لم تكن تبلغ بعد السادسة عشر من عمرها، عندما قررت “مي” الفرار من المنزل هربًا من اعتداء أبيها بالضرب عليها معاقبة لها على أي خطأ صغير، أو حتى إذا ارتفع صوتها قليلًا أثناء وجوده، وأمور أخرى تراها الصغيرة تافهة إذا ما قورنت بالعقاب الذي تناله كل مرة.
“مش مجرد ضرب، ده تعذيب”، هكذا تقول “مي” في وصف ما تعرضت له لسنوات على يد أبيها، مستكملة: “عندما يغضب يتحول إلى وحش يطيح في المنزل لا يجد سواي أمامه، أمي لا تجرؤ على التدخل، هي فقط تستمر في البكاء حتى يتركني، كل مرة يستمر في ضربي حتى ينزف كل جسدي”.
الفرار من العنف
تروي “مي” كيف فكرت للمرة الأولى في الهرب من المنزل، منذ ثلاث سنوات، بعد إحدى المرات التي تعرضت فيها للضرب الشديد من أبيها، بسبب تأخرها، تقول: “كنت باشتري حاجات من السوق، اتأخرت شوية، أول ما دخلت شدني من دراعي وفضل يضرب فيا بإيديه ورجليه لحد ما قطعت النفس، بعدها قررت أسيب البيت”.
تستكمل مي: “كان عندي 16 سنة، خرجت مش عارفة أروح فين، كلمت واحدة زميلتي في مدرسة التجارة، باباها نزل أخدني من الشارع وقعدت عندهم يومين، بعدها اتصل ببابا، وروحت معاه بعد ما وعد إنه مش هيضربني تاني، لكن ما نفذشي وعده بعدها بأسبوع جلدني بسلك كهربة، مش فاكرة السبب إيه، اللي فاكراه إن السلك فضل معلم على جسمي شهور”.
“المعنفات” وفرص التمرد
الاعتداء على “مي” بالضرب من قبل والدها لم يتوقف، إلا بعدما عملت سكرتيرة في مكتب محام، بعد حصولها على دبلوم التجارة، تقول مي: “هددته أني سأتقدم ببلاغ للشرطة وأن أوكل المحامي الذي أعمل في مكتبه برفع قضية اتهمه بضربي وتعذيبي، وأن أستأجر شقة خارج البيت، ساعتها فقد توقف عن ضربي وإيذائي، لكنه لم يتوقف عن إهانتي”.
ممارسات والد “مي” ضدها أمر يثير التعجب بقدر ما يثير الألم، لماذا يضربها بهذا الشكل؟، لماذا استمر في إيذائها لسنوات؟ يستطيع المحللون النفسيون والاجتماعيون أن يصيغوا عشرات الأسباب والاحتمالات: “الطبيعة العنيفة للرجل، أو أنه يتعاطى مواد مخدرة، أو أن البيئة التي يعيشون فيها تشجع على هذا الشكل من العنف” إلى غير ذلك.
ربما هناك عدة أسباب أخرى تدفع الآباء لممارسة العنف ضد بناتهم، والأزواج ضد زوجاتهم، لكن تلك ليست نقطة مناقشتنا هنا، إننا نبحث عن وسائل تخلص تلك الفتيات والسيدات من هذا العنف، وفرص تمردهن، وما هي الحماية الاجتماعية والقانونية التي يوفرها المجتمع بمؤسساته للناجيات من جحيم العنف الأسري أو المجتمعي.
بـلا مـأوى
حكاية “مي” ربما تعطينا بعض الإجابات، فالفتاة قررت التمرد مبكرًا وهي لا تزال في السادسة عشر من عمرها، فرت من جحيم أبيها، لجأت إلى إحدى زميلاتها، فأعادها والد زميلتها مرة أخرى إلى أبيها بعد استضافتها ليومين، تجربة لم تكررها الفتاة طيلة ثلاث سنوات، لأنها أيقنت أن لا مأوى لها، لا بديل عن بيت أبيها سوى الشارع، فقررت البقاء متحملة ما تلاقيه من عنف وضرب وإهانة.
إجابة أخرى تعطيها لنا “مي” فهي لم تتخلص من اعتداءات أبيها المتكررة بالضرب إلا عندما عملت وأصبح لها راتب شهري ـ عمل لدى محام، تصادف أن أعطاها قوة إضافية استطاعت أن “تهدد” بها أبيها حتى يكف عن إيذائها لكنها لم تستطع أن تنفذ تهديدها بترك البيت.
إذن المشكلة الأولى التي تقابل المعنفة سواء كانت فتاة تعرضت للعنف من أبيها أو أخواتها أو الوصي الشرعي، أو سيدة تم الاعتداء عليها من قبل زوجها، هي إلى أين تذهب؟، وفي أي مكان سوف تسكن إذا ما قررت التخلص من هذا الجحيم؟، خاصة وإن لم تكن تعمل ولديها القدرة على الإنفاق على نفسها وأبنائها إذا كانت أمًا.
“استضافة المرأة”.. أسئلة حول الإمكانات
“مركز استضافة المرأة”، هو مشروع أطلقته وزارة التضامن الاجتماعي، منذ نحو 15 عامًا، بهدف استضافة المعنفات، “استضافة مؤقتة” بحد أقصى 6 أشهر، يمكن مدها بقرار من اللجنة المركزية بقطاع الشؤون الاجتماعية بوزارة التضامن، وتوجد 8 مراكز لاستضافة المرأة على مستوى الجمهورية، في القاهرة والجيزة والإسكندرية وبني سويف والدقهلية والمنيا والفيوم والقليوبية.
مشروع “استضافة المرأة” والذي توكل وزارة التضامن إلى عدد من الجمعيات الأهلية تنفيذه وإدارته تحت إشرافها، لم يلق دعاية كافية، تمكنه من الوصول لشرائح واسعة من الفتيات والسيدات، فـ”مي” مثلًا فوجئت عندما حدثناها عنه، كما أن ثمانية مراكز في 15 عامًا منذ إنشاء المشروع، ثلاثة منها في القاهرة الكبرى، عدد قليل جدًا.
أسئلة كثيرة مثارة حول المشروع، وإمكانياته، وما يمكن أن يقدمه، والمشكلات التي تواجهه، في الوقت الذي تتزايد فيه حالات العنف والاعتداء ضد النساء في مصر من قبل ذويهم.
نقص التمويل
وداد بركات إبراهيم، مديرة مركز استضافة وتوجيه المرأة بمحافظة الدقهلية، تقول: “يستضيف المركز أي فتاة أو سيدة تعرضت لعنف لحين حل المشكلة، ونقبل الحالة بدون أي شروط بمجرد اللجوء إلينا، فيتم استقبالها وتجهيز غرفة مناسبة، وإن كان معها أولاد تكون الغرفة بها أكثر من سرير، وتجهيز وجبة سريعة لها ولأولادها، ثم في اليوم التالي تجلس معها الأخصائية الاجتماعية لتفهم المشكلة، وإذا كانت بحاجة إلى تدخل نفسي سريع، نوفر لها أخصائية نفسية مباشرة”.
وتستكمل “بركات”: “في اليوم التالي نطلب منها بعض الأوراق على نفقة المركز، كصحيفة الحالة الجنائية، وبحث الحالة الاجتماعية من الوحدة التابعة لها، لاستكمال إجراءات الاستضافة”.
تشكو “بركات”، من نقص حجم الدعم المالي المقدم من وزارة التضامن، والذي لا يكفي نفقات المركز، خاصة وأن الاستضافة تكون بشكل مجاني لأن أغلب الفتيات والسيدات اللائي يأتين للمركز لا يعملن وليس لديهن دخل.
تضيف بركات: “المركز يتحمل كافة النفقات، السكن وثلاث وجبات يوميًا للفتاة أو السيدة المقيمة وأبنائها إن كان لديها أبناء، إضافة للرعاية الصحية، فهناك طبيب بشري يأتي كل أسبوع للكشف على المريضات بالمركز وأبنائهن، وهذا يحتاج إلى الكثير من المال”.
تشير “بركات” إلى أن المركز قدرته الاستيعابية 20 سيدة، واستقبل منذ إنشائه عام 2004 ألفي حالة، و7 حالات خلال شهر سبتمبر الحالي، تنوعت ما بين عنف بدني ونفسي وبعض حالات التحرش، والتي تأخذ مجهودًا كبيرًا في التأهيل النفسي، حيث يتم الاستعانة بطبيب نفسي متطوع لمتابعة الحالات التي تحتاج إلى تدخل نفسي، كما أن هناك بعض حالات ضحايا الاعتداءات الجنسية، ولكنها تكون محولة من النيابة العامة”.
بلا سلطة قانونية
سياسة مراكز استضافة المرأة دائمًا ما تكون في إطار حل المشكلات بشكل ودي، وفي الغالب إقناع المعنفة بالعودة إلى ذويها بعد تعهد شفوي بعدم تكرار الاعتداء، وفي بعض الأحيان تواجه المراكز اتهامات من الرجال، بتحريض بناتهم وزوجاتهم، وتقويتهن عليهم، وهو ما تشير إليه مديرة مركز استضافة المرأة بالمنصورة.
هذه السياسة ربما متبعة لأسباب متعلقة بعدم قدرة تلك المراكز على الإنفاق على الحالات التي يتم استضافتها لفترات طويلة، بسبب نقص التمويل، وهي نقطة غاية في الأهمية، لكن عدم وجود سلطة قانونية لمراكز الاستضافة من منع أهالي المعنفات من أخذهن في أي وقت بالقوة، خاصة من لم يصلن لسن الرشد القانونية، يجعل موقف المراكز القانوني ضعيف، فليس لديها الحق في منع أب من أن يأخذ ابنته التي لجأت لإحدى هذه المراكز، حتى لو كانت الفتاة معرضة للعنف مرة أخرى.
تحكي “إيمان” (20 عامًا) كيف اضطرت لمغادرة مركز استضافة المرأة بالفيوم بعد أسبوع من إقامتها به، عندما لجأت إليه عقب اعتداء أبيها عليها بالضرب عدة مرات بسبب عدم موافقتها على عريس تقدم لخطبتها، فقد هدد والدها موظفات المركز بأخذها بالقوة إذا لم يسلموها إليه.
غطاء تشريعي
يرى المحامي الحقوقي محمد سيد الطنطاوي أنه: “لا بد من وجود تشريع خاص بمراكز حماية المعنفات وإيوائهن، على أن يتضمن شقين، الأول: تدعيم قدرة تلك المراكز ماليًا بإنشاء صندوق قومي له مصادر إيرادات دائمة، تمكن مراكز حماية واستضافة المعنفات من الإنفاق لمدد طويلة على الحالات التي تستقبلها، وتخصيص جزء من إيرادات الصندوق لتدريب المعنفات على الحرف اليدوية وإنشاء مشروعات صغيرة لهن بهدف تمكينهن وضمان استقلالهن المالي، مع توسيع تلك المراكز لتشمل كافة المحافظات”.
ويضيف: “الشق الثاني هو أن يعطي التشريع الحق القانوني لهذه المراكز باتخاذ القرار بعدم تسليم المعنفات اللائي لجأن إليها إلى ذويهن إذا رأت أنهن معرضات للخطر ولتكرار العنف ضدهن، إلى حين عرض الحالة على النيابة العامة والفصل في وضعها”.