إذا كنت من أولئك الذين ترتبت أمورهم المعيشية واعتمدت حسبتهم للستر، على فوائد شهادة أو وديعة استقرت في أحد البنوك، فاعلم أعزّك الله أن هذا لن يكون ممكنا بعد الآن، تخفيض سعر الفائدة على الشهادات والودائع سيستمر وهامش ربحك سيتناقص، وعليه فأمامك خياران إما إبقاء أموالك في البنوك مع إدراك أن دخلك سينخفض، أو البحث عن بدائل أخرى تحقق لك نفس الدخل إن أمكنك ذلك.
لماذا ارتفعت الفوائد؟ لماذا انخفضت؟ والأهم كيف نعوض انخفاض دخلنا؟
أسئلة نحاول الإجابة عليها في السطور التالية.
التعويم ورفع فوائد البنوك:
في الثالث من نوفمبر 2016 أصدر طارق عامر محافظ البنك المركزي قرارًا بتحرير سعر الصرف (تعويم الجنيه)، وترتب على ذلك أن قفز الدولار عدة قفزات حتى وصل إلى 19جنيهًا بعد أن كان 6.5 فقط من أشهر معدودات قبيل التعويم، وهو ما أدى بالطبع إلى تآكل مدخرات الناس إلى الثُلث تقريبًا.
أثنى البعض على التعويم حينها مثل رجل الأعمال “نجيب ساويرس” الذي وصفه بـ”الخطوة الممتازة التي تأخرت كثيرًا”، في حين رأى البعض الآخر أنه توقيت غير مناسب لاتخاذ ذلك القرار خصوصًا بعد اشتعال سعر الدولار في السوق السوداء.
مسؤول حكومي سابق (فضل عدم ذكر اسمه) تحدث إلينا عن تبعات ذلك القرار قائلًا القفزة الرهيبة للدولار كانت نتيجة لسوء إدارة العملية قبيل التعويم، وليس لاتخاذ قرار التعويم في حد ذاته، السعر العادل للدولار الذي كان يفترض أن يصل إليه هو ما بين 11 إلى 12 جنيهًا، والحديث مازال للمسؤول الحكومي الذي يستطرد قائلا لكن السبب الرئيسي في صعوده إلى 19 جنيهًا هو أن بعض “حيتان السوق”، و”ذوي النفوذ” نجحوا في تخزين كميات كبيرة من الدولارات في الفترة التي تحرك فيها من 6.5 إلى 8.5 ، بالطبع كانوا يحصلون عليه بسعر البنك الرسمي، يقولها الرجل آسفًا.
وبعيدًا عن تحليل أسباب صدور القرار المختلف عليها، والتي تناولتها الباحثة سلمى حسين باستفاضة في تقريرها “ثلاث أساطير حكومية عن تعويم الجنيه المصري“، فالمؤكد أن قفزة الدولار الجنونية في أعقاب التعويم أحدثت ربكة في السوق، وبدا الأمر مقلقًا لمتخذ القرار، وفي محاولة لامتصاص تلك الصدمة، قررت الدولة رفع سعر الفائدة البنكية والتي وصلت الى إصدار شهادات ادخار بعائد 20%، وهو ما يعادل ضعف العائد القديم، وبذلك عوضت المودعين نسبيًا عن فارق ارتفاع الأسعار، وامتصت غضب الشارع، فضلًا عن أنها حدت من الإقبال الجنوني على شراء الدولار والمضاربة فيه.
لماذا انخفضت الفائدة:
قرار الدولة برفع الفائدة البنكية ترتب عليه رفع سعر الفائدة أيضًا على القروض حتى وصلت إلى 25%، وكان المتضرر الأكبر من ارتفاع نسبة الفائدة على القروض هي الحكومة ذاتها، فوفقًا لتقرير البنك المركزي لنهاية الربع الأول لعام 2020، فإن الدين الداخلي (أموال اقترضتها الحكومة من البنوك المصرية) وصل إلى 270 مليار دولار، وعليه فإن تخفيض نسبة الفائدة سيؤدي إلى تخفيف عبء خدمة الدين (فوائده) من على كاهل الحكومة، وهذا هو السبب الأبرز لقرار خفض الفائدة كما يرى الدكتور مدحت نافع (خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل) الذي يستطرد حديثه معنا شارحا:
خدمة الدين أصبحت عبئًا كبيرًا على الموازنة العامة، وذلك يعود إلى خلل هيكلي بالأساس في تقدير نسبة الفائدة التي تقترض بها الحكومة من البنوك، المنطقي أن الحكومة حين تقترض من البنوك تأخذ بفائدة قليلة، لأن استردادها لأموالها مضمون ونسبة المخاطرة صفر، لكن الذي يحدث في مصر هو العكس، الدولة تُصدر “أذون خزانة” وهي قروض قصيرة الأجل لمدة عام، أو “سندات خزانة” وهي قروض طويلة الأجل، بفائدة عالية تكتتب فيها البنوك وتحصل على فائدة عالية.
وهنا يبدو أن الكل رابح، البنوك تسجل في دفاترها مكاسب جيدة، أي نعم لا تحصلها لكن ورقيًا هي رابحة، والحكومة تسد العجز لديها، أي نعم بديون داخلية لكنه بالأخير تسده.
لكن هذا المسار أدى إلى أن خدمة الدين الداخلي (فوائده) أصبحت مرعبة، وعليه أصبح اتخاذ قرار تقليص سعر الفائدة حتمي.
لم يكن من الممكن تخفيض سعر الفائدة دون انخفاض معدل التضخم، وارتفاع معدل النمو أولًا، وهو ما حدث بالفعل وسمح للدولة باتخاذ قرار تخفيض الفائدة، بالطبع هناك خلاف بين الاقتصاديين حول دقة الأرقام المعلنة وكيفية حسابها، لكن تظل تلك هي الأرقام الرسمية، والتي بناء عليها يتخذ صانع القرار قراره.
إلى أين تذهب أموال المودعين؟
قرار تخفيض الفائدة سيكون له أثر مباشر على المودعين بالبنوك، وهنا نحن نتحدث على نوعين من المودعين، “كبار المودعين” وهؤلاء فرص تحرك أموالهم صوب قطاعات استثمارية، و”صغار المودعين” الذين فضلًا عن أن أموالهم أقل من أن تتحول لممتلكات، فإنهم لا يجيدون مهارات التجارة، وتلك الشريحة هي المتضرر الأكبر ما لم تهيئ لهم الدولة فرص استثمار ملائمة لهم ولأموالهم.
مدحت نافع (أستاذ التمويل) يرسم لنا مسار حركة الأموال الخارجة من البنوك قائلا: مع تخفيض الفائدة سيرضخ قطاع من الناس للأمر الواقع، وتظل أموالهم في شكل ودائع أو شهادات البنوك حتى مع انخفاض الفائدة، أما الأموال التي ستخرج فتخص المودعين الأكثر ثراءً، وتلك الأموال من غير المتوقع أن تتحرك صوب النشاط الإنتاجي، الذي يحتاج إلى محفزات أخرى مثل سعر الطاقة والعمالة المدربة … إلخ، وهذا لم يتحقق حتى الآن، وعليه سوف تتجه الأموال إلى (العقار – البورصة – الذهب) وبشكل شخصي استبعد الذهب نظرًا لارتفاع سعره الآن، ليظل “العقار” المجال الأول تليه “البورصة”.
1- سوق العقار:
في مكتبه بوسط القاهرة استقبلنا “إيهاب ناصر” المطور العقاري الذي بدأ حديثه معنا قائلا: الفائدة العقارية لا تقل في مصر بأي حال من الأحوال عن 8% ولذلك تعتبر مخزن قيمة ممتاز، وعن اللحظة الراهنة، يحدثنا “ناصر” قائلا: انخفاض الأسعار نتيجة للكساد الذي أحدثته كورونا، فضلًا عن التسهيلات التي تقدمها الشركات الآن يجعل السوق العقاري في لحظة مناسبة جدًا لمن يرغب في الدخول فيه مستثمرًا، يستطرد “ناصر”: هناك عوامل عدة تضافرت لخدمة السوق العقاري اليوم، أولها خفض الفائدة البنكية التي ستنجم عنها سيولة في السوق ستضخ نسبة كبيرة منها في العقارات وتنشطه.
العامل الثاني، قرار الدولة بوضع كل مخططات المشاريع القومية المستقبلية (الطرق، الكباري، محطات المترو … إلخ) على الإنترنت، جعل جميع المطورين العقاريين يرون القادم بكل شفافية، وعليه أصبح تحديد أثمان الأراضي أكثر دقة وعدالة، فسابقًا كانت تلك المعلومات تسرب حصريًا لأصحاب السطوة فيسارعون إلى شراء الأراضي التي ستصبح مميزة بثمن بخس، اليوم هذا انتهى والفرص باتت متساوية.
العامل الأخير الذي سيأتي بشكل غير مباشر في صف من يريد الدخول لسوق الاستثمار العقاري اليوم، هو توسع الدولة في لعب دور المطور العقاري بنفسها سواء عن طريق هيئة المجتمعات العمرانية بشكل مباشر أو من خلال شركة سيتي ايدج (المملوكة لهيئة المجتمعات العمرانية وبنك التعمير والإسكان) هذا التوسع سحب البساط من تحت أقدام المطورين المعروفين، وأصبح لديهم أزمة سيولة، وعليه فكثير منهم يعلن عن تخفيض يصل إلى 50% من قيمة الوحدة حال الدفع كاش.
يختتم “ناصر” حديثه قائلا: المشكلة الحقيقة في مجال العقارات أنه حتى الآن حصري لمن يمتلك ملاءة مالية كبيرة نسبيًا، تمكنه من الدخول والشراء، أما أصحاب المبالغ المتوسطة والأقل من المتوسطة، فإن أملهم الوحيد هو تفعيل وتنشيط “صناديق الاستثمار العقاري” والتي ستسمح للجميع بالاستثمار مهما كان حجم أمواله.
2- البورصة:
أحد المسوغات المعلنة لقرار خفض الفائدة البنكية هو تنشيط البورصة، الحقيقة أن جملة “تنشيط البورصة” حاضرة في أحاديث كثير من مسؤولي الدولة، لكن أغلبنا علاقته بالبورصة هو ما يشاهده في الأفلام الأمريكية، شاشات عملاقة، رجال متأنقين، الجميع يتحدث في الهاتف ويصرخ…. فما علاقتي أنا وأنت بذلك، وهل لنا فرصه للعمل بها؟.
أحمد صقر، أحد المستثمرين في البورصة المصرية، تحدث إلينا عن واقعها شارحا: البورصة هبطت بشكل مرعب في العامين الماضيين وعملت قاع (وصلت لأدنى معدلاتها) ثم تحسنت قليلا، وقبل أن تتعافى أتت كورونا وأصيب الجميع بالرعب، فهبطت البورصة للقاع من جديد، كانت الأسهم تباع حرفيا بتراب الفلوس والحديث مازال لـ “صقر” الذي يضيف، أن الفرصة الذهبية لدخول البورصة كانت في شهر مايو الماضي، الأسهم كانت منهارة والبعض نجح في تحقيق مكاسب تجاوزت 200% في 4 أشهر بسهولة، لكن ما زالت الفرصة سانحة الآن وهناك أسهم كثيره أقل من قيمتها الحقيقية، وتخفيض الفائدة البنكية، ودخول البنك المركزي بمحفظة كبيرة سيحدث انتعاشة في البورصة لا محالة.
لكن ماذا عن الشخص العادي.. أنا وأنت هل ندخل البورصة؟ أم لا؟ وكيف؟، يجيبنا “صقر” عن هذا السؤال قائلًا: لو هذه الأموال هي كل ما تملك من حطام الدنيا فنصيحة “بلاش”، أما لو هذه المدخرات لديك استعداد لاستثمارها، فالفرصة سانحة شريطة إلا تشبك نفسك مع المضاربين سعيًا خلف وهم الثراء السريع، نصيحتي إن دخلت فادخل وأنت مدركًا أنك ستشتري السهم وتصبر عليه لمدة عام، ثم ترى هل حقق فأئده أكثر من البنك أم لا؟ وبشكل عام يمكنني القول إن 90% من الأسهم اليوم سوف تحقق لك ضعف أو ضعفين العائد البنكي.
يشرح “صقر” الفرق بين المستثمر والمضارب قائلا: المستثمر يبحث عن سهم متوقعًا أن ترتفع قيمته على المدى الطويل طبقًا لوضع الشركة وميزانيتها وحجم نشاطها، فيشتري ويقفل الشاشة ويبص عليها كل 3 أشهر أو حينما تحدث قرارات جوهرية سلبًا أو إيجابًا.
المستثمر يضع لنفسه مسبقًا نقطة دخول ونقطة خروج، حينما يصلها بعد 6 أشهر أو بعد سنة، يبيع ويخرج، أما المضارب فوهم الثراء السريع يجعله فريسة للمضاربين الحيتان، فيخسر أمواله بأسرع مما يتصور.
يختتم “صقر” حديثه معنا قائلًا بالطبع ليس مطلوبًا من كل مواطن أن يكون خبيرًا في البورصة أو يعرف كيف يقيم ميزانية الشركات أو يرصد حركة الأسهم، لذلك هناك في البلدان الأخرى فكرة الصناديق الاستثمارية، حضرتك تذهب إلى أحدهم وتضع أموالك في أحد محافظهم التي تتكون من عدة أسهم، تكوين المحفظة وإدارتها تتم بواسطتهم بصفتهم خبراء، وأنت لك الحساب الختامي معهم، ويوجد في مصر صناديق نجحت في تحقيق ارتفاع 40% هذا العام، المشكلة أنك كمواطن عادي صعب أن تضع أموالك بها إلا لو كانت أكثر من نصف مليون على الأقل!!.
قرار بتعويم الجنيه، ثم قرار برفع سعر الفائدة، ثم قرار ثالث بخفضها.
حزمة قرارات يراها البعض سليمة ويراها البعض الآخر خاطئة، لكن المتفق عليه أن المودع العادي (أنا وأنت) الذين لا تكفي أموالنا المحدودة لشراء عقار، ولا نجيد البيع والشراء، وبالطبع لا نفقه عن البورصة شيئًا.
المؤكد أننا الخاسر الأعظم في كل تلك المراحل، والمؤكد أيضًا أن على الدولة أن تنشط صناديق الاستثمار سواء في البورصة أو مجال العقارات، حتى يجد أمثالنا متنفسًا نضع في أموالنا المحدودة، ونحصل على عوائد تعيننا على الاستمرار مستورين… فقط مستورين.