إلى أن يصبح الملوك فلاسفة أو يصبح الفلاسفة ملوكا لن يبرأ هذا العالم من الشرور، رؤية طرحها الفيلسوف اليوناني الشهير “أفلاطون” في مقتبل عمره، بينما كان يعد كتابه حول المدينة الفاضلة “الجمهورية”، وبينما كان يضطلع بإعداد هذا الكتاب بدأ في وضع أسس نظام التربية والتعليم “الموجه” لكي يتمكن من الوصول إلى غايته المثلى “تنشئة الأطفال ليصبحوا فلاسفة ثم ليصبحوا ملوكا” فالقضية -كما ظن-  تكمن في “العقل”، وكلما تمكن المجتمع من تنمية الوعي كلما كان الطريق ممهدا نحو إرساء أسس المدينة الفاضلة.

وعندما واتته الفرصة لتطبيق نظريته وافق على الفور، حيث تم استدعائه لتربية ولي عهد إحدى الممالك في عصره، وراح يعلم الفتى الصغير أسس الفلسفة، يحدثه عن الخير والحق والجمال، ويدربه على القتال وركوب الخيل، ويمنحه ساعات من الصفاء لسماع الموسيقى والاستمتاع بالفنون، أخلص أفلاطون لما يعتقده صوابا، ورأى في الفتى برهانا عمليا على صدق نظريته، التي تعلي من شأن الفكرة، وتمنح العقل الميزة الأساسية في جوهر الإنسان وماهيته، فهو الحيوان العاقل، وبدون العقل لا يمكن تفرقته عن الكائنات الحية الأخرى، صنع الرجل نموذجا حيا لأفكاره أو هكذا ظن، وعندما حان الوقت ليجلس الفتى على كرسي العرش، كانت سعادته غامرة، فها هي فكرته تنمو وتأتيها الفرصة لتصبح حقيقة، نموذجا عمليا يحتذى.

ما حدث بالفعل كان صادما لمفكرنا، لم يختلف الملك الجديد كثيرا عن سابقيه من الملوك، بل كان أشد دموية وشراسة وقسوة، وراح يرغم الناس على اتباع أفكاره بالقوة، ويبرهن بالعقل على صدق ما يقول، ويؤكد للقاصي والداني أن الحق والخير فيما يقوم به من أفعال وإجراءات، ولم يسلم معلمه “أفلاطون” نفسه من وطأة سلطويته، فقبض عليه وباعه عبدا لأحد المواطنين، ولولا أن رآه أحد تلاميذه وافتداه لظل هكذا حتى مماته.

ارتبك الرجل واختلط الأمر عليه، بدأ يسأل نفسه:

في أية مرحلة قد أخطأ؟!

ما الذي علمه للفتى أوصله لهذا الحد من التسلط ؟!

أين تكمن المعضلة؟!

لم يكن الجواب سريعا، لقد احتاج أفلاطون إلى سنوات طويلة ليكتشف الجواب، ويبدأ في الاضطلاع بكتابه -غير المشهور- الذي صاغه ليكون الجواب…

في هذا الكتاب “القوانين” طرح أفلاطون رؤية مغايرة لرؤيته في كتابه السابق “الجمهورية”، حيث أعلى من شأن النظم، وأسس مدينته الفاضلة على القوانين، فالقواعد والقوانين تأتي في المقام الأول، ومن ثم بدأ في طرح الركائز التي ينبغي أن تؤسس لقوانين عادلة ونموذجية من شأنها أن تطور الاجتماع الإنساني، وتوضح الأسس السياسية لاتخاذ القرارات السليمة.

لقد تطور الفكر الإنساني كثيرا منذ أفلاطون وحتى اللحظة الراهنة، وتطورت معه الرؤى والنظريات السياسية تطورا ملحوظا، ولكن ظل هناك مسألة واحدة مازالت محط اهتمام وتساؤل الكثير:

أيهما أهم للمجتمع ولتطوره الملوك أم القوانين؟!

ما الذي ينبغي أن نضعه في الصدارة ملكا عادلا أم قانونا عادلا!

تقوم الدولة الحديثة تأسيسا على مفهوم (العقد الاجتماعي) وهو مفهوم عالماني بامتياز. وقد بدا للوهلة الأولى مفهوما افتراضيا من الناحية التاريخية، بينما بدأت ممارساته العملية عبر الآليات العالمانية/الديموقراطية التي أخذت تتعين وتتشكل تباعا، والتي أتاحت للفرد (المواطن) حق اختيار من يحكمه، وحق محاسبته، وفق آليات مؤسسية تم الاتفاق عليها، واعتمادها اجتماعيا وسياسيا، ومع تطور هذه الممارسات السياسية والديموقراطية بدأ يتشكل  في الفراغ الاعتباري (مجالا عاما) ما بين (الفرد) و(الدولة) يشكل فضاء اجتماعيا/ثقافيا تعول عليه مؤسسات المجتمع كثيرا عبر مساحات للتعبير عن الرأي تسمح للمواطنين بتنظيم أنفسهم، وعبر مساحات للفعل تسمح بتشكيل تنظيماتهم التي تتيح لهم التعامل مع ممارسات مؤسسات الدولة من ناحية، ومؤسسات المجتمع من ناحية أخرى في إطار من السلم الاجتماعي ومن خلال فعل الديموقراطية، فمن خلاله يستطيع المواطنون أن يكونوا خارج الدولة  بوصفهم ناقدين ومراقبين لها، إذ يعبر المجال العام عن المصالح والمشاعر على مستوى الخاص، وعلى المستوى المجتمعي عبر أشكال تنظيمية متنوعة، ويضفي قدرا من الاتساق على المشاعر المتفرقة، ويمنح قوة (جمعية) للرؤى الفردية المبعثرة والمشتركة في آن واحد. ومن ثم يسمح من خلال تنويعاته المختلفة بتيسير وإدارة الصراع الاجتماعي إدارة سلمية بعيدا عن العنف عبر آليات ديموقراطية، ويرسل رسالة الى الحكام تتعلق بالإرادة الجمعية للفاعلين الاجتماعيين المستقلين تعبر عن اتجاهات (الرأي العام).

وبصرف النظر عن الجدل الفلسفي الدائر حول طبيعة الإنسان التي تدفعه إلى تشريع القوانين داخل المجتمع، وهل يميل إلى الخير بفطرته، أم هو ميال للشر بطبعه، فلقد شرعت القوانين من أجل تنظيم العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع سواء بين أعضائه وبعضهم البعض، أو بينهم وبين حكامهم، وهذا في الوقت ذاته الذي يمثل فيه القانون وسيلة الردع التي تحافظ على البناء الاجتماعي، وتحفظ سلمه العام بوصفه أداة ضبط اجتماعي تهدف إلى الحفاظ على أمن وسلامة الأفراد والهيئات داخل المجتمع، من خلال القواعد القانونية التي تفصل في النزاعات التي تحدث أو يمكن أن تحدث على مستوى الأفراد أو الهيئات.

ولكي يصبح القانون مقبولا على المستوى الاجتماعي ينبغي له أن يكون مسايرا لمنظومة القيم التي تسود المجتمع، ومعبرا عنها، ومستندا في صميمه إلى ما يؤمن به المجتمع من مثل عليا، وغايات قصوى، تأتي في مقدمتها على الإطلاق قيمة العدل بوصفها المبدأ العام الذي يحكم شرعية القانون ويمنحه مبررات وجوده.

وعلى الرغم من كون مفهوم العدل مفهوما يثير كثيرا من الجدل في توصيفه العام باعتباره قيمة معيارية تختلف عبر الزمان والمكان، وتتباين معانيه من مجتمع إلى آخر، إلا أننا يمكن أن نضع مجموعة من المحددات العامة التي يمكن من خلالها الحكم على قانون ما ووصفه بالعدالة، أو نمنع عنه مثل هذه الصفة، وهذه المؤشرات تبدو مقنعة ومبررة في حد ذاتها لكي تصل إلى الاتفاق العام داخل المجتمع، إذ ينبغي لأي قانون عادل أن ينطوي في ذاته على مبدأ المساواة، وأن يطبق على جميع الحالات والأشخاص دون خوف أو محاباة، ودون تفريق بين غني وفقير، قوي وضعيف، حيث يمثل القانون الذي يطبق على الجميع دون تمييز تجسيدا عاما لمفهوم العدل.

وتتضمن المساواة بمعناها الشكلي والموضوعي أن يتسم القانون _ قدر الإمكان_ بالشمولية، حيث يستند على مجموعة من القواعد التي تتسم بالعمومية، حتى عندما تعرض في طياتها لحالات خاصة، أو استثنائية، أو افتراضية، فمن يرتكب مخالفة سيعاقب عليها دون تمييز لفرد أو محاباة وتحيز لفئة، وسيتم محاكمته في إطار من الحيدة والنزاهة التي يضمنها القانون في حد ذاته، وفق مجموعة من الشروط والقواعد الموضوعية والمعلومة سلفا للجميع، فمبدأ الحيدة والنزاهة عندما يستشعرها الفرد يمنح القانون شرعيته، ويعلي من قيمته، ويدخله في نطاق ومحتوى العدالة المنشودة.

إن شرعية القوانين مثلما تأتي نتيجة كونها متسقة ومتماشية مع المبادئ العامة التي يرسيها المجتمع، سواء أكانت من خلال صيغة مكتوبة في دستور عام يرتضيه الجميع، أو في إطار صيغة عرفية متفق عليها، تأتي أيضا نتيجة شعور أفراد المجتمع بعدالة القوانين، وعدم الإحساس بالمظلومية سواء بطريقة فردية أو جماعية تجاه قانون ما سواء في محتواه العام، أو في إطار عملية التطبيق، فالظلم والإحساس بالمظلومية لا يمكن أن يذهب طي النسيان، يظل حبيسا حتى يتمكن الفرد من درء الضرر الواقع عليه جراء  ظلم وقع عليه، أو  شعور به يتملكه، بل ربما يورث من جيل إلى جيل، ومن ثم فالقانون الظالم قد يمكن تطبيقه بالقوة والبطش، ولكن لا يمكن أن يستمر وينطوي على مشروعية في إطار رفض عام من المجتمع أو حتى فئة من فئاته.

ويأتي الإنصاف في نهاية المطاف كسمة أساسية من الضروري أن يتسم بها القائمون على القانون، ليمنح القوانين مشروعيتها، فالنظام (العدلي) يجب أن يتضمن إجراءات تؤكد على مبدأ الإنصاف، فلا عدل بلا رحمة، ولا عدالة بدون اللجوء إلى روح القوانين، وليس فقط تطبيقها من خلال تفسيرات حرفية، شريطة أن ينال الجميع حقه في الإنصاف، وينظر لهم بعين الرحمة إن وجدت، فإن كانت القوانين قد تأسس وجودها على ضرورة كبح جماح ونزوات الإنسان الطارئة، ولضبط سلطة القائمين علي المجتمع وتنظيم العلاقات البينية داخله، وفض النزاعات بين أفراده، وهو الأمر الذي قد يبدو مقبولا بين غالبية أفراد المجتمع، يظل إعمال القوانين في إطار من الحيدة، والنزاهة، وعدم التمييز، وفي مناخ من الإنصاف والرحمة هو ما يمنح القوانين مشروعية وجودها.