في عام 2018 توجه “محمد.ش” لشراء وثيقة تأمين على الحياة بمبلغ يصل إلى 20 مليون جنيه، تصرف لصالح ابن عم له في حال وفاته. وسدد القسط الأول المنصوص عليه في عقد التأمين، وفوجئت الشركة بعد شهر واحد بابن العم المستفيد يبلغها ويسلم إليها شهادة وفاة محمد، ويطالب بالحصول على مبلغ التأمين كاملا.

راجعت شركة التأمين شهادة الوفاة المقدمة إليها وتبين أنها صادرة عن مكتب صحة طوارئ مستشفى المنيرة، عقب وفاة صاحب وثيقة التأمين في مستشفى قصر العيني. وبمراجعة البيانات؛ تبين أن شهادة الوفاة مزورة، وأن المتوفى لايزال على قيد الحياة، وأن الشركة كادت تقع ضحية لعملية نصب غير محكمة مبنية على شهادة وفاة رسمية صادرة عن جهة معتمدة.

توصلت تحقيقات النيابة العامة وتحريات الاجهزة الامنية إلأى أن هناك شبكة لإصداؤ تصاريح الدفن وشهادات الوفاة المزورة تورط فيها طبيب يدعى “وائل. ح”،  مفتش صحة مكتب السيدة زينب ثالث، وموظفين بالمكتب هما “ياسر.م”، و”عادل.ن”. ووجهت إليهم اتهامات بتزوير تصاريح دفن لأشخاص على قيد الحياة لأغراض عدة.

تسجل صفحات الحوادث والجرائم بالصحف والمواقع الإخبارية المختلفة وقائع عديدة لمحاولات تزوير شهادات الوفاة لاسباب متباينة، لا تقتصر على محاولات الحصول على التعويضات وقيم تعاقدات التامين على الحياة  فقط، وإنما تمتد لمحاولات الهروب من أداء عقوبات جنائية أو الالتفاف على إجراءات التقاضي وغيرها من الذرائع نرصدها في هذا التقرير.

هبوط حاد على السكين

قد يتحول تصريح الدفن من ورقة تمكن أهالي المتوفى من إكرام جسده بدفنه في الثرى، إلى أداة يضيع بها حق الميت، بتزوير سبب الوفاة.

فى ١٥ يونيو ٢٠١٠، تعالى النحيب داخل أحد منازل مركز البدارى بمحافظة أسيوط عقب وفاة “أسماء”.

وفقًا لشهادة الوفاة، أصيبت الفتاة ابنة 25 عامًا بهبوط حاد في الدورة الدموية ادى إلى وفاتها. لكن “المُغَسِّلة” شكت في سبب الوفاة أثناء تحضير الجثمان للدفن وتقدمت ببلاغ تبين بعد التحقيق فيه ان الفتاة ماتت نتيجة طعنة بسكين حاد في منطقة البطن.

كشفت التحقيقات عن أن شقيق الضحية دفع مبلغ لم يزد عن 35 جنيهًا لمفتش صحة القرية لاستخراج تصريح الدفن وشهادة الوفاة لشقيقته بمحضر رقم “291 لسنة 2012 أسيوط”.

انتهى التحقيق إلى اتهام مفتش الصحة بـ”جريمة التزوير”، وصدر قرار بإيقافه عن العمل، وحُكم على الأخ الأكبر  بالسجن المؤبد لارتكابه جرائم: قتل وتحريض على التزوير ورشوة مالية.

لم تكن أسماء الضحية الأولى لانعدام الضمير، ففي أكتوبر 2014، تقدم شاب يدعى “مؤمن” يبلغ من العمر 21 عامًا، من مركز أبوتيج بمحافظة أسيوط، لخطبة “مروة” صاحبة ال19 عامًا، لكن قوبل طلبه بالرفض واستمرت العلاقة بينهما في الخفاء، في الوقت الذي أكرهت فيه الفتاة على الزواج من ابن عمها البالغ من العمر 40 عامًا. لم تطق الفتاة العيش مع زوجها واتفقت مع حبيبها القديم على استدراجه لجزيرة في النيل وذبحه، واستخرجا تصريح دفن مزوّرًا له من مكتب الصحة التابع للمنطقة، يؤكد أن الوفاة طبيعية، لكن أهل الزوج حرروا محضرًا يفيد باختفائه.

أصدرت جنايات أسيوط حكمًا بإعدام الفتاة وصديقها، وإيقاف مفتش الصحة عن العمل ومحاكمته بتهمة التزوير في القضية المقيدة برقم “٧٤٨٩ لسنة ٢٠١٤”.

هربًا من الديون والأحكام القضائية

تلقى قسم شرطة المنيا في 27 ديسمبر 2018 بلاغًا من مفتش صحة البندر، الدكتور هاني إسحق شحاته، برقم 10525 إداري المنيا، أكد خلاله تزوير زوج لشهادة وفاة زوجته، بتقديمه لتقرير طبي من أحد معامل التحاليل، مدعيًا وفاتها نتيجة الإصابة بالسرطان، أثناء سحب عينة من الورم الخبيث لتحليلها بأحد المعامل، وقدم الأوراق الثبوتية لمكتب صحة المنيا لاستخراج شهادة وفاة وتصريح دفن.

قبل مكتب الصحة الأوراق المقدمة واصدر شهادة وفاة للسيدة المبلغ بموتها، لكن زملاءها في العمل أبلغوا لاحقًا بمشاهدتهم لها عقب الإعلان عن وفاتها، وتلقى مفتش الصحة بلاغًا بهذا. واستطاع التأكد من أن الدافع وراء إصدار شهادة وفاة مزورة للزوجة – رغم أنها على قيد الحياة- هو التهرب من سداد مديونيات وقروض بنكية وتنفيذ أحكام قضائية. حيث تقدم زوجها بشهادة وفاتها لجهة عملها الحكومي للحصول على مكافأة نهاية الخدمة، وإسقاط مديونيات البنوك.

إجراءات الإكرام

يقول دكتور ايمن فودة الرئيس الأسبق لمصلحة الطب الشرعي الأسبق إن  تصريح الدفن المزور يستخدم لإتمام خطوات استخراج شهادة الوفاة بغرض الاستيلاء على أموال بوليصة التأمين، أو إخفاء شبهة جنائية في الوفاة، أو إسقاط تهم وديون عن شخص على قيد الحياة”.

ويشرح كبير الأطباء الشرعيين السابق: “تبدأ خطوات استخراج تصريح الدفن من مكاتب الصحة التابعة لإدارة الطب الوقائي بوزارة الصحة، وإذا كانت الوفاة في المنزل يتم تبليغ مكتب الصحة التابع له الأهل، شريطة أن يكون المُبَلِّغ من أقارب المتوفى ويمتلك بطاقة الرقم القومي الخاص به.ويقدم طالب التصريح استمارة “تبليغ وفاة” لوزارة الداخلية، وبناء عليها يتوجه مندوب مكتب الصحة لمنزل المتوفى للكشف عليه وتوثيق سبب الوفاة، لإصدار تصريح الدفن موضحًا به السبب، ليسجل اسمه في سجل الوفيات، ويتمكن ذويه من استخراج شهادة الوفاة”.

رئيس مصلحة الطب الشرعي الأسبق أكد أن تزوير تصاريح الدفن يبدأ من تقاعس مندوبي وزارة الصحة عن الذهاب لمنازل المتوفين لتوقيع الفحص والتأكد من صحة الوفاة وخلوها من الشبهات الجنائية سواء كان ذلك بالاتفاق مع أهل المبلغ بوفاته، أو تكاسلا من المندوب. و”هنا تحدث الفجوة، وتضيع الكثير من الحقوق. التزوير يمكن ان يحدث حتى في حالة الوفاة داخل المستشفى، إذ يعتمد المفتش على التقرير الطبي لطبيب المستشفى دون فحص الجثمان”.

طبيعية أم جنائية!

يوضح دكتور خالد فوزي مسؤول الطب الوقائي بمديرية صحة الشرقية:  “حالات الوفاة تنقسم إلى طبيعية وجنائية، الطبيعية لا تحتاج إلا لختم مفتش الصحة، وتطلق على الجثمان الموجود في المنزل. بينما الجنائية منها الوفاة داخل المستشفى أو في حادث، فتحتاج إلى تقرير من الطبيب المسؤول. وتقع المسؤولية في التزوير من عدمه على عاتقه. حيث يتم انتداب طبيب شرعي وتحتاج لتقرير مفصل من النيابة. لذا يصعب التلاعب في حالة الوفاة في المستشفى، بينما يسهل جدا في الحالة الأولى”.

الطبيب قسم حالات الوفاة إلى 3 أقسام. حالات يشتبه ف يكونها جنائية بنسبة 20% وتتصل بالمتوفين من عمر يوم حتى 10 أعوام، المرحلة الثانية هي للمتوفيين من عمر 10 أعوام حتى 50 عامًا – سن الشباب- وفيها ترتفع نسبة الاشتباه الجنائي إلأى 60%. ثم تنخفض النسبة إلأى 20% للمتوفيين من عمر 50 حتى 80 عامًا، لأنها مرحلة شيخوخة وأمراض مزمنة.

وأضاف فوزي: “مكاتب الصحة المتخصصة لاستخراج تصاريح الدفن تتبع قطاع الطب الوقائي بالوزارة، ويخضعون لرقابة الإدارة الصحية ومديرية الصحة والوزارة والمحافظة التابعين لها، ورئاسة الحي والرقابة الإدارية والنيابة الإدارية، ويتواجد بكل منها مفتش صحة واحد”.

وأوضح فوزي أن هناك 4000 مكتب صحة في المحافظات، تعمل جميعها حتى الخامسة مساءً، عدا المكاتب التي تخدم عدد كبير من المناطق، ويمتد عملها على مدار 24 ساعة نظرا للحالات التي تقع عقب مواعيد العمل الرسمية.

وأكمل “يبدأ عمل مفتش الصحة عقب إبلاغ قريب المتوفى له، وسؤاله عن السن، لكن في القرى وبعض المناطق يتم استخراج تصاريح الدفن دون معاينة الجثمان، إما نظير الحصول على مبلغ مالي، أو لخدمة الأصدقاء والأقارب، وهنا يعتبر مفتش الصحة هو المسئول عن أي أخطاء في تصاريح دفن الموتى”.

وسيط للتزوير

يعتمد طالب تصريح الدفن المزور والقائم بالتزوير على وسيط، غالبا ما يكون من العاملين في مكتب الصحة، أو شخص له علاقة بالمفتش والموظفين.

أحمد هاشم أبو زهرة، محامي بالجنايات، قال إنه لإتمام عمليات تزوير تصاريح الدفن لابد من وجود وسيط، يستطيع أن يستخرج تصاريح دفن بختم سليم ومعلومات خاطئة، لذا يجب التفريق بين التزوير بختم شعار الجمهورية السليم، أو تزوير الختم.

وأكمل “إذا كانت المعلومات التي يحويها تصريح الدفن خاطئة، والختم سليم، فعقوبة من طلب استخراجها هي عقوبة جريمة التزوير في محرر رسمي المنصوص عليها في قانون العقوبات المصري، من المادة 206 وحتى المادة 227، وتنص على توقيع أقصى عقوبة على المزور في المادة 212 وهي السجن لمدة عشر سنوات، بالإضافة إلى الغرامة إذا كان قد استولى على مال عام، أو الحبس لفترة أخرى حسب الجريمة التي ارتكبها وزور تصريح الدفن لإخفائها.

أبو زهرة، أكد أنه بالإضافة إلى تلك العقوبات تضاف عقوبة التلاعب في بيانات شهادة الوفاة وفقا للمادة المادة 226 من قانون العقوبات رقم 58 لسنة 1937 والتي نصت على “يعاقب المتلاعب في بيانات شهادات الميلاد والوفاة بالحبس مدة لا تزيد عن ثلاث سنوات أو غرامة لا تقل 500 جنيه  ويعاقب بالحبس مدة لا تتجاوز سنتين أو بغرامة لا تزيد على 500 جنيه، كل من زور في إجراءات تتعلق بتحقيق الوفاة والوراثة”.

أما عن العقوبة الموقعة على الطبيب أو العاملين في مكتب الصحة فوفقا للمادة 222 من قانون العقوبات التي نصت على “كل طبيب أو جراح أعطى بطريق المجاملة شهادة أو بيانًا أو تقريرًا مزورًا بشأن حمل أو مرض أو عاهة أو وفاة، مع علمه بتزوير ذلك يعاقب بالحبس أو بغرامة لا تجاوز 500 جنيه، ولكن إذا كان هدفه من إعداد تقرير مزور الحصول على رشوة أو هدايا، يعاقب بالمؤبد وغرامة لا تقل عن ألف جنيه”.

آلية لحل الأزمة

أبو زهرة أكد أن مفتش الصحة والموظفين لا توجه إليهم اتهامات في أغلب القضايا، نظرا لأن ختم الجمهورية الموجود على التصريح مزور، وهنا لا يمكن محاسبتهم، لذا اقترح أن تكون لدى شركات التأمين – وغيرها من الأماكن التي قد تتعرض لعمليات نصب بسبب تصاريح الدفن المزورة- آلية للتأكد من سلامة المعلومات الموجودة في الأوراق وسلامة الختم، مثل إدارة التحريات الموجودة في بعض شركات التأمين، والتأني في حالة صرف مبالغ التأمين.

الدكتور أيمن فودة، رئيس مصلحة الطب الشرعي الأسبق قال إن حل معضلة تزوير تصاريح الدفن يستلزم وجود رقابة من الأجهزة الأمنية على الذمة المالية لمفتشي الصحة على مستوى الجمهورية، لمراقبتهم خاصة مع تحول التعاملات المالية اليومية للشكل الإلكتروني ما يسهل من معرفة ثروة كل منهم.

وأضاف أنه على مفتش الصحة ألا يعطى تصريح الدفن للأهل إلا بعد تسلم ورقة “بلاغ الحانوتي” مكتوب فيها تشخيصه لسبب الوفاة، ثم يستخرج تصريح الدفن، حيث إذا قبل مفتش الصحة الرشوة  فسيكشفه الحانوتي، لكن مفتشي الصحة يتجاهلون ذلك البلاغ، وإذا ظهرت علامات تدل على أن الوفاة جنائية أو ظروف أخرى تدعو للاشتباه، يجب أن يبلغ الحانوتي المسؤول عن مكتب الصحة.