تخضع تجربة الحكم الناصري للتقييم السياسي المستمر، وتشتعل المناظرات سنويا في ذكرى ثورة 23 يوليو بين الناصريين والليبراليين حول إخفاقات ونجاحات حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، لكن حكومات الرئيس عبد الفتاح السيسي المتتالية اتسمت برؤية تبدو – على السطح- متناقضة ومرتبكة لنجربة ناصر في الإدارة السياسية والاقتصادية للبلاد.
اعتادت الحكومات المصرية تبني خطاب شعبي يستهدف تصدير صورتها باعتبارها مخلصة لتجربة ناصر في الاهتمام بالفقراء. ومع أن مصطلح “العدالة الاجتماعية” ظل حاضرًا في خطاب أول حكومة تالية على ثورة 30 يونيو 2013، إلا أن حكومة مصطفى مدبولي استبعدت هذا المصطلح من خطابها فور توليها الإدارة، وإن حرصت على تصدير صورة ذهنية مفادها أنها تتبنى أفكار عبد الناصر، وتسير على خطاه في تحقيق تلك العدالة الاجتماعية من خلال البرامج الاجتماعية لحماية محدودي الدخل، لذا يشبه بعض المحللين أداء الرئيس عبد الفتاح السيسي بأداء ناصر على مستوى الانحياز الاجتماعي لطبقة الفقراء.
ورغم أن الحكومة لا تسخر جهودها لانتقاد أي تجربة حكم سابقة بعينها، لكن الخطاب الذي ألقاه الدكتور مصطفى مدبولي، أمس الأحد، في الندوة التثقيفية للقوات المسلحة بمناسبة الذكرى ال47 لنصر أكتوبر، ألقى الضوء على بعض الأرقام والسياسات الاقتصادية السلبية خلال حقبة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر.
وذكر مدبولي، خلال استعراضه الوضع الاقتصادي، أن دور الدولة الاجتماعي بداية من فترة الخمسينيات تغير في كل منظومات الخدمات القائمة في الدولة، ما أدى إلى تحميلها بأعباء هائلة أضعفت من قدرتها على مواكبة التسارع الهائل في معدلات النمو السكاني خلال السنوات الخمسين الماضية، حيث دخلت مصر اعتبارا من عام 1956 بصورة مباشرة في سلسلة من الحروب التي استنزفت مواردها بصورة كبيرة وملحوظة.
كما تحدث رئيس مجلس الوزراء عن الكثافات المرورية التي نعاني منها منذ عام 1950 وحتى 2014 بسبب تفاقم مشكلة المناطق العشوائية وغير الآمنة، فلم تستطع الدولة أن تلاحق في جهودها للتنمية هذا الزحف العشوائي، منوها إلى أن الدولة بذلت جهودا كبيرة خلال السنوات الستة الماضية بدءا من عام 2014 من خلال حجم ضخم من مشروعات التنمية والتطوير تصل تكلفتها إلى أكثر من 4 تريليونات جنيه. وقصد مدبولي بالتغيير الذي أثقل كاهل الدولة: منظومة الدعم إجراءات الحماية الاجتماعية التي انتهجتها مصر في هذا التوقيت من خلال طرح مجانية التعليم والعلاج والتوسع منظومة المعاشات الاجتماعية، وهي الفاتورة التي تسعى الحكومة حاليا إلى خلخلتها بتحويل الدعم إلى دعم نقدي يصرف شهريا للمواطنين، بدلا من صرف بطاقة تموين من السلع الاستراتيجية.
ويعد هذا من التصريحات القليلة التي تلمح فيها حكومة مدبولي إلى توجهها إلى إسقاط السياسات الاقتصادية التي بدأت في عهد عبد الناصر، حيث جرت العادة عدم الانسياق إلى سجالات الليبراليين والناصريين بخصوص تقييم مرحلة الستينيات.
وبدأ مجلس الوزراء في الأشهر الأخيرة مناقشة التحول إلى الدعم النقدي ودراسة تطبيقه في بداية يناير 2021، لتخفيف النفقات من على كاهل الدولة، وخدمة الفئات الأولى بالرعاية، وضمان وصول الدعم لمستحقيه.
ووفقا لمؤتمر مدبولي، سجل معدل النمو في مصر قبل حرب اليمن 9.5% وظل يتراجع إلى أقل من 1% بعد حرب 67، متهمًا الحروب الكثيرة التي دخلت فيها مصر بالتسبب في انهيار التنمية تماما في تلك الفترة.
يقول الباحث الاقتصادي مجمود نجم: “الخطة الخمسية الناصرية كانت ناجحة وحققت أهدافها وتسببت في إنعاش معدلات النمو الاقتصادي، لكن النصف الثاني من الستينيات شهد تراجعا كبيرا بسبب إعلان مصر اقتصاد الحرب وإعادة بناء الجيش وتوقفها عن خططها الاستثمارية والتنموية”. لكن الباحث يرى أيضًا أن تسليط الضوء على الانعكاسات السلبية لأداء حكومات عبد الناصر على مؤشر التنمية الحالي، ومتوسط دخل الفرد، ليس إلا محاولة لتصدير صورة ذهنية أن رأسمالية السوق هي الأفضل لمصر عن التجربة الاشتراكية.
“الدولة على مستوى العرض تؤيد رؤية عبد الناصر، [إذ] تدخلت في قطاعات إنتاجية كبيرة مثل العقارات وغيره، لكن على مستوى الطلب هي نيوليبرالية ورفعت يداها عن السوق فيما يخص الأسعار، ولم تشجع كثيرا المنتج المحلي”.
حظ عبد الناصر
هذا على مستوى الاقتصاد. لكن سياسيا؛ يمثل عبد الناصر مرجعية للنظام الحالي بخصوص علاقته بوسائل الإعلام، وهو ما جسده تصريح سابق للرئيس عبدالفتاح السيسي بقوله: “الزعيم الراحل جمال عبدالناصر كان محظوظا، لأنه كان بيتكلم والإعلام كان معاه”.
يرى السيسي في اصر ابنًا مخلصًا لمصر، اجتهد وفق محددات عصره ومقتضيات الزمان الذي عاش فيه، وكان حريصا في كل الأحوال على مصلحة هذا الوطن وحريته وكرامة شعبه، وقد تمنى في حوار سابق له خلال ترشحه لانتخابات الرئاسة في 2014 أن يكون مثله، لأنه كان شخصية عظيمة وكان يحب مصر.
تعكس التصريحات حالة التباين في الموقف الرسمي لتقدير عبد الناصر، فالرئيس يراه نموذجا على مستوى القيادة والسيطرة على ملف الإعلام، أما الحكومة ترى أن الأزمات الحالية سببها النهج الاقتصادي الخاطئ لدولة يوليو.
لكن أستاذ علم الاجتماع السياسي بالجامعة الأمريكية، سعيد صادق، يرفض عقد مقارنات بين النظامين، حيث تختلف الظروف والتحديات، فما واجهه عبد الناصر في الستينيات من أزمات إقليمية وخطاب التحرر من الاستعمار لا يتوافر حاليا في 2020.
يضيف صادق: “ناصر كان ضد الغرب والأمريكان وضد الأنظمة الخليجية ويتحالف مع الروس، أما السيسي منفتح على كل الأطراف ويعد صديقا للجميع” مؤكدا أن حقبة الستينيات مختلفة من حيث برنامجها الاجتماعي وخطاب تعبئة الجماهير ضد الاستعمار والعدو، وإعلامها المغلق على بعض الجرائد والإذاعات، بعكس التحديات التي يواجهها السيسي على مستوى ثورة التكنولوجيا.