المشهد الأول: تقترب المدفعية الثقيلة من منزله، تتعالى أصوات التفجيرات ودوي البارود في أذنه، التي لم تتخط السنتيمترات بعد، يقفز من مقعده حاملاً شاله، يحمل بين أنامله الصغيرة بعض الحجرة التي جمعها بالأمس القريب، يخرج مسرعًا نحو الأصوات العالية، متحديًا الآلة القاتلة المصوبة نحوه، يلقي الحجارة في وجهها دفاعًا عن وطنه، غير مكترث بشبح الموت الذي يحوم حوله.
المشهد الثاني: يقف شخص ضخم البنية، تبرز ملامحه الغليظة من خلف لحيته الطويلة، يعلوه رداء أسود فضفاض، و “عقالة” تحيط برأسه، ينادى بصوت مرتفع، فيخترق صدى صوته حجرة صغيرة، يتسلل لها النور من فتحات متفرقة تروى قصص معارك مسلحة دارت قريبًا، على الأرض تفترش أجساد نحيلة أرضية أسمنتية غليظة، يعزلهم عنها مفارش مهلهلة، ينهضون مسرعين نحو مصدر الصوت، ممسكين بمعدات عسكرية لا تتناسب وحجمهم الضئيل، يجدون وجبة الإفطار في انتظارهم، وعلى أنغام الموسيقى الحماسية، يتناولون بعض اللقيمات، استعدادًا لبدء تدريبات عسكرية فرضتها عليهم جماعات لا تعرف الرحمة.
المشهد الثالث: يستيقظون باكرًا، بأمر من مديرة الملجأ، يرتدون ثيابًا نظيفة زاهية، لم يرتدوها من قبل، وربما تكون المرة الأخيرة التي يرتدونها فيها، يتعطرون، وتصفف شعورهم، فتظهر جمالهم الرباني، الذي يغيب في الأيام العادية المشابهة.
لم تنس الذاكرة بعد، واقعة استغلال حركة “الشعب يأمر” لأطفال أيتام للترويج لمؤتمر سياسي
يحملون صورًا لشخص مجهول، لا تستطيع ذاكرتهم البكر حصر حروف اسمه، وبجانب الصورة بعض الزهور، تداعب أناملهم الضعيفة التي سئمت من الوقوف طويلًا انتظارًا لصاحب الصورة المرموق، القادم من حزبه السياسي استعدادًا لاصطحاب تلك الوجوه الضعيفة، لتقدمه للمجتمع الذي يرغب أن يكون نائبًا عنه، بعد أن جعلهم حرسًا شرفيًا، لذاك السياسي المرموق الذي استخدمهم توًا قربانًا لنيل المنصب.
3 مشاهد، أبطالها أطفال، أجبرتهم الحياة على الدخول في معارك لا علاقة لهم بها، وجعلتهم رغمًا عنهم جزءًا من الحياة السياسية، ولاعبًا أساسيًا بها، وما بين معركة وطنية وأخرى استغلالية، ضاعت الطفولة في البلدان العربية.
الطفل العربي والسياسة
تشهد الحالة السياسية في العالم العربي، العديد من التغيرات، التي تختلف ما بين قضايا داخلية تشمل الممارسات السياسية، وقضايا خارجية تشمل حروب حول الهوية ودفاعًا عن الحدود.
وفى ثنايا تلك التغيرات، كان الطفل العربي، دون غيره من الأطفال- مشاركًا بقوة، وحاصلًا على مهمة “حصرية” في ممارسة اللعبة السياسية، ليتحول إلى سياسي بلا منهج، ومحارب بلا سلاح.
وعلى مدار العقود الماضية، اختلفت صورة استغلال الطفل العربي، وإقحامه في اللعبة السياسية، نتيجة للظروف التي تواجهها البلدان العربية.
ففي مشهد يبرز أسوء أنواع الاستغلال، استخدم الأطفال في الترويج للكيانات السياسية سواء الأحزاب أو الحركات السياسية، بخلاف استخدامهم للترويج للعمليات الانتخابية، أو التودد لشخصية سياسية.
لعل مظهر أطفال جماعة الإخوان، وهو يرتدون الأكفان أثناء اعتصام رابعة، من أكثر المشاهد التي هزت الرأي العام
وربما لم تنس الذاكرة بعد، واقعة استغلال حركة “الشعب يأمر” لأطفال أيتام للترويج لمؤتمر سياسي، وهو الأمر الذي تم التحقيق فيه من قبل وزارة التضامن الاجتماعي.
استغلال آخر تعرض له الأطفال خلال انتخابات مجلس الشيوخ المصري، الذي اعتمد فيه بعض المرشحين على استخدام الأطفال للداعية له من خلال رفعهم صورهم وارتداء ملابس تحمل شعارات مؤيدة لهم، بما يتنافى مع قانون الطفل الذي يجرم استغلال الأطفال في الحملات الانتخابية، بخلاف استغلالهم للدعاية للأحزاب كما حدث في كفر الدوار من استخدام أطفال للدعاية لحزب النور السلفي، وهو الأمر الذي كان ينفذه الحزب الوطني، والذي كان يعتبر الأطفال أداة هامة في الترويج لكافة تحركات مرشحيه
التظاهرات أيضًا بات للأطفال دور كبير فيها، فظهروا في أكثر من حدث يحملون الحجارة وزجاجات المولوتوف ويلقونها على قوات الأمن مرددين شعارات لا قبل لهم بها، ومؤخرًا ظهر الأطفال مشاركين في المظاهرات التي دعى لها المقاول الهارب محمد على- الأمر الذي أسفر عن إلقاء القبض على عدد منهم، ثم إطلاق سراحهم بعد ذلك.
في تونس لم يختلف الأمر كثيرًا، تكررت مشاهد استغلال الأطفال سياسيًا، والتي كان من أشهرها، استخدامهم في فاعليات مطالبة بالإفراج المرشح الرئاسي آنذاك نبيل القروى، إذ لقن الأطفال لشعارات منددة بالقضاء، وظهروا حاملين صورًا للقروى، الأمر الذى أثار الاستياء من هذا الاستغلال للأطفال.
الجزائر كذلك شهدت استغلالًا للأطفال في حالت الاحتجاج التي وقعت العام الماضي، والتي شهدت تواجدًا كثيفًا لأطفال ثائرين، ينددون ببقايا النظام القديم، ويطالبون برحيلهم، وهو الأمر الذي اعتبره المتخصصون انتهاكًا صريحًا لحقوق الطفل.
ضرورة توفير حماية خاصة للطفل وأن تمنح له الفرص والتسهيلات اللازمة لنموه الجسمي.. اتفاقية حقوق الطفل معايير تضمن حماية الأطفال
ولم يكن استغلال الأطفال في قضايا سياسية بعيدًا عن الإمارات، التي استخدمت الأطفال للترويج لعملية التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، فظهر أطفال الإمارات يرتدون “تيشيرتات” تحمل العلم الإسرائيلي، وآخرون يلوحون به في فيديوهات نشرت على وسائل التواصل الاجتماعي.
الأطفال كلمة السر بالكيانات المتطرفة
اغتيال الطفولة هو الشعار الذي رفعته الجماعات المتطرفة بمختلف أيدلوجياتها، بعد أن استخدمت الطفل في أبشع صور الاستغلال السياسي المتطرف على مر التاريخ.
ولعل مظهر أطفال جماعة الإخوان، وهو يرتدون الأكفان أثناء اعتصام رابعة، من أكثر المشاهد التي هزت الرأي العام، واعتبرتها مراكز حقوق الإنسان، جريمة تستحق العقاب، بخلاف استغلال الأطفال في التظاهرات المناهضة للنظام المصري، واجبارهم على استخدام المولوتوف للتصادم مع القوات الأمنية، ووضعهم في معادلة الهجوم على مصر في المحافل الدولية.
أما تنظيم داعش، فقد استغل الأطفال بصورة أكثر وحشية، من خلال تنفيذهم لعمليات انتحارية، واستخدامهم في المواجهات المسلحة، وتدريبهم عسكريًا، ورفض أي مظاهر ترفيهية يلجا لها أطفال التنظيم بحكم مرحلتهم العمرية، وإجبارهم على استخدام السلاح من سن صغيرة، وتعليمهم الاحكام المتطرفة التي من خلالها يتحولون للتطرف بسهولة وهو ما أطلقوا عليه ” أشبال الخلافة”.
الأمر نفسه قامت به جماعة بوكو حرام المتطرفة والتي جندت الأطفال واستخدامهم في عملياتها الإرهابية، وتدريبهم قبل سنّ الـ15 عامًا لاستخدام السلاح، وإعدادهم لمواجهة السياسة بمعناها الحالي، والتصدي لمعنى الدولة والوطنية والديمقراطية واستبدالها بمعاني الخلافة والحكم الديني والجهاد
أطفال المقاومة المشروعة
على الطرف الآخر يقف أطفال المقاومة المشروعة، على رأسهم أطفال فلسطين الذين يجدوا أنفسهم منذ الصغر، أطراف في المعادلة السياسية العالمية، وضحايا لوطن محتلة وصراع سلطات متناحرة.
واستغل الطفل الفلسطيني أسوء استغلال من خلال المتاجرة بقضيته، واستغلالها والحديث باسمه في جميع المحافل الدولية، ومع ذلك استمر وضعه قائمًا مع كل سلطة تولت أمره.
ممارسة سياسية أخرى وجد الطفل الفلسطيني نفسه موجودًا فيها، وهي المواجهات التي كان يتصدى لها مدافعًا عن أرضه وظهر متحديًا الكيان المحتل في مواجهات وثقت عدة مرات، وهى الممارسة السياسية المشروعة، والتي حرمته رغمًا عنه من الحصول على العديد من حقوقه.
تلعب تنشئة الطفل وسط أجواء تحكمها المعايير السياسية، دورًا كبيرًا في تكوين شخصيته، والتي غالبًا ما تتأثر نتيجة لتلك التنشئة
على صعيد آخر، يقف أطفال ليبيا، والعراق، وسوريا، في معترك سياسي ملتهب، يمارسون فعل المقاومة ضد جماعات مسلحة، قررت إما تجنيدهم، أو تشريدهم، أو قتلهم، أو حرمانهم من الحياة الآمنة.
المجتمع الدولي وحقوق الطفل
وضعت اتفاقية حقوق الطفل معايير تضمن حماية الأطفال من كل أشكال الاستغلال، وحددت في مادتها الثانية، ضرورة توفير حماية خاصة للطفل وأن تمنح له الفرص والتسهيلات اللازمة لنموه الجسمي، والعقلي، والخلقي، والروحي، والاجتماعي، نموًا طبيعيًا سليمًا في جو من الحرية والكرامة.
أما في المادة الثامنة من الاتفاقية، نصت على أن يتمتع الطفل بالحماية من جميع صور الإهمال والقسوة والاستغلال، وأنه ولا يجوز استخدام الطفل قبل بلوغه سن الرشد، حيث تحدد سن الطفل حتى 18 سنة، كذلك حظر في جميع الأحوال حمل الطفل على العمل أو تركه يعمل في أية مهنة أو صنعة تؤذي صحته أو تعليمه، أو تعرقل نموه الجسمي، أو العقلي، أو الخلقي.
كما نصت حقوق الطفل على أن يحاط الطفل بالحماية من جميع الممارسات التي قد تضر به كالتمييز العنصري، أو الديني، أو أي شكل آخر من أشكال التمييز، وأن يربى على روح التفهم والتسامح والسلم، والإخوة العالمية والصداقة بين الشعوب.
ورغم تعدد الشعارات التي تحملها اتفاقية حقوق الطفل، إلا أنه يتم استغلاله بصور شتى، دون وجود تدخل حقيقي من المجتمع الدولي.
خطر استغلال الطفل سياسيًا
تلعب تنشئة الطفل وسط أجواء تحكمها المعايير السياسية، دورًا كبيرًا في تكوين شخصيته، والتي غالبًا ما تتأثر نتيجة لتلك التنشئة.
وحول هذا تقول الدكتورة رحاب العوضي، أستاذ علم النفس السلوكي، إن تنشئة الأطفال من خلال غرس معاني الوطنية وحب الوطن واحترام الجيوش، أمر هام في تنشئتهم وتكريس معاني الولاء والانتماء داخلهم.
تشهد الحالة السياسية في العالم العربي، العديد من التغيرات، التي تختلف ما بين قضايا داخلية وخارجية
وتضيف: “ولكن ممارسة الطفل للحياة السياسية أمر خاطئ ويؤثر على تكوينه بعد ذلك، فمثلًا الطفل الذي أجبر على دخول الحياة السياسية في جماعة الإخوان، والمشاركة في المظاهرات والتواجد في الفاعليات الكبرى والمواجهات الأمنية، نتج عنه ظهور حالات انتحار وإلحاد وتطرف وبعضهم كره الدين والأوطان، وآخرون انتشر بينهم الاكتئاب وأصبحوا إما متطرفون بشدة أو سلبيون بشدة، ينكرون أي شيء، بخلاف ميولهم الهدامة، نتيجة لتلك الممارسات”.
تكمل قائلة: “الطفل الذي ينشأ في دولة محتلة أمره مختلف، لأنه يتربى بمفاهيم المقاومة والوطنية، وهو أمر يجعله متشبع بمعاني الولاء، ولكن في الوقت نفسه يجعله معرض للاضطرابات النفسية التي لو لم تتم معالجتها تؤثر في تكوينه، وقد تجعله إما خاضع تمامًا أو متمرد”.
وأكدت “العوضي” على ضرورة العمل على تأهيل الأطفال الذين يقحمون في الحياة السياسية، لأن عدم تأهيلهم يؤدى لظهور أجيال أكثر تطرفًا، أو يعانون من مشكلات نفسية يصعب مواجهتها فيما بعد.