يركز القرآن على العقلانية واستخدام العقل بصورة مكثفة، فالإسلام في أساسه دين عقلاني، لكن جاء بعد ذلك قوم أهدروا قيمة العقل والتفكير الحر والشك المنطقي، من أجل تكريس كهنوت مستتر يقوم على طرح العقل جانبًا، واحتقاره بشكل كامل. 

يرددون عبارات من نوعية “من تمنطق فقد تزندق”، والترويج أن الشك واستخدام العقل هو سبب عصيان إبليس وخروج آدم من الجنة، لنصل إلى شيطنة كاملة للعقل، بهدف أن يسلم المسلم عقله المُعطل للخرافة والجهل فيسهل قيادته من قبل من يتحدث باسم الدين أو يستخدمه.

الغريب أن يأتي مثل هذا الموقف من أبناء ديانة تنتسب إلى نبي الله إبراهيم عليه السلام.

فالرجل يعد من خلال المنظور القرآني مؤسس العقلانية الدينية، فقد وصل إلى يقين الإيمان عبر استخدام العقل والشك في الموجودات بحسب النصوص القرآنية نفسها.

 

هنا بدأ النبي إبراهيم الشك في الأصنام

وُلد النبي إبراهيم في بيئة وثنية تعبد الأصنام ولا تعرف التوحيد. الأمر الذي ثار عليه إبراهيم الفتى باستخدام العقل؛ الذي دله إلى حقيقة أن هذه الأصنام لا تضر ولا تنفع، ولا يمكن أن تكون هي مدبرة كل ما يراه من حركة الشمس والقمر، وتعاقب الليل والنهار، وجريان الأنهار وخلق الكائنات، فلم يكن من المشركين.

بدأ إبراهيم الشك العقلي في كل ما هو حوله بحثا عن خالق هذا الكون. 

وصل إلى القمر الذي ينير ظلمة الليل متفردا بوحدانيته وكبر حجمه مقارنة بالنجوم التي تزين السماء. ثم أدرك أن القمر لا ميزة له بل يأخذه النقصان والزيادة فليس هذا بإله يتوجه إليه.

وتكرر الأمر مع الشمس حتى وصل إلى حقيقة باهرة، وهي أن للكون مدبراً، وخالقاً محتجباً لا تدركه الأبصار.

يرصد القرآن هذه الرحلة العقلية التي بدأت بإعلان إبراهيم ثورته على عبادة الأصنام، ويعترف لوالده أنه وقومه في ضلال مبين، {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا قَالَ هَـٰذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ* فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَـٰذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ* فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي هَـٰذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ* إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} الأنعام 76-79.

 

وهنا كان اللقاء بين العقل والرحمة الإلهية

هنا يركز القرآن على المعاناة العقلية التي مر بها إبراهيم في رحلة الوصول إلى خالقه، حتى وصل إلى حقيقة الكون وحقيقة الإله الواحد، وبدأ يبحث عنه ويناجيه حتى فُتحت أبواب الرحمة وتجلت الأنوار الإلهية، ونزل الوحي ليصل إبراهيم إلى حقيقة وجود الإله الواحد، ليأتي إلى ربه بقلب سليم [الصافات: 84]. 

هنا كان اللقاء في المنتصف سعي من العبد، وبحث منه باستخدام العقل والرحمة الإلهية التي تنتشل العبد من حيرته، ربما يكون هذا هو المغزى وهو أن السعي الإنساني الضمانة الحقيقية لاستحقاق الرحمة الإلهية.

إن رمزية تحطيم إبراهيم للأصنام هي ثورة الإنسان على الخرافة والجهل، ثورة العقل في الوصول إلى الإله الحق واستحقاق الاستخلاف الإلهي، ومن هنا أهمية النبي إبراهيم من وجهة النظر الإسلامية، فإصراره على التوحيد هو الخيط المتين الذي يربطه بالإسلام القائم على الوحدانية المجردة غير المرتبطة بأي صورة من صور التجسيم، هذا النفي والإيمان المطلق جاء عن طريق الشك أولا، ثم الوصول إلى اليقين العقلي الذي قد يحتاج إلى الدعم الإلهي في النهاية.

 

لكن هل توقف عقل إبراهيم عن العمل؟ 

أبدا؛ بل نراه يطلب من الله سبحانه الدليل المادي الملموس على صدق الألوهية.

هنا كانت واقعة الطير.

يطلب إبراهيم الدليل المادي العقلي الذي يقطع الشك باليقين، ويثبت له أنه في حضرة الإله، يقول سبحانه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَـٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّـهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} البقرة  260.

انشرح قلب إبراهيم للإيمان بعد رحلة عقلية بحثا عن خالقه، واستحق النبوة ليبدأ في توصيل رسالته إلى أهل عصره، وهنا استخدم إبراهيم عليه السلام العقل مرة أخرى في مناقشة عبدة الأصنام للوصول بهم إلى اليقين الإيماني عبر إفحام الخصوم بالجدل العقلي وتفنيد الحجة بالحجة.

تجلى ذلك بوضوح في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّـهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّـهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّـهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} البقرة  258.

 

هذا البحث يؤكد دور العقل في الدين

شخصية النبي إبراهيم العقلانية واضحة في القرآن ولا تغرق في الحكاية كما هو حالها في التوراة، وذلك في ظل إصرار القرآن على استمرار الصلة بين الإسلام والنبي محمد صلى الله عليه وسلم، والنبي إبراهيم عليه السلام، {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة: 130]، وقوله تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 135]، وقوله: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّـهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68]، و{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} النحل123 

هذا البحث العقلي عن الإله والذي قاد إبراهيم الفتى إلى اليقين الإيماني واستحقاق تلقي شرف النبوة، يؤكد على محورية العقل في الدين.

وليس غريبا أن يمر النبي محمد بتجربة مشابهة من رفض لمظاهر الوثنية وعبادة الأصنام، والخروج إلى غار حراء، والغوص في تأمل عقلي، بحثا عن حقيقة الكون والخالق المستتر لكل هذه الكائنات والظاهرة آثاره في المخلوقات، حتى وصل إلى يقين بوجود إله واحد ثم تلقى الوحي الإلهي ليصدع برسالة التوحيد للعالمين.

 

فلماذا يرفضون التعامل مع الدين بالعقل؟

سيرفض البعض هذا التعاطي مع قصص الأنبياء، وهو استرجاع لمناقشات عقيمة تدعى أنها تحارب عن عصمة الأنبياء قبل تلقي الوحي وبعده، وأن لا عقل في الدين، وصولا إلى أن الوجود الإنساني مبني على الجبر ولا سعي فيه ولا اختيار.

ربما يمكن الرجوع إلى تفسير الرازي، والذي جمع فيه كل الآراء التي تحاول التغاضي عن حقيقة مرور إبراهيم عليه السلام بمرحلة شك عميقة دفعته إلى استخدام عقله للبحث عن أسئلة الوجود، وذلك طبعا قبل تلقيه النبوة. 

هذه المراوغة كان هدفها الوحيد هو تكريس فهم محدود لآيات القرآن، وبدلا من أن تطلق الأخيرة ملكات التفكير العقلي عند المسلمين، تحول تفسيرها إلى مماحكات لفظية أغرقت العقل المسلم في التقليد والجمود.

لا غرابة أن يصر القرآن على كلمات من نوعية “يعقلون” و”يتدبرون” و”يتفقهون” و”يتفكرون”، فلا مخاطبة للإنسان إلا بالعقل، وهذا هو المدخل الأساسي للوجود الإنساني، والهدف الأسمى للإسلام كديانة عقلانية تستخدم النص كمنطلق للاشتباك مع الواقع ومواجهته بقوة، طالما أن الغرض هو تحقيق الخير الإنساني على الأرض قبل السماء، وهذه هي جوهر دعوة إبراهيم ومحمد عليهما السلام