مساء الجمعة 2 أكتوبر، كان يمكنك تمييز مصدر الصخب المتصاعد من المنصات المحتفلة بالذكرى الـ47 لانتصار حرب أكتوبر، حيث يتقافز الشباب بحماس في مساحات صغيرة على وقع أغنية “رب الكون ميزنا بميزة”، في حضور مغنيها حمو بيكا، الذي لم يتوقف عن التلويح بعلم مصر من أعلى حافلة مكشوفة أقلته من رمسيس إلى التحرير.
كان هذا المشهد في وسط العاصمة، أما شرقها، وتحديدا في مدينة نصر، كان رفاق حمو بيكا من فريق “المدفعجية” يعتلون منصة ثابتة بالنصب التذكاري، تتغير خلفيتها باستمرار بين علم مصر وصورة رئيس الجمهورية، ويصيحون في الآلاف المحتشدة بكلمات أغنية “واثقين في رئيسنا”، ضمن فقرات فنية تقاسمها فنانو البوب الكلاسيكيون والفنانون الشعبيون.
المدفعجية على المنصة في احتفالات أكتوبر
وشى هذا المشهد بقدر كبير من التصالح الرسمي مع غناء المهرجان الشعبي في الحفلات العامة والمناسبات التي ترعاها الدولة بنفسها أو عبر رجال اعمال مقربين من اجهزتها الرسمية، بل وفي المناسبات شديدة الوطنية كاحتفال ذكرى أكتوبر، بعدما كانت جغرافيا المهرجان لا تتجاوز الأحياء الشعبية التي نشأ فيها، وهو ما يتعارض مع الحصار الذي تفرضه نقابة الموسيقيين على نجوم هذا الفن في إطار حملة يقودها نقيب الموسيقيين هاني شاكر “للحفاظ على الذوق العام” ممن يغنون في “الحارات والأزقة واليوتيوب”.
بدأ شاكر حملة مكبرة في فبراير الماضي لمنع انتشار فن المهرجان، بعدما أعلن منع النقابة التعامل مع مطريي المهرجانات، والتنبيه على جميع المنشآت السياحية والبواخر النيلية والملاهي الليلية والكافيهات بعدم استضافتهم نهائيا. متهما مؤدي المهرجان بأنه “الأب الشرعي لحالة الانحدار الفني والأخلاقي التي وصل إليها المجتمع”، وذلك بعد غناء حسن شاكوش وعمر كمال أغنيتهما الشهيرة “بنت الجيران” في حفل ضخم باستاد القاهرة بمناسبة عيد الحب.
شاكوش وعمر كمال يغنيان “بنت الجيران” في ستاد القاهرة
ونجح النقيب بمساعدة هيئة الرقابة على المصنفات الفنية في تطبيق قراره خلال الأسابيع الأولى، إذ أوقف عددا من الحفلات في المنشآت السياحية والملاهي الليلة، أبرزها حفلات حمو بيكا الذي منعت له ست حفلات في محافظات مختلفة، وحُرِّرت محاضر ضده بدعوى إفساد الذوق ومخالفة القوانين. كما رفضت نقابة الموسيقيين طلبه بالحصول على عضويتها. لكن شاكر أيقن خلال معركته حاجته إلى أسلحة أخرى في حربه على المهرجان، مع اعتماد صانعيه بشكل أساسي على منصة يوتيوب في بث أعمالهم وجني الأرباح من وراء المشاهدات الضخمة.
تكبد مطربو المهرجان خسائر بآلاف الجنيهات جراء قرار النقابة بمنع الحفلات، واضطر بعضهم إلى دفع شروط جزائية عن التعاقدات المبرمة معهم قبل قرار المنع، فيما قدرت الخسارة المقربة التي تقع على مغني الصف الأول منهم بـ 120 ألف جنيه شهريًّا نظير إحياء من 4 إلى 5 حفلات أو أفراح في أماكن عامة. غير أن مشاركة شاكوش وعمر كمال وفريق المدفعجية في غناء تترات المسلسلات الدرامية في موسم رمضان الماضي، أظهر أن النقابة لم تحكم قبضتها الكاملة على منافذ انتشار مطربي المهرجانات في ظل وجود رغبة لدى المنتجين، وخصوصا المحسوبين على أجهزة بالدولة، في الاستعانة بأبطال المهرجان في أعمالهم الفنية.
المدفعجية “مليونير” تتر مسلسل بـ100 وش
يعكس المشهد الأخير في احتفالات أكتوبر صورة تختلف عن عما يسود عن علاقة الدولة بنقابة المهن الموسيقية الرسمية، فالظاهر من استعانة الدولة أو جهات تابعة لها بمطربي المهرجانات في احتفالها شبه الرسمي بانتصار أكتوبر أن النقابة لا تردد صدى صوت الدولة كما يتصور بعض المراقبين. وأن الدولة تلجأ للاستعانة بأصحاب الشعبية من فناني المهرجانات استجابة لأذواق الجمهور والتغييرات الطارئة على احتياجات السوق، وهو ما ذهبت إليه فرح رمزي، الباحثة في علم الاجتماع السياسي بمعهد الدراسات السياسية في بوردو.
وبحسب ورقة بحثية ليوستين موريس وفرح رمزي، فإن المشادات بين الدولة والمهرجانات هدفها تأكيد اليد العليا للنظام وسيطرته بإحكام على المجال العام، لكنها ليست معركة وجود أو تناقض أصيل في المشروعات طالما ظلت المهرجانات نمطا قنيًا يعبر عن فئات موجودة وقادر على فتح أسواق استهلاكية لمنتجه.
أما الناقد الفني طارق الشناوي، الذي يتبنى موقفا واضحا برفض مصادرة شاكر على أذواق الجمور، يفسر التطور الأخير في العلاقة بين الحكومة وفن المهرجان؛ بأن الحكومات عادة لا تحبذ دخول معارك مع وجدان شعوبها أو تحجر على أذواقهم، لافتا إلى أن الدولة مطالبة في الوقت ذاته بتوفير مناخ صحي للأغاني الرصينة بدعم حفلات المطربين واحتواء المواهب الصاعدة، كما فعل نظام مبارك سابقا مع آمال ماهر في بداياته الفنية.
معركة صفرية
يرى الشناوي أن نقيب الموسيقيين دخل معركة صفرية مع أبطال المهرجانات، لن تنتهي بدون تحديد فائز وخاسر لها رافعا شعار: “يا أنا يا أنتم”، وهو ما يفسر سبب مطاردته لحسن شاكوش وعمر كمال لمنعهما من الغناء في تونس، بعد تواصله مع النقابة الفنية في البلد العربي لإلغاء الفقرة الخاصة بهما في حفل مطربي المهرجانات الذي أقيم في أغسطس الماضي. “الفن لا يعرف هذا النوع من التحدي والعناد، لأن الجمهور هو الذي يختار ويفرز في النهاية، لذا أنا ضد قرار المصادرة على أي نوع من أنواع الفن أو مطربين بأعينهم”، بحسب طارق الشناوي الذي يرى أن النقابة بددت طاقتها في “معارك خائبة” بدلا من البحث عن بدائل حقيقية لنحو 30 ألف موسيقي ينتمون إليها ويعانون من البطالة، ولم يستطع مجلس النقابة الوفاء بالتزاماته ناحيتهم.
غير أن غضب الفنانين أنفسهم من انتشار هذا النوع من الموسيقى واحتلال نجومها مساحة حجزت لفناني البوب الكلاسيكيين لعقود طويلة يزيد من دوافع نقيب الموسيقيين للاستمرار في حربه على المهرجان، خصوصا أنه وضع توفير الشغل لأعضاء النقابة الذين لا يعملون في صدارة أولوياته حين تولى المنصب، لأن “هناك موسيقيين ومطربين رائعين يجلسون في بيوتهم تم استبدالهم بالدي جيهات”، بحسب تعبيره.
ويجد الشناوي أن خطة النقيب التي تعتمد على استخدام الأدوات النقابية لمنع مطربي المهرجانات في سبيل توفير العمل لأعضاء النقابة المتعطلين “تصرف خاطئ من شاكر… لا أحد يهاجم ذوق الناس ولا وصي عليهم واختياراتهم”. معتبرا أن النقيب يبحث من وراء تصريحاته عن ظهير إعلامي يحمي مصالحه ويصنع حالة من التعاطف مع قرارته.
غير أن فرح رمزي تمتلك تفسيرا آخر بأن نقيب أي جماعة من الطبيعي أن يحافظ على مصالح جماعته حتى لا يخسر منصبه، لذا يعتقد أنه يمثل الدولة في كثير من الأحيان، “لكن الدولة مجموعات مختلفة من المؤسسات، ويوجد بها تيارات محافظة وأخرى منفتحة”.
“الفلوس تدوس”
لا ينفصل اعتماد الأعمال الدرامية التي تنتجها شركة سينرجي، الذراع الدرامي للدولة، وشركات الإنتاج الأخرى التي يسمح لها بالعمل تحت المظلة الرسمية، على نجوم المهرجانات في غناء تترات البداية والنهاية، عن التوجه النيوليبرالي الذي تنتهجه الدولة في تعاملها مع هذا اللون الفني المنبوذ من قبل نقابة الموسيقيين.
ووفقا لفرح رمزي، فإن النظم الرأسمالية في كل العالم تتبنى تسليع أي شيء أو خدمة دون التركيز على الأبعاد الأخلاقية المتراكمة، ومن هنا لا تستطيع أن تغفل أن سوق الموسيقي يفرض سيطرة المزيكا الرائجة، ويساهم في صنع التعددية المطلوبة لإثراء الساحة الفنية، “لذا صار المهرجان جزءا من السوق العام ويُستخدم لفتح أسواق جديدة”. وبحسب رمزي؛ فالعلاقة الرسمية قابلة للتطور على حسب أنواع الفن نفسه، لذا من السهل أن نرى المهرجان هو الموسيقى الوطنية إذا كان القطاع الأكبر من الشعب يستمع لهذا الفن.
كيف تجاوز المهرجان الشعبي جغرافيا نشأته؟
لا يكترث الموزع الموسيقي الشهير إسلام شيبسي بالانتقادات الموجهة إلى فن المهرجان، الذي أنتج منه عددا لا حصر لها من “التوزيعات” على مدار سنوات عمله بالموسيقى الالكترو شعبي، باعتبار أن “المهرجان رقم واحد الآن جوه وبره مصر”.
حصل شيبسي، المولود في حي إمبابة الشعبي، شمال الجيزة، والملقب بـ”أخطبوط المزيكا” على جائزة أفضل موزع موسيقي في العالم خلال عام 2014 ضمن مشاركته في عدد من المهرجانات الفنية الأوروبية في السنوات الخمس الماضية، بعدما ذاع صيته كعازف أورج يجيد التدرج بالموسيقى من التكنو-شعبي إلى “الهيب هوب”، كما اشتهر في الفترة الأخيرة بإحياء أغاني التراث بطريقة توزع جديدة خلال حفلات الزفاف التي يحييها بصبحة أعضاء فريقه.
“الهجوم على المهرجان طبيعي، والمزيكا في أي مكان في العالم بتتهاجم.. إذا كان أم الكلثوم وعبد الحليم حافظ وعدوية اتهاجموا لما طلعوا لأول مرة ولما حاولوا يغيروا من الأغنية، إحنا المهرجان اللي معظمنا مش مطربين أساسا مش هنتهاجم” يدافع شيبسي عن موسيقاه، مؤكدا أنهم لا يحاولون الضغط على نقيب الموسيقيين هاني شاكر، لأنه لن يسمع المهرجان أو يتقبل وجوده، لانتمائه لجيل تعود على لون ثابت من الموسيقى.
حفل لإسلام شيبسي في جامعة عين شمس
يشعر “أخطبوط المزيكا” بالفخر بعدما وصلت الموسيقى الشعبية إلى هذه المكانة بين فئات المجتمع المختلفة بعدما كانت مسجونة في أماكن معينة في الأحياء الشعبية التي أنتجت هذا النوع: “اليوم التريند في مصر هو نجوم المهرجان رمضان وبيكا وشاكوش ورضا، وفي العالم أيضا المهرجان الاإكتروشعبي هو التريند”.
ولا ينفي شيبسي أن مطربي المهرجان اكتسبوا خبرة كبيرة في العامين الماضيين في انتقاء الموسيقي وترويض الكلمات، حتى لا يوصموا بنشر ثقافة الضجيج والابتذال، حتى يفرز السوق “مين اللى بيرزع ومين اللي بيغني”، لذا تربعت أغنية “بنت الجيران” على عرش الغناء الشعبي في 2020، بسبب كلماتها الرومانسية وألحانها الجديدة.
واحتلت أغنية “بنت الجيران” للثنائي حسن شاكوش وعمر كمال المرتبة الأولى عالميا خلال شهر فبراير الماضي على تطبيق الأغاني الشهير “ساوند كوند” من حيث الاستماع، كما حصدت في الفترة ذاتها أكثر من 100 مليون مشاهدة على منصة يوتيوب.
وشهد هذا العام حضور كبيرا لنجوم المهرجان في قائمة الأكثر استماعا على منصة “ساوند كلاود”، من بينها مهرجان “شمس المجرة ” لعمر كمال – حمو بيكا – حسن شاكوش، وأغنية سالمونيلا للفنان تميم يونس، ومهرجان ” كارثة كارثة” لحمو بيكا وحسن شاكوش، ومهرجان آخر للثنائى وهو “وداع يا دنيا وداع “.
يتبنى شيبسي حاليا مدرسة تنقيح الأغاني الشعبية من أجل الوصول إلى شرائح أكبر بموسيقى وكلمات نظيفة تخلو من الابتذال لكنها لا تبتعد في الوقت نفسه عن الواقعية الصادمة المدرسة التي يشتهر بها المهرجان منذ نشأته، فكما يقول أحد أعضاء فريق حمو بيكا أن أحد سباب رواج المهرجان عن الأغاني الرومانسية هو رصد المشاكل اليومية في حياة هذه المجتمعات وعدم تزييف الحقائق بكلمات تناسب هذا الجمهور.
وشهدت الفترة الأخيرة جذب مطربين شعبيين للتعاون مع نجوم المهرجان سواء على مستوى الغناء أو التوزيع الموسيقي، إذ شارك أحمد سعد وحكيم بأعمال حظيت بمتابعة كبيرة على منصة يوتيوب، وهو ما يفسره شيبسي بأن من يتعامل مع هذه الموسيقى يدرك تماما أن المزيكا تطورت ويجب أن يلتحقوا بها ويستجيبوا للتغير الفني حتى لا يصيروا جزءا من الماضي.
كيف يحمي محمد رمضان المهرجان؟
انضمام الممثل محمد رمضان إلى موسيقى المهرجان، كمغني وراقص منح كثيرين الثقة في مواصلة العمل وإعلان تحدي حصار هاني شاكر، خصوصا بعدما تراجعت نقابة الموسيقيين عن قرار منعه من الغناء باعتباره مغني راب. كما أخلت النقابة مسؤوليتها عن ما يقدمه رمضان على المسرح في الحفلات سواء من ناحية كلام الأغاني أو الملابس، كونهما من اختصاص هيئة الرقابة على المصنفات الفنية.
رمضان ليس ضيفا جديدا على المهرجان، فهو من أوائل الذين استعانوا بمطربيه في أفلامه بداية من “عبده موتة”، إنتاج 2012، الذي شارك فيه بشكل واضح أوكا وأورتيجا، والاستعانة بأغنية “أنا أصلا جن” لفريق المدفعجية بفيلم قلب الأسد، إنتاج 2013، قبل أن يشق طريقه في السنوات الأخيرة كمؤدي موسيقي من خلال مهرجانات منفصلة عن أفلامه وأعماله الدرامية، أبرزها “مافيا مافيا” التي رسخت لاستمرار تعاونه مع فريق المدفعجية.
هذا الاستثناء الذي حصل عليه رمضان من المقابة والدولة، يستند إليه قطاع كبير من مطربي المهرجانات في حربهم ضد النقيب، حسبما يوضح شيبسي: “محمد رمضان نمبر وان، مايكل جاكسون مصر، ووجوده هو أكبر دفاع عن فن المهرجانات”.
غير أن الدولة سمحت لغناء محمد رمضان، المحمي بشعبيته الجماهيرية، بعد تقديمه ضمانات على أنه لن يخرج بعيدًا عن المنظومة، وفقا لورقة بحثية بعنوان “يحيا الفن المنحط” صادرة عن مؤسسة حرية الفكر والتعبير.
وتوقع معد الورقة أن تدخل الدولة أيضا في هدنة مع أوكا وأورتيجا، بعد أن أصبحا جزءًا من منظومة الإنتاج القانونية، ما مكنهما من إقامة حفلات بالخارج وزيادرة فرصة التسويق في الإعلانات، ولم تعد كلمات أغانيهما مشاغبة بالقدر الذي يغضب الدولة.
الورقة نفسها استبعدت أن يصل حمو بيكا إلى نموذج محمد رمضان وأوكا وأورتيجا، لأنه يقدم نفسه بصورة فجة بأكثر مما تستطيع الدولة ونقابة الموسيقيين أن تحتمل، وبدرجة لا يُقبل معها دمجه ضمن صفوف الفن الرفيع الذي ترضى عنه الدولة، لكن الحفل الأخير ربما يغير هذه الصورة الذهنية عن علاقة الدولة بحمو بيكا، وفن المهرجان عموما.