يجلس خلف شاشة الكمبيوتر، يتابع بدقة تحركات الآخرين، يتحسس رغباتهم ويبحث مناطق ضعفهم ومناطق قوتهم، يفكر في طريقة اختراق أخطر الأعضاء البشرية “العقل” يستعين بمتخصصين في تحقيق هذه المهمة، يضع الخطة، ويغلق جهازه، منتظرا الحظة المناسبة للتنفيذ.
هكذا تدار عمليات غسيل المخ داخل التنظيمات الإرهابية، والتي لم تتم عبثًا أو مصادفة، بل كان لها دائما، متخصصون في هذا المجال، الذي يعمل على تغييب العقل، وسيطرة التيار المتطرف عليه، حتى يصبح أداة سهلة يمكن تحريكها وفقًا لقادة التيار.
وتختلف طبيعة أقسام “غسيل المخ” من تيار لأخر حسب أفكاره، وأهدافه، كما تختلف أدواته، وفقًا للمتغيرات المجتمعية، والتكنولوجية أيَضًا، بما يحقق إتمام المهمة بنجاح وفى وقت قصير.
الاخوان وتأسيس قسم غسيل المخ
تعتبر جماعة الإخوان، والتي انبثقت من عباءتها كافة التيارات المتشددة، أولى الجماعات التي رسخت لضرورة وجود قسم يتولى إشباع المستهدفين من القواعد الشعبية بأفكار الجماعة، عبر خضوعهم لعمليات غسيل مخ، تضمن ولائهم وعدم الخروج عن مبادئ الجماعة.
ورسخ هذا المفهوم حسن البنا مؤسس الجماعة، من خلال رسائله التي تركها كمنهج حاكم للجماعة، وتحت شعار ” تأليف الكتاب أمر ميسور لكن لا يؤثر كتأليف الرجال” الذي أطلقه البنا في تشكيل المقربين منه، استطاع تكوين مجموعة من “المجندين” الذين كانوا يتولوا تجنيد أعضاء بالجماعة، من خلال التركيز على تغيير المفاهيم التي يؤمنوا بها، وإحلال مفاهيم ومبادئ الجماعة محلها، ليس هذا فحسب، بل قام البنا بتحويل المسارات العلمية لمعظم أعضاء الجماعة للمجال التربوي، لإمكانية نشر أيدلوجية الإخوان بصورة ممنهجة أكثر، وهو ما استفادت به الجماعة فيما بعد بوجود عناصر لها بالهيئات التعليمية وساعد في نشر أفكار البنا في المدارس والجامعات.
وعقب مقتل البنا، واعتقال عناصر الإخوان، توقف نشاط تلك المجموعات، التي استطاعت نشر أفكار البنا وتوجهاته، بناء على ما قام بتدريبهم عليه، ومع بداية السبعينيات من القرن الماضي، وعودة الإخوان للصورة من جديد، قامت الجماعة بتخصيص قسم للتربية، أطلق عليه قسم “الأسر” وكان الهدف من إنشاؤه، هو القيام بعمليات غسيل المخ سواء للقواعد الراغبين في ضمها، أو الأعضاء المتواجدين بالجماعة فعليًا.
واستعانت الجماعة بالأكاديميين الذين حرص البنا على تكوينهم، ونشرهم في كليات التربية، حيث تولوا مهمة هذا القسم في الجماعة، وكانت أعماله تقوم على عدة مراحل الأولى تتمثل في إعداد العضو دينيًا، من خلال تزويده بالنصوص الدينية بتفسيرات إخوانية، هدمت خلالها معاني الوطنية والديمقراطية والحدود الدولية ورسخت لفكر الخلافة والخضوع للجماعة الدينية بدلًا من الجماعة المدنية.
كانت المهمة الأخرى للقسم، الانتقال بالعضو إلى المرحلة الثانية، وهي تشكيكه في تصرفاته وأنه أضعف من تحمل مسئولية اتخاذ القرار، وجعل تركيزه في مشكلاته وأزماته ما يجعله دائما يرى الجماعة على صواب وهو على خطأ فلا يخرج عن مظلتها أبدا.
وبعد ذلك كان الانتقال للمرحلة الأخيرة، وهو الطاعة العمياء، القائمة على تفسير ديني على هوى الجماعة، وخضوع نفسي لقادتها، وكان دليل وصول الشخص لها، هو تلاوته نص البيعة للجماعة، وبدء اعتماده كعضو عامل بها وتكليفه بمهام لأدائها.
الجامعات والمدارس
خارج إطار الجماعة كان الأمر يختلف، حيث كانت عمليات غسيل المخ، تقوم بها الجماعة عبر قواعدها الشعبية بالمدارس والجامعات والمقاهي والمناطق الشعبية والريفية، وفقًا لبرنامج تدريبي يخضع له مسئولي تلك العملية وينفذوه بطريقة تضمن توسيع دائرة القاعدة الشعبية للتنظيم.
وفى الجامعات والمدراس، كانت تتم بتحديد الأشخاص المستهدفين، عبر متابعة ومراقبة الطلبة، ثم التواصل معهم، والدخول من الناحية الدينية، ثم التشكيك في المفاهيم السياسية التي ألم بها الشخص، مع التأكيد دائما أن الحل داخل أروقة جماعة الإخوان، في المناطق الشعبية والريفية، كان الامر يعتمد على تقديم المساعدات في البداية لربط الشخص بالإخوان، ثم مرحلة تغيير المعاني الدينية لديها ووضع التفسير الإخوانى لها، سواء طرق الحكم، أو طرق إدارة شئون البلاد، وكان الامر سهلًا في تلك المناطق نتيجة للظروف الاجتماعية والاقتصادية التي ينشأ فيها الشخص بتلك المناطق.
كانت عمليات غسيل المخ تتم بصورة ممنهجة، ووفقًا لبرنامج تدريبي يخضع له أعضاء قسم “الأسر” الذي كان يتطور باستمرار، بما يواكب التطورات المجتمعية
مع سقوط حكم الإخوان، نشط قسم غسيل المخ بصورة كبيرة، بعدما اعتمد على وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي في جذب ضحاياه، ففي الوقت الذي يناقض القادة ما يرددونه من مفاهيم حول الجماعة، يلقون بالشباب في مقدمة صفوف المواجهة، بعد ان أقنعوهم بأن الانضمام للجماعة هو انضمام للإسلام.
وسائل التواصل الاجتماعي
وكانت جماعة الإخوان أولى الجماعات المتطرفة التي استخدمت مواقع التواصل الاجتماعي في استقطاب أعضاء جدد، والتلاعب في الخطاب الموجه للأخرين وتوجيهه بما يخدم إيدلوجية الجماعة، من خلال “اللجان الالكترونية” التي قامت بإنشائها لتحقيق هذا الغرض، وعملت على استخدامها لنشر أفكار الجماعة والتشكيك في الأخرين حتى هذه اللحظة.
ويعد الإخوانى مراد على أحد أهم مسئولي قسم غسيل المخ بالجماعة حاليا، حيث يضع عبر فريق معاون له خطط استقطاب الشباب، ونشر أفكار الجماعة وتعليماتها، والتشهير بالأخرين وبث روح اليأس والإحباط وتزوير الحقائق، وتوجيه الرأي العام، ما يجعل المواطن في أي لحظة يمكنه التخلي عن حياته، ما يسهل استقطابه لتصدر الصفوف الأولى في أي مواجهات أمنية تعرض الجماعة للخطر، وهو القسم الذي يلعب دور كبير في بقاء الجماعة على قيد الحياة حتى الآن.
السلفيون ومساجد غسيل المخ
لم يكن السلفيون سوى بعضًا من المنشقين عن جماعة الإخوان، يحملون جزءًا من أيدلوجية الجماعة، ولكن بصورة أشد نتيجة للأفكار المتجمدة التي أشبعوا بها، خلال تواجدهم بالجماعة.
واتبع عناصر التيار السلفي نفس المنهج في التعامل مع أعضائهم، من خلال عمليات غسيل المخ، والتي اعتمدت على نشر الفكر المتطرف، وتفسير النصوص القرآنية تفسيرًا متشددًا، مستخدمين في ذلك المساجد الزوايا الصغيرة.
ووفقًا للباحث إسلام مهدى، أحد المنشقين عن الدعوة السلفية بالإسكندرية، أن المنضم للتيار السلفي كان يخضع لعمليات غسيل مخ تجعله تحت سيطرة كاملة من قبل الشيخ الذي يشرف عليه، حيث كانت كل مجموعة تحت إشراف شيخ من شيوخ السلفية، يوجه سلوكياتهم، ويمدهم بالفكر والمنهج السلفي.
وأكد “المهدى” أن الأمر كان يبدأ باستقطاب الشخص من قبل شباب مجندون لهذا الغرض يتم نشرهم بالمساجد التابعة للسلفية، ويتم توصيله للشيخ المسئول عن المجموعة، حيث كانت تتوافر في الشخص معايير معينة، مثل ضعف الشخصية أو السخط على الاحوال المحيطة، وأن يكون لديه مشكلات أسرية، وذلك حتى يتم السيطرة عليه بسهولة.
ويقول المهدى” يتقرب الشيخ من العضو الجديد ويصادقه، ويستمع لكافة مشكلاته، ويساعده على حلها، حتى يكسب ثقته، ثم تبدأ مرحلته تعديل أفكاره، وإحلال أفكار التيار محلها، حتى يصبح مستعدًا للتضحية بحياته من أجلها، ومشبع بالكامل بالمنهج السلفي، وفى الوقت نفسه غير قادر على اتخاذ قرار يعارض أمر شيخه”
تابع المهدى” في السلفية الأمر يختلف عن الإخوان، حيث الأخيرة يخضع الشخص لرأى الجماعة ومنهج التنظيم، ولكن في السلفية يكون الشخص تحت سيطرة كاملة من شيخه، وينتمي إليه فكريًا وتنظيميًا، وهو الوحيد القادر على أمره أو منعه من فعل شيء، ولا يكون خضوعه لأي شخص أخر حتى لو سلفي”.
تنظيم داعش وتطور عمليات غسيل المخ
يعتبر تنظيم داعش الإرهابي أحدث التنظيمات المتطرفة من حيث النشأة، وإن كان ينتمي تنظيمًا للإخوان كون معظم أعضاؤه المؤسسين كانوا ينتمون للجماعة، وفكريًا ينتمي للتيار السلفي نت حيث تشدده في الأحكام.
وقد استخدم داعش وسائل التواصل الاجتماعي لتكوين أتباعه، وقام باستخدام اسلوب غسيل المخ الذي توراثه من جماعة الإخوان والتيار السلفي، من خلال الاستعانة بالعناصر المدربة في هذا المجال، واستخدامها لتجنيد ضحاياه.
وروى العديد من الناجون من تنظيم داعش، قصصهم في كيفية غسيل مخهم، بداية من استقطابهم وعقد الصداقات معهم، ثم تشكيكهم في كل ما يحيط بهم، سواء داخل أسرتهم أو في الجامعة أو مجتمعهم المحيط.
ويبحث داعش عن ضحاياه، إما في سن مبكرة يسهل السيطرة عليها، أو الأشخاص الباحثين عن هوية أو تغيير في حياتهم، حيث يقوم بعمليات غسيل المخ متخصصون في التنظيم ينتهي دورهم بوصول الضحية إلى مقرات التنظيم، وهو ما جعل التنظيم ينجح في اختراق المجتمعات الغربية بنجاح.
وتعتبر مجموعات غسيل المخ والإعداد النفسي للضحية، هي أهم مجموعات التنظيم، ويبدأ دورها خلال عمليات الاستقطاب، عن طريق تجهيز العضو الجديد بأفكار التنظيم، وإشباعه بها فكريًا، ثم المرحلة الثانية عقب انضمامه رسميًا للتنظيم، حيث يتم تأهيله فكريًا لعمليات القتال والتجرد من معاني التسامح وتكريس معاني الوحشية وفقًا لما جاء على لسان الناجون من التنظيم
وفى حال التمرد، يقوم القسم النفسي بالتنظيم بعمل ندوات ولقاءات مع المتمردين أو الراغبين فى مغادرة التنظيم للعودة إليه، وترديد شعارات داعش وإبراز نجاحها وقوتها والتركيز على الأثار السلبية لترك التنظيم واستخدام العنف مع الهاربين ليكونوا عبرة لغيرهم
اختراق المجتمعات بالجماعات المتطرفة
ويستمر عمل القسم النفسي أو قسم غسيل المخ بالتنظيمات الإرهابية، من جبل لأخر، كونها أهم أعمدة بقاء تلك الأنظمة على قيد الحياة، وتستخدم الإعداد النفسي وتغيير المفاهيم والتشكيك في كل شيء، كأدوات عمل لها.
ولا يقتصر دور الأقسام النفسية على الاشخاص فقط، بل تتولى مهمة إعداد خطة التعامل مع المجتمعات، لتكون مؤهلة لوجود التنظيم، ونشر افكاره، كما تعد خطط نشر توجهاته وتشكيل رأى عام حولها، من خلال اختراق كل مجتمع على حدة وفقًا لخصائصه
ويعد الإعلام أهم وسيلة للقيام بتلك المهمة، لذلك تعددت المواقع والأبواق الإعلامية الناطقة باسم الجماعات المتطرفة، بخلاف استخدام كافة التطبيقات الحديثة لاختراق عقول الأشخاص والتأثير فيها، مع نشر أفكار ترهيب وترغيب، تعتمد على إثارة الفضول حول التنظيم أو الحركة لتتبعها ما يسهل عمليات الاستقطاب فيما بعد