كان لنهر النيل تصاريفه مع المصريين دائما، وبقدر ما منحهم الحياة، بقدر ما عانوا من شدته، وبين فيضان يأتي معه بالخير رغم قسوته، وبين جفاف يقضي على الأخضر واليابس، وربما كانت القدرة على ترويضه من ناحية ، والتعامل مع السنوات العجاف من ناحية أخرى تمثلان تاريخ المصريين في أبسط صوره.
يحكي الجبرتي عن تاريخ السنوات الصعبة، ويضطر لكثرتها أن يفرد لها بابا كاملا في مخطوطته، وكانت جملته التي تكررت عشرات المرات: “وبعد فلما طال أمر هذا البلاءالمبين، وجل في الخلق أنواع العذاب المهين، ظن كثير من الناس أن هذه المحن لم يكن لها مثيل فيما مضى مثلها، ولا مر في زمن شبهها، وتجاوزوا في الحد فقالوا لا يمكن زوالها، ولا يكون أبدا عن الحق انفصالها”.
وقد تكررت هذه العبارات في باب البلاء مرات عديدة، وهو ما يعكس المحن والأزمات التي تعرض لها المصريين على مدار تاريخهم الطويل، وهو ما منحهم خبرة في التعامل مع أزماتهم، وصنعة في علاج مشكلاتهم. وتدفع المجتمع إلى تبني ثقافة تعبر عن رؤيتهم في التعامل مع أوقات بلائهم.
هكذا تبدأ المقاومة في مواجهة التردي والإقصاء
ومابين العجز والأمل ينتج المجتمع ثقافته ويطرح رؤيته حول الدولة والعالم في إطار نسق قيمي يمكنه المواءمة بين ما هو “مشروع” وما هو “غير مشروع”، بين تطلعات مأمولة واحتياجات ملحة، ليخلقوا لأنفسهم فرصا جديدة في الحياة. إنهم ــــ وإن كانوا ــــــ غير قادرين على مواجهة الأسباب والعوامل التي أودت بهم إلى ذلك، كما وأنهم غير قادرين على تغيير العالم، لكنهم ـــ بلا شك ـــــ قادرون على التوافق والتكيف مع معطياته.
يفرض الوجود الاجتماعي إذن على الأفراد داخل “الجماعة الاجتماعية” تقديم معالجات من شأـنها الحيلولة دون الوقوع في فخ “العوز” والاحتياج و”الفقر المدقع” وهي معالجات وإن تبدو “شخصية” إلا أنها في مجملها تعبر عن مضامين اجتماعية ذات أبعاد متعددة أو هكذا أرادوا لها أن تكون، حيث تلعب الثقافة دورا مثلما تؤدي العقيدة أدوارا في عمليات المقاومة اليومية التي يقوم بها الأفراد في مواجهة عنت الحياة وشروطها القاسية، إنها عملية مقاومة في مواجهة التردي والإقصاء ونقصان القيمة.
وإذا أمعنا النظر في طبيعة وتاريخ هذه الجماعة الاجتماعية لأدركنا على الفور حجم القدرة، ومساحة الخبرات التي يمتلكونها لإنتاج ثقافة قادرة على “التحايل” على قسوة الحياة وشروطها المجحفة، وهذا ما يصنعه المواطن المصري بشكل يومي في مواجهة ظروف الحياة التي باتت تقسو عليه مستعينا بتاريخه الطويل والممتد في مواجهة مثل هذه التجارب الاجتماعية التي أصبحت تبدو مألوفة لديه، وهو ما يعبر عنه المعجم في معنى “التحايل” حيث يقول: تحايل على الرجل أو تحايل على الشيء “سلك معه مسلك الحذق ليبلغ منه مأربه”.
التضامن الاجتماعي في “الحلوة والمرة”
إن هذا الإدارك الضمني الذي تكشف عنه الثقافة بطرقها المتنوعة، فرض على المصري دوما طرح أشكالا من التفاعل الاجتماعي التي ربما يبدو فيها دور الفرد متراجعا لصالح الجماعة، ولكنها في صميمها تعبر عن رغبة الفرد في الانتماء لجماعة تضمن له بعض من الأمن والأمان الاقتصادي والاجتماعي، وهي تعبر عن تلك الأشكال (المتوارثة) من التضامن الاجتماعي في المناسبات المختلفة.
فطقوس الفرح والتي تتضمنها منح مبالغ مالية للعروسين “النقطة” وتقديم الهدايا العينية، وطقوس الوفاة حيث يتولى جيران بيت المتوفى تقديم الطعام لأسرة المتوفي وضيوفهم لليال عدة، وغيرها من الممارسات (الثقافية) التي تزخر بها عادات وتقاليد المصري تكشف حجم التعاون والتضامن الذي يفرضها المجتمع على الفرد ويستأنس بها الفرد في إطار منظومة اجتماعية، عقائدية يسيطر فيها ما هو (أعراف/ تقاليد) على ما هو (رسمي/قانوني) وتتوازى و تتجاور المنظومتين زمنيا ومكانيا على مر العصور، منظومة (شعبية) حامية، ومنظومة (حكومية) حاكمة.
تمثل الثقافة المصرية جوهر الشخصية المصرية، والمحرك لوجدانه وعقليته، والمشكل لشخصيته، فلقد تميز منذ أن أنشأ أول دولة قومية ومن ثم أول حكومة مركزية فى التاريخ، بالجدية والانضباط والايمان والاخلاص والمودة والتسامح والكرم وحب الحياة والانتماء لأرضه والذوبان والحنين الى الوطن، وهو الأمر الذي تراجع في الآونة الأخيرة حيث مر المجتمع المصري خلال النصف الثاني من القرن العشرين بأحداث تاريخية حادة أحدثت تحولات ثقافية واجتماعية أدت إلى إحداث تغييرات جذرية في شخصيته، بل وتغييرات في بنيته الديموجرافية، وهو الأمر الذي أدى إلى تبدل في رؤية المجتمع لذاته وللعالم، مما أعاد صياغة وتشكيل الوعي الجمعي للمواطن المصري.
لكن الفقر يفرض الإحساس بعدم الأمان
ويبدو أن التحولات الاقتصادية التي طرأت على هيكل الاقتصاد المصري وتراجع دور الدولة عن تبني ودعم الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة وغيرها قد أدى إلى إحساس عميق بتأثيرات الفقر، حيث زادت الكلفة المادية في ميزانية الأسرة فيما يتعلق بالتعليم والصحة.
زاد ذلك من حدة الآثار المترتبة على تدني الدخول، ومن ثم تراجع طبقات اجتماعية في “السلم الطبقي”، وتفشي كثير من الظواهر الاجتماعية السلبية والمرضية، حيث أدت الأزمات المتتالية التي تعرض لها المجتمع إلى تغير في نسق القيم السائد، وانتشار منظومة قيم مغايرة. فتراجعت قيم التكافل والعطاء والتضحية والانتماء لصالح القيم التي تعبر عن الفردية والأنانية، إذ يفرض الفقر على الأفراد موقفاً خاصاً من الحياة وهو موقف القلق والتشكك وعدم الأمان والخوف، وتؤدي محاولات التكيف المتكررة والمستمرة مع الظروف الضاغطة فى فترات متعاقبة إلى حدوث تشوهات حادة فى سمات الشخصية.
هكذا تولد يبتكر المجتمع ثقافة التحايل والمجاملة والتملق
ومن هنا تبدو ثقافة التحايل وكأنها نوع من محاولة التكيف أو التعامل مع أوضاع مستحيلة، ترتبط بعملية التكيف مع الواقع غير العادل وغير المنصف، والشخص الساعى للتكيف تدفعه الظروف إلى سلوك التحايل أو التكيف ويعتمد على وجود بدائل مثل وجود معتقدات بديلة أو اللجوء إلى أنماط سلوكية بديلة، وهى تتراوح بين التكيف الإيجابى الذى يقوم على التقبل والرضا والاندماج والتوافق مع النظام بهدف الاستمرار فى البقاء وقد يتخذ خطوات عن طريق البحث عن حلول وسط توفيقية تحقق قدراً من التراضى.
وعندما يعجز عن إرضاء من يظلمه يلجأ إلى المداراة والمجاملة والتملق، وهناك التكيف السلبى المحبط الذى يقود صاحبه إلى عدد من الممارسات السلبية كالانتهاك الصريح للقانون وتهديد قيم المواطنة واختلال المعايير على الصعيدين الفردى والاجتماعى.
يمتلك المصريون إذن مخزونا وقدرة هائلة على التكيف مع الظروف قد اكتسبوها عبر تاريخهم الطويل فى التعامل مع أنماط متعددة من الحكام والحكومات، وتغير الظروف والأحوال التى يعيشون تحت وطأتها، ومن ثم يملكون مرونة كبيرة فى التعامل معها، وقدرة على قبول الأمر الواقع والتكيف معه، كما يملكون قدرا كبيرا من الصبر على ظروفهم الضاغطة والقاسية، ولديهم أمل فى رحيل من يظلمهم بشكل قدرى لا دخل لهم فيه، فدائما ما يراهنون على الزمن ليحل لهم المشكلات، أو تتحلل معه، فالمصرى كثيرا ما يقبل الأمر الواقع ويغير فى نفسه وفى شخصيته وفى ظروف معيشته لكى يوائم هذا الواقع، وبالتالى لا يفكر كثيرا أو جديا فى تغيير الواقع بل يميل غالبا للإستسلام له والتسليم، فلقد عرف عنه ميله للاستقرار وعدم الرغبة في إحداث تغييرات جذرية، وتخوفه من التجديد , وعدم ميله إلى المغامرة، وصبره على ظروف ربما تستحق المواجهة أو التغيير.
خطورة التحايل أنه يصبح تبريرا للخروج عن القيم الأخلاقية
وقد يفضى التكيف ومن ثم “التحايل” إلى شيوع نسق من القيم السلبية مثل الإذعان، من خلال الامتثال لأمور كثيرة فى إطار علاقة قوة غير متكافئة، والتبرير حيث يعلل الفرد فى نظره ونظر الآخرين رأياً أو تصرفاً أو عملاً ويرجع السبب فى ذلك إلى الهوه التى توجد بين السلوك والأفكار، واللامعيارية مما يؤدي إلى غياب أو انهيار أو وجود صراع فى معايير المجتمع، كما يشيع ممارسات انحرافية، حيث يساعد الفقير بالذات على اللجوء إلى أساليب التحايل والتكيف السلبى ما تبديه الثقافة من تجاوزات من فرض بعض القيم والتهاون فى مراقبة الالتزام بها وسواء تسامحت الثقافة أو تجاوزت تظل مجالات عديدة للعلاقات فى حياة الإنسان الفقير غير معلنة أو واضحة، وبالتالى يستطيع أن يخرق أو يتجاوز الكثير من الحدود.
وخطورة التحايل أن يلجأ البعض إلى الحيل والمبررات التى يتخذها كوسائل دفاعية للخروج عن القيم فيحاول انتهاكها عن طريق تغليفها بأسماء جديدة تواكب ظروف واقعهِ، مثل مفاهيم “الشطارة والفهلوة” و”الرزق يحب الخفية” أو تشاع ألفاظ مثل “الكل كده” أوإلقاء المسئولية على الغير، وهو ما يردنا إلى حالة التسيب التى أصبحت سمة سائدة فى مجتمعنا المصرى. فالتحايل ثقافة تمارس بشكل عادى تتمثل فى التأثير على تراجع حجم المواطنة، حيث يزيد شعور الفقير بضعفه مع ازدياد ضغوط ومشكلات الحياة اليومية، وتكون نتيجة ذلك انكفاؤه على مشاكله الخاصة المحدودة إلى الحد الذى يقلل من اهتمامه بالمجتمع وقضاياه ومشاركاته فيما يحدث فيه.
وخطورة الفقر أنه يحاصر “إنسانية” العائلة ويقلل من جودة الحياة
وتشير البحوث الي أن نسبة الفقر منذ اوائل التسعينيات دفعت الأسر في المناطق الأكثر فقرا إلي تكثيف العمل العائلي، وبالتالي زادت أعداد النساء الملتحقات بسوق العمل، واللائي لايجدن عادة سوى الأعمال قليلة العائد، مثل العمل أجيرات في الأراضي الزراعية، أو بائعات في الأسواق، أو يقمن بدور الوسيط بحيث يقمن ببيع المنتجات المنزلية للبيوت القادرة “دلالات”.
وزادت أعداد النسوة العاملات بالتسول، كما تلعب أدوارا متعددة في هذه المجتمعات، إذ ينقطعن عن التعليم ويفسحن المجال أمام الذكور للتعليم، ويعملن في سن صغيرة لمساعدة اسرهن، كما يلجأن إلى ممارسة كثير من الحيل لتصريف أمور أسرهم من بينها خفض الإنفاق وتأجيل كل ما يمكن تأجيله، مثل الذهاب إلي الطبيب، أو تخفيض جرعات الدواء التي يصفها الطبيب، وضغط نفقات الأسرة قدر المستطاع، وتخفيض عدد الوجبات الغذائية التي تقدم وكمياتها، واللجوء الي ممارسات اقتصادية بديلة مثل تربية الطيور المنزلية والمواشي، لتدبير احتياجات اسرهن من الألبان، والاعتماد علي البروتين النباتي وشراء بقايا الخضراوات من السوق الأقل جودة والأرخص سعرا بالضرورة، والاكتفاء بصنف او صنفين، كما تتميز المرأة المصرية بقدرتها على الإبداع في إعادة تدوير الأشياء القديمة والاستفادة بها لأقصي مدى ممكن.
ومن هنا ففي داخل كل جماعة اجتماعية “مستديمة” تتجاور تجارب إنسانية متنوعة، وحيث تعي “المجموعة” بالمتناقضات التي تتصل على الأقل بنمط الحياة الذي يفصل بين الطبقات أو بين الأجيال مع كل الأخطاء الناتجة عن غياب/قصور الوعي، فإن المواجهة المباشرة هي خير طريق نحو زيادة الوعي (المغرض) و(الجزئي)، لإدراك الوضع الذي يشغله “الفرد” في العالم الاجتماعي الأكبر تتحدد وتتبلور نتيجة الأثر المباشر (المحسوس/الملموس) للتفاعلات الاجتماعية داخل العوالم الصغرى.