بتوقيع اتفاقية جوبا نجح السودان في تحقيق خطوة مبدئية نحو محاولة تحقيق استقرار سياسي.

استقرار سعى السودان إليه طويلا واستغرق معظم تاريخه المعاصر الذي حفل بحروب أهلية ونزاعات مسلحة واسعة النطاق، أقعدت هذا البلد الشقيق عن تحقيق تنمية اقتصادية، هي مطلوبة بإلحاح عبر عقود، والفشل فيها كان ولا يزال سببا أساسيا من أسباب الثورات السودانية المتتالية في الستينيات والثمانينيات فضلا عن ثورته الأخيرة عام 2019.

وقد حظي اتفاق جوبا بدعم إقليمي ودولي وتهليل إعلامي داخلي في دولتي السودان لايستهان به، فضلا عن الترحيب الإقليمي والدولي والذي عكسه مستوى حضور حفل التوقيع، حيث حضر ممثلا عن مصر رئيس الوزراء الدكتور مصطفي مدبولي. 

 

ما هي أسباب الاحتفاء بهذه الاتفاقية؟

ويبدو لي أن هذا الزخم مصنوع بامتياز، ذلك أن هذه الإتفاقية جزئية، ومن المطلوب أن  تتحول إلى اتفاقية شاملة بتشجيع إنضمام طرفين مهمين لم ينضويا تحت مظلة هذا الإتفاق، هما حركة تحرير السودان في جبال النوبة بزعامة عبد العزيز الحلو، وحركة تحرير دارفور بقيادة عبد الواحد نور.

ويبدو لنا أن الاحتفاء باتفاقية جوبا يستجيب للأشواق الشعبية في السلام، بعد أن  حصدت الحروب الأهلية السودانية أرواح ملايين يقدرهم البعض بما يفوق 2 مليون نسمة، كما تسببت في نزوح مالايقل عن 10 ملايين نسمة من أماكنهم الأصلية، فضلا عن خسائر اقتصادية بنحو 600 مليار دولار عبر ما يزيد على 60 عاما من عدم الاستقرار.

هذه الخسائر الكبيرة للسودان كان لها أكبر الأثر على حالة مؤسسة الدولة حيث اتسمت تاريخيا بالضعف والهشاشة، كما أِثرت سلبيا  على حالة الاندماج الوطني بين المكونات السكانية للسودان خصوصا مع حالة التنوع العرقي والثقافي.

من هذه الزوايا نستطيع أن نتفهم  بنود التمييز الإيجابي على المستوى السياسي التنموي لبعض الأقاليم، وكذلك اللجوء إلى الفيدرالية كمدخل لحل العلاقة الدستورية بين المركز المسيطر تاريخيا على الثروة والسلطة وبين الأطراف التي تعرضت لتهميش تنموي تاريخي، فضلا عن منح حق الحكم الذاتي لبعض المناطق، إقرار بالأمر الواقع ربما،وتشجيعا لأطراف مازالت خارج الإتفاق غالبا بأن مراكزهم القانونية داخل مناطقهم سوف تُصان.

 

وما أهم ما تنص عليه اتفاقية جوبا؟

شملت الاتفاقية نحو 8 بروتوكولات متعلقة بإقليم دارفور، وواحد خاص بمنطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان التي تشهد نزاعا مسلحا منذ العام 2011، بجانب بروتوكولات خاصة بشرق ووسط وشمال السودان. 

وقد منح اتفاق جوبا تحالف الجبهة الثورية الدارفوري على المستوى القومي 3 مقاعد في المجلس السيادي ليرتفع عدد أعضائه إلى 14، وعلى المستوى الوزاري 5، وفي المجلس التشريعي ربع عدد المقاعد أي 75.

في هذا السياق تم الاتفاق على العلاقة الدستورية بين المركز والأقاليم أو الولايات كما  يطلق عليها في السودان علاقة فيدرالية علماً أنه لم يتم التطرق على نحو تفصيلي إلى مفهوم دقيق لهذه الفيدرالية، خصوصا مع تعدد نماذج تطبيقاتها دوليا.

 

وما حجم المحاصصة وسياسات التمييز الإيجابي؟

ويمكن القول أن منهج المحاصصة كان حاضرا بامتياز في هذه الإتفاقية متأثرا ربما بالهندسة الأميركية لاتفاقات السلام سواء في السودان أو العراق، حيث دشن اتفاق نيفاشا للسلام الموقع عام 2005 بين شمال السودان وجنوبه قبل استقلال الأخير في 2011 مفاهيم تقاسم الثروة والسلطة، التي قد تكون استجابة سياسية وتنموية لمناطق الهامش، لكنها أيضاً تفتح الباب واسعاً أمام الاستقلال السياسي إذا توافرت إرادة دولية له، كما جرى في جنوب السودان.

منتسبو دارفور في هياكل السلطة الولائية 40%، وهي نسبة ستكون موضوعاً لجدل وخلاف سياسيين بين الدارفوريين في حال انضمام عبد الواحد نور إلى الاتفاق لإنه لن يقتنع بنسبة 10% للحركات الملتحقة باتفاق جوبا، أما بقية مكونات السلطة الانتقالية فلها 30%، وللقيادات المحلية 20%، شرط أن يكون رئيس الحكومة الولائية دارفورياً.

وقد سار الاتفاق بمنطق المحاصصة نفسها في مسار ولاية النيل الأزرق وشرق السودان وشماله لكن بنسب مختلفة، وتم انتهاج سياسات التمييز الإيجابي لصالح المسارات الولائية في الخدمة المدنية بحيث تكون مقصورة على أبناء هذه المناطق لعشر سنوات مقبلة.

 

كيف قسمت الاتفاقية الثروات والموارد الطبيعية؟

علي المستوي الإقتصادي والتمويلي فاز إقليم دارفور بنسبة 40% من إيراداته تخصص له لمدة عشر سنوات كاملة، طبقاً لاتفاق إبريل (نيسان) الماضي، ومنح سكانه نسبة لا تقل عن 3% من إيرادات الموارد الطبيعية، في المناطق التي تستخرج منها.

وقد التزمت الحكومة الانتقالية بتوفير مبلغ 100 مليون دولار أميركي خلال شهر من تاريخ التوقيع على الاتفاق وتلبية متطلباته كافة بمبلغ سنوي قدره 750 مليون دولار أميركي لمدة 10 سنوات، يحوّل إلى صندوق دعم السلام والتنمية المستدامة في الإقليم.

وفي هذا السياق سيتم تشكيل “المفوضية القومية لقسمة الموارد والإيرادات المالية وتخصيصها ومراقبتها”، يُعين رئيس الوزراء رئيساً مستقلاً لها ويصدر قانون تفعيل لها في مدة أقصاها ثلاثة أشهر من التوقيع على الاتفاق.

ونظرا لظروف الإقتصاد السوداني المتردية من المتوقع أن تساهم دول الخليج في متطلبات السلام في السودان وهو مابدا واضحا من تصريحات المسئولين في كل من الإمارات والسعودية، وإن كان صوت أبوظبي أعلي كثيرا من غيرها من العواصم العربية في هذا الصدد، حيث اهتم محمد بن زايد بإعلان دعم غير محدود لاتفاق جوبا.

 

وما أهم ضمانات تنفيذ الاتفاقية؟

أهم بند لضمان تنفيذ بنود الاتفاق سيادة أحكامه على الوثيقة الدستورية، حيث اتفق الطرفان على إدراج اتفاقيات السلام الموقعة في الوثيقة الدستورية ويُزال التعارض بتعديل الوثيقة، إذا اقتضى الأمر كما يؤرخ لبداية الفترة الانتقالية المتفق عليها في الوثيقة، وهي 39 شهرا، اعتبارا من 3 أكتوبر تاريخ التوقيع على الاتفاقية.

المكون الأمني للاتفاقية كان أحد أهم أسباب إستمرار التداول بشأنها حوالي 10 شهور كاملة، وهو المرتبط بتسليم المدانين في انتهاكات دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية، ما يعني استقرار السودان بمكوّنَي الحكم المدني والعسكري على تسليم الرئيس المخلوع البشير، وكذلك ثلة ليست بالقليلة من أركان حكمه القابعين الآن في السجون.

أما البروتوكول التفصيلي الذي عطّل التوقيع لشهور فقد نصّ على وقف إطلاق النار الشامل والأعمال العدائية وإيصال المساعدات الإنسانية، ودمج وتسريح قوات الحركات المسلحة بعملية مرحلية تبدأ خلال 3 أشهر، وتشكيل قوة مشتركة لحفظ الأمن في الإقليم من القوات المسلحة والدعم السريع والشرطة والحركات المسلحة تقدر بـ 20 ألف عنصر .

وقد ألزم الاتفاق الحكومة الانتقالية بإصدار عفو عام وإسقاط البلاغات والأحكام القضائية كافة الصادرة بحق قادة الحركات المسلحة, وتحقيق العدالة الانتقالية لضحايا الحرب, مع عودة النازحين واللاجئين وتعويضهم وتمكينهم من استعادة أراضيهم التاريخية.

 

وماذا تبقى من تحديات تحقيق السلام في السودان؟

ورغم ما حققه اتفاق جوبا من تقدم، فإن أمام تحقيق السلام الشامل عددا من التحديات المهمة، منها ما يرتبط بالأطراف الموقعة ذاتها. إذ إن عمليات الإدماج المتوقعة خصوصا في قوة دارفور سوف تستغرق وقتا، وربما تعاني تعطيلا بسبب حساسيات سياسية وعرقية، فضلا عن ميراث عدم الثقة.

أما الأطراف الخارجة عن إتفاق جوبا فهي تملك تأثيرا على الإرض.

فمن ناحية مازال عبد الواحد نور في دارفور يمارس مناوشات مسلحة في مناطق جبل مرة مع الجيش الحكومي، كما أن له قواعد إجتماعية في معسكرات النزوح. 

وربما تحتاج هذه الحالة إلى ممارسة فرنسا لضغوط علي نور الذي يعيش في باريس للانضمام لهذا الاتفاق، وهو أمر لم تقم به باريس على النحو المطلوب حتي اللحظة الراهنة. 

وربما تراهن حكومة حمدوك علي تأثير متوقع على النازحين في المعسكرات، مع بدء دفع التعويضات لهم والمساعدة في إعمار مناطقهم الأصلية، وهي خطوة مرهون نجاحها بأمرين: 

التمويل الخليجي لتنفيذ الاتفاقية.

ورفع اسم السودان من علي لائحة الدول الراعية للإرهاب بما يحسن من ظروف الإقتصاد السوداني بشكل كلي.

وفيما يخص جبال النوبة وقائدها عبد العزيز الحلو فرغم توقيع إتفاق بينه وبين رئيس الوزراء د. عبدالله حمدوك في أديس أبابا بشأن فصل الدين عن الدولة، وهو أحد مطالبه، فإنه لايزال بعيدا عن سرب الإتفاقية، وذلك بتأثير مباشر من اشتباكات مسلحة جرت بين قواته وقوات الدعم السريع التي يترأسها رئيس الوفد الحكومي المفاوض.

وربما يكون سبيل الضغط علي الحلو هنا البوابات الدولية، إذا خلُصت النوايا في عدم تقسيم السودان مجددا، والامتناع عن تقديم دعم  دولي .

وفي الأخير فإن بلورة العلاقة الدستورية بين المركز والأطراف، وطبيعة تطبيق الفيدرالية وماهية النظام السياسي السوداني مابين برلماني أو شبه رئاسي كلها متغيرات سوف تساهم في إنجاح إتفاقية جوبا من عدمه، وبالتالي تُظهر مدى القدرة السودانية على القفز نحو إستقرار سياسي طويل الأمد.