في الذكري الخمسين لوفاة جمال عبد الناصر، ربما يكون من المهم تسليط الضوء على دور الرجل في إفريقيا، وطبيعية إدراكاته التي جعلته يضعها في دوائر الاهتمام الاستراتيجي المصري، كمحدد لسياساته كما بلورها في فلسفة الثورة عام 1953 وهي خطوة لم يقدم عليها أي نظام سياسي لاحق لنظام عبد الناصر حتى اللحظة الراهنة، حيث لم نحصل على محددات معلنة للسياسات المصرية على المستوى الخارجي كما تفعل معظم الدول حاليًا .

ويمكن القول إن مصر قد ارتبطت بمكونها الإفريقي في لحظات محددة، اللحظة الأولى كانت الدولة الفرعونية التي امتدت اهتماماتها إلى بلاد بونت (الصومال)، واللحظة الثانية هي دولة محمد علي الذي ارتبط حلمه في تحديث مصر بالزراعة فسارع لاكتشاف منابع النهر، في بعثات كشفية، ومغامرات مسلحة، حتى يستطيع أن يطور القطاع الزراعي كرافعة للاقتصاد المصري، أما ثالث هذه اللحظات التاريخية فهي دولة يوليو التي ارتبطت بإفريقيا في زمن عبد الناصر في مشروع كبير ولكنها خانت إفريقيا في زمني السادات ومبارك، وها هي تحاول اكتشاف الزخم القديم حاليًا، ولكن بخطوات مازالت لم تملك كل أسباب النجاح.

امتلك عبد الناصر الإدراك الكافي لأهمية إفريقيا لمصر منطلقًا من السودان كنقطة ارتكاز، ولعل انخراطه في الحركة الوطنية المصرية فيما قبل الثورة ساهم جزئيًا في هذا الوعي، وبالتأكيد تكفل بالباقي خلفيته العسكرية المتضمنة نقاط الارتكاز المصري الاستراتيجية في إفريقيا على مدى التاريخ ، ولعله من المدهش هنا ما أثبتته وثائق المخابرات الحربية المصرية التي أتيح لي الاطلاع عليها زمن إعدادي الدكتوراة والتي تقول إن عبد الناصر قد طلب ملف السودان يوم 5 أغسطس 1952، أي بعد أسبوعين فقط على ما كان يسمي وقتها الحركة المباركة، وقد طلب عبد الناصر أيضًا مقابلة محمد صلاح الدين وزير خارجية مصر على زمن الملكية، والذي كان قائدًا لمفاوضات استقلال مصر والموقف من السودان في حكومات الوفد على مدى سنوات .

لم يكن الحكم قد توطد بعد لثورة يوليو، ولم يكن عبد الناصر هو واجهة الثورة ورمزها، بل كان الرئيس محمد نجيب ذو الأصول السودانية هو رجل الواجهة آنذاك، بينما كان الفعل لعبد الناصر، وربما الإدراك المتقدم لعبد الناصر بإفريقيا هو ما يفسر أن تكون إفريقيا أحد دوائر الاهتمام المصري الذي تم تحديدها في منهاج يوليو الأول فلسفة الثورة عام 1953.

وفي «فلسفة الثورة»، اعتبر عبد الناصر أنّ مصر واقعة في المركز من ثلاث حلقات: العالم العربي، والعالم المسلم، والقارّة الإفريقية؛ وعن الحلقة الثالثة كتب «إننا لن نستطيع بحال من الأحوال ـ حتى لو أردنا ــ أن نقف بمعزل عن الصراع الدامي المخيف الذي يدور اليوم في أعماق إفريقيا بين خمسة ملايين من البيض ومائتي مليون من الإفريقيين، لا نستطيع لسبب هام وبدهي، هو أننا في إفريقيا، ولسوف تظل شعوب القارة تتطلع إلينا، نحن الذين نحرس الباب الشمالي للقارة، والذين نُعتبر صلتها بالعالم الخارجي كله، ولن نستطيع بحال من الأحوال أن نتخلى عن مسؤوليتنا في المعاونة بكل ما نستطيع على نشر الوعي والحضارة حتى أعماق الغابة العذراء».

ولأن مصر دولة مصب لنهر النيل بينما منابع النهر خارجية، عمل عبد الناصر متسلحًا بإدراكاته السياسية والعسكرية، على دعم الدور الخارجي لمصر خصوصًا وأن معركته مع الاستعمار كانت تتطلب بناء التكتلات العربية والإفريقية معًا، فالتقط أطروحات ساطع الحصري حول القومية العربية وحولها بإرادة سياسية نشطة إلى واقع حي يناهض الاستعمار ويقف ضد كل مناطق وجوده من الخليج الثائر إلى المحيط الهادر، ومن القاهرة إلى كيب تاون .

أما على المستوى الإفريقي، فقد تحولت القاهرة إلى مركز مناهض للاستعمار حيث تم بناء كتلة العالم الثالث في مؤتمر باندونج، بينما كانت أولى محاولات بناء الكتلة الإفريقية المناهضة للاستعمار في غانا باجتماع أكرا عام 1958 وحضرته الدول المستقلة وقتها، منها مصر، وإثيوبيا، وليبيا، والمغرب، وتونس، والسودان، وليبيريا، وكان الغرض من المؤتمر وضع سياسة مشتركة للشئون الخارجية والثقافية والاقتصادية الإفريقية .

وقد انطلق نظام عبد الناصر في مقاومة أمرين  بإفريقيا، الأول الأدبيات الغربية التي قسمت القارة قسمين شمال وجنوب تفصلهما صحراء إفريقيا الكبرى، فأكد على وحدتها العضوية في كل خطاباته ، كما انطلق لدعم حركات التحرر الإفريقي التي تفجرت بقوة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية حيث احتضنت القاهرة زعماء هذه الحركات التحررية وأمدتهم بالسلاح والمال والدعم السياسي والدبلوماسي، وكان مقر الجمعية الإفريقية في الزمالك بالقاهرة بمثابة حضانة لتفريخ القيادات الإفريقية، حيث تعهدت مصر الثورة هذه القيادات بالتوجيه والدعم والصقل حتى نضجت واستطاعت أن تتحمل مسئولية الكفاح السياسي أو القتالي في ربوع القارة.

وهكذا باتت العاصمة المصرية ملجأ ومقرّاً للأنشطة الإفريقية ضدّ الاستعمار، كما استقبلت الجامعات المصرية مئات الطلاب الأفارقة، وتحولت إذاعة القاهرة إلى منبر للقوى والأحزاب الإفريقية المنادية بالاستقلال والتحرر، وعلى نحو تدريجي، تجاوزت مصر مفارقة انتمائها إلى العمق العربي أكثر من الإفريقي، وتحوّلت إلى أكثر دول شمال إفريقيا دفاعًا عن مفهوم الجامعة الإفريقية، المفهوم الجامع للأفارقة منذ فجر القرن العشرين كرد فعل فكري وسياسي على الاستعمار للقارة والاستعباد لأبنائها.

وكان عام 1960 عام التحرير الإفريقي، إذ حصلت 71 دولة إفريقية على استقلالها في هذا العام وحده، وعندما نحلل تيار التحرر في القارة الإفريقية نجد أنه اتجه من الشمال إلى الجنوب نتيجة لأسباب كثيرة، لا شك أن أهمها تأثير الدعم المصري الثوري لدول الجوار في الشمال الإفريقي، ومن أمثلة ذلك دعم الثورة المصرية للثورة الجزائرية، وكذلك نضال شعب تونس، وكفاح شعب المغرب إضافة إلى ليبيا والسودان، وامتد الزحف التحرري إلى شرق إفريقيا حيث الصومال وكينيا وأوغندا وتنزانيا، وخصوصًا استقلال الصومال الذى استشهد من أجله المصري كمال الدين صلاح.

وظل الدعم المصري يتدفق إلى أعماق القارة في الغرب والوسط والجنوب، مع غانا وغينيا ونيجريا والكونغو (زائير)، وقاومت مصر حركات الانفصال بعد الاستقلال خصوصًا في نيجيريا (منطقة بيافرا) حيث البترول، والكونغو (زائير) حيث توجد ثروات معدنية ضخمة فى كاتنجا، وفي جنوب السودان حيث التوجيه البريطاني لفصله واعتباره دولة تتوجه نحو المحيط الهندي، حيث شرق إفريقيا البريطانية (كينيا-أوغندا-تنزانيا).

ولعل نقطة النجاح الرئيسية لعبد الناصر أنه قد بلور أدوات تفاعل مناسبة مع إفريقيا في مرحلة ما بعد الاستقلال، فكان هناك أكثر من 52 مكتبًا لثلاث شركات قطاع عام تعمل في مجال التجارة الخارجية هي: شركة النصر للتصدير والاستيراد ولها النصيب الأكبر، مصر للتجارة الخارجية، ومصر للاستيراد التصدي، وكان لتلك الفروع المصرية دور هام في الترويج للمنتجات المصرية، ودعم التبادل التجاري المصري مع إفريقيا، بل والقيام بدور الوسيط التجاري مع العالم الخارجي لصالح الدول الإفريقية.

وقد تحولت صورة العربي في إفريقيا وتبدلت جذريًا، فمن صورة تاجر الرقيق التي ساهم الاستعمار وإسرائيل في تغذيتها دومًا، إلى صورة شريك التحرر، ولم يكن يسيرًا، في حسابات الاجتماع الإنساني التاريخي والجغرافي، أن يتحوّل العربي من تاجر رقيق وفاتح عسكري وديني، إلى شريك في التحرّر، ومشارك في التحرير، ولكن عبد الناصر وسياساته في إفريقيا أنجزت هذا الهدف .

كان من المطلوب مأسسة العلاقات الإفريقية، فكان عبد الناصر من الآباء المؤسسين لمنظمة الوحدة الإفريقية التي عقدت مؤتمرها الأول في أديس أبابا عام 1963، حيث اجتمع رؤساء 30 دولة إفريقية وتم إعلان إنشاء المنظمة والاتفاق على فتح عضويتها للدول الإفريقية المستقلة ذات السيادة، كما برز دور مصر في الحفاظ على روح ميثاق المنظمة منذ أول قمة إفريقية استضافتها على أرضها بعد التأسيس عام 1964، وبطبيعة الحال كان لعبد الناصر رفاق أفارقة في دربه الطويل نحو تحقيق الحلم الإفريقي في الاستقلال وتقدم الدول الإفريقية، منهم كوامى نيكروما (1909 ـ 1972) الذي تزوج من الشابة المصرية «فتحية رزق» التي أصبحت «فتحية نيكروما» وحظيت بشعبية كبيرة في غانا بعد ذلك، وتيمنًا باسم جمال عبدالناصر أطلقوا على أول أبنائهما اسم جمال وهو «جمال نيكروما» الذي يعمل في الأهرام حاليًا، كما مُنح الزعيم «نيكروما» الدكتوراة الفخرية من جامعة القاهرة عام 1958.

ومن رفاقه أيضًا، أحمد سيكوتورى الذي يعد من أبرز الوجوه التحررية الوحدوية في القارة السمراء، وناضل كثيرًا ضد الاستعمار الفرنسي لبلاده، وهو من مؤسسي منظمة الوحدة الإفريقية.

وقد ارتبط سيكتوري بعلاقات قوية بالرئيس جمال عبد الناصر الذي سميت باسمه أكبر جامعة في غينيا «جامعة جمال عبدالناصر» فى «كوناكرى»، ومنحه ناصر «قلادة النيل» أثناء زيارته مصر في 1961، وحصل على الدكتوراه الفخرية في التاريخ الإسلامي من جامعة «الأزهر الشريف» تقديرًا لدوره وكفاحه ضد المستعمر في القارة الإفريقية، أما عبد الناصر فحينما توفي في سبتمبر 1970 نعاه الرئيس الكيني «جومو كينياتا» بقوله: «أنا واحد من أمّة كبيرة فُجعت في الوالد العظيم»