليها “جمهورية شيخ العرب همام” وقال عنها رفاعة الطهطاوي: ” كانت جمهورية مشابهة لما رأيته في فرنسا”.

نهاية جمهورية “شيخ العرب”

في عام 1769، بعد حرب شرسة مع المماليك، انتصر في أولها “همام”، هُزمت “جمهورية شيخ العرب” على يد علي بك الكبير، الذي رأى ضرورة القضاء على سلطة همام الأخذة في الاتساع، ونُهبت ودمرت “فرشوط” مركز حكم الجمهورية الهمامية، ومات همام بعد أشهر قليلة وهو في طريقه إلى النوبة، مات مطعونًا في روحه بعدما خانه قائد جيشه وابن عمه الشيخ إسماعيل، مُهديًا النصر إلى المماليك وقائدهم.

آثار فرعونية وقبطية وإسلامية

من أهم الأماكن الأثرية في قنا، منطقة دندرة، وكانت المركز الرئيسي لعبادة الإلهة “حتحور”، إلهة السماء والحب والجمال، والموسيقى والخصوبة، والتي وحدها اليونانيون مع إلهتهم أفروديت، ويعود تاريخ أقدم المباني المكتشفة في دندرة إلى عصر الملك خوفو الذي بنى المقصورة الرئيسية للمعبودة “حتحور”، أما المعبد الحالي بدندرة فيعود إلى العصر اليوناني الروماني، ويشتهر بالمناظر الفلكية المصورة على السقف، ومشاهد تقديم القرابين للآلهة.

كما تضم قنا عدد من المناطق الأثرية منها قوص، وبها معبد يعود للعصر البطلمي، بني على أنقاض معبد مصري قديم، وكان الإله “ست” أهم الآلهة التي عبدت في قوص.

وعلى بعد 55 كيلو مترًا شمالي غرب قنا، تقع منطقة آثار نجع حمادي، وفيها آثار قرية “حمرة دوم”، وقناطر نجع حمادي، ومنطقة الكرنك، ومغارة جبل الطارف.

وتضم قنا عدد من المساجد الأثرية أشهرها مسجد سيدي عبد الرحيم القناوي، أحد أقطاب التصوف بالمغرب، ويتكون المسجد من صحن مغطى بسقف (شخشيخة) ويحيط بالصحن أربعة أيونات عميقة متعامدة تتكون كل واحدة منها من عمودين ملتصقين ويعلو العمودين ثلاثة عقود تتكون منها واجهة الإيوان، في شكل معماري فريد.

ومن الآثار القبطية بقنا دير رئيس الملائكة ميخائيل بنقادة، والذي يقع على مسافة 2 كيلو متر من مدينة نقادة، وبني في القرن الرابع الميلادي، ويضم كنيستين وهما كنيسة رئيس الملائكة، وكنيسة السيدة العذراء.

وعلى مسافة 8 كيلو مترات جنوبي غرب نقادة، يوجد دير الصليب والأنبا شنودة، وهو الدير الوحيد الذي يحمل اسم الصليب في مصر، وبني عقب بناء كنيسة الصليب المقدس بأورشليم القدس، وقديمًا كان يضم ثلاث كنائس، وهي، الصليب المقدس، العذراء، يوحنا المعمدان.

الزراعة

تبلغ المساحة المنزرعة في قنا نحو 350 ألف فدان، ويحتل محصول قصب السكر المرتبة الأولى حيث تبلغ المساحة المنزرعة به، نحو 150 ألف فدان، ويتم توريد حوالي 3 ملايين طن قصب خام كل عام.

القمح أيضًا من أهم المحاصيل في قنا حيث يُزرع على مساحة تقدر بـ ١١٩ ألـف فـدان، ومحصول الذرة الشامية ٥٥ ألف فدان، والذرة الرفيعة ٣٩ ألـف فدان، إضافة لمحاصيل: البرسيم 19 ألف فدان، والسمسم 7 آلاف فدان والفـول البلـدي 3 آلاف فدان.

صناعة السكر

تضم قنا ثلاث مناطق صناعية، بها العديد من المصانع المختلفة، ولكن نظرًا للمساحات الكبيرة المنزرعة بقصب السكر تمتلك المحافظة أربعة من أكبر مصانع إنتاج قصب السكر وتنتج نحو 400 ألف طن سكر سنويًا بنسبة 40% من إجمالي إنتاج مصر من السكر المصنوع من القصب، والذي يحتل المرتبة الثانية في صناعة السكر بعد البنجر بفارق بسيط.

وتحتاج قنا إلى مصانع متطورة لمعالجة مخرجات الإنتاج الزراعي، وتحويلها إلى أسمدة عضوية، وأعلاف للماشية ومنتجات أخرى، نظرًا للهدر الكبير في مخرجات الإنتاج الزراعي والذي يمكن أن ينقل المحافظة نقلة صناعية كبيرة ويساهم في التشغيل وتقليل نسب البطالة.

الحرف اليدوية

تشتهر قنا بالعديد من الحرف اليدوية، منها صناعة الخزف والفخار، ويمثل مركز ” نقادة” منبع الصناعات الفخارية، فداخل ورش بدائية تعمل بدواليب خشبية، ينتج المئات من الفنانين الفطريين، منتجاتهم من الطين الأسواني، يشكلون تحف فخارية فريدة من أوان للطهي، وأباريق للمياه، وأطقم شاي، ومنتجات للزينة، زهريات وزلع للحدائق وغيرها من الأعمال الفنية الفريدة، التي تعود لآلاف السنيين.

كما تتميز قنا بصناعة “الفركة” وهو شال شهير في قنا وبعض الدول الإفريقية التي تعتبره جالبًا للبركة، ويغزل من خيوط الحرير أو القطن، وكان السودان أكبر مستوردي شال الفركة.

و”الفركة” حرفة لا زال أصحابها يحافظون عليها رغم عائدها البسيط، حيث توقف تصدير المنتجات وأصبحوا يعتمدون على تسويقها بالمحافظات السياحية، ومع تدهور أحوال السياحة توقف هذا المنفذ أيضًا دون أن يبذل مسؤولي المحافظة أي جهد لتنمية هذه الحرفة التراثية.

منتجات جريد النخيل، من الحرف اليدوية الهامة في قنا، وتشمل، طاولات وكراس، وغرف نوم وانتريهات، مصنوعة من الجريد، فلا زال مركز نقادة يمتلئ بمئات الورش، والتي تنتج تحف فنية من الأثاث، يتم توريدها إلى البازارات والكافيهات والفنادق في الأقصر والغردقة والعديد من المحافظات السياحية، لكن الحرفة أصبحت تعاني من مشكلات تسويقية ضخمة في ظل إهمال مسؤولي قنا.

حصار الفقر

تمتلك قنا محاصيل زراعية هامة، تمكنها من تدشين العديد من الصناعات الاستخراجية وصناعات المعالجة، ناهيك عن إمكانية توسيع صناعة السكر، وفتح أفق للتصدير، حيث يتم استخدام 30% فقط من محصول القصب في إنتاج السكر، كما تمتلك العديد من الحرف اليدوية التي من الممكن أن تساهم اقتصاديًا بشكل كبير إذا ما تم الاهتمام بتلك الثروات الحرفية، إضافة لإمكاناتها السياحية والأثرية.

رغم كل ذلك يحاصر الفقر عاصمة جمهورية الجنوب، حيث تأتي في الترتيب الخامس بين المحافظات الأكثر فقرًا، ويعاني نحو 55% من سكانها من الفقر الشديد، بحسب الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، وتعاني من تدني مستويات الصحة والتعليم.