في محاولة لتقدير حقيقة ما جرى خلال انتفاضة 18 و19 يناير 1977، استطلع الرئيس الراحل أنور السادات آراء عدد من خبراء السياسية والأمن، كان من بينهم الكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل الذي كان بعيدا عن دائرة صنع القرار في ذلك الوقت منذ أزمة عزله من رئاسة تحرير «الأهرام» مطلع عام 1974.

أشار هيكل على السادات بأن علاج أزمة الانفجار الذي جرى على وقع سوء الأحوال الاقتصادية والتي بلغت ذروتها برفع أسعار عدد من السلع الأساسية، يتوقف على تشخيص السلطة للظاهرة، «إذا كان الرئيس يعتقد – كما كان يقول البعض حينها- بأن ما حدث كان مؤامرة من الناصريين والشيوعيين- إذن فإن العلاج لابد أن يكون بأجهزة السلطة، وأما إذا كان التشخيص الحقيقي لما حدث- كما يقول آخرون وأنا من بينهم – بأن ما حدث كان انفجارا سياسيا له دواعيه الاجتماعية والاقتصادية- إذن فإن العلاج لا يمكن أن يكون بأجهزة السلطة وأدواتها، وإنما يتحتم أن يكون العلاج سياسيا واقتصاديا واجتماعيا».

كان السادات قد قضى يومين في مشاورات مع مجلس الأمن القومي، وتأرجح بين وجهتي النظر المتعارضتين، وفي أعماقه كان مجروحا مما تصوره رفضا قاطعا من الناس لسياسته ولقد أحس أن الناس نسوا أمجاده في أكتوبر، وأن صورته كقائد وطني و«كبير للعائلة» كما كان يحب أن يقدم نفسه للعالم قد تم تمزيقها في شوراع القاهرة خلال ساعات عاصفة.

ويرى هيكل أن شرعية الأنظمة في العام الثالث تتعرض لشروخ كبيرة عندما تتأزم العلاقة بينها وبين جماهيرها، وتجد نفسها مضطرة إلى فرض الأحكام العرفية واستدعاء الجيوش لاستعادة زمام الأمور، «عندما يجد نظام من النظم الحاكمة في العالم الثالث نفسه أمام أزمة مع جماهيره لا تكفيه لمواجهتها وسائله السياسية العادية، ولا تكفيه وسائل القمع البوليسي التي تمكلها الدولة، ولا تكفيه وسائل القمع المعنوي الذي يمكن أن تصنعه وسائل إعلامه، ثم يجد نفسه مضطرا إلى فرض الأحكام العرفيه وحظر التجول، واستدعاء القوات المسلحة لكي تمسك بزمام الأمور، معنى ذلك أن شرعية هذا النظام تكون قد أصيبت بكسر، أو بشرخ كبير على الأقل، وكان ذلك بالضبط ما واجهه نظام السادات في أعقاب حوادث 18و19 يناير 1977».

وكعادة الأنظمة التي فقدت توزانها واهتزت شرعيتها بسبب انهيار مستوى «الرضا الشعبي العام»، حاول السادات أن يجري عملية «ترميم» لإخفاء الشرخ الكبير الذي أصاب واجهة نظامه، «كان أسلوبه في ذلك هو الأسلوب التقليدي الذي لجأ إليه دوما، وهو أسلوب الاستفتاء، لقد خرج من فترة الحيرة وقد استقر رأيه مع الذين يرون أن ما حدث يومي 18 و19 يناير كان مؤامرة خطط لها ونفذها بعض الشيوعيين وغيرهم ممن تحركهم الأروح الشريرة، وهكذا تقدم السادات إلى الناخبين باستفتاء يضم 11 مقترحا وكان على الناخبين أن يقولوا رأيهم في هذه المقترحات»، يضيف هيكل.

وردت عقوبة «الأشغال الشاقة المؤبدة» في العديد من مواد الاستفتاء الذي جرى تحت عنوان «حماية الوطن والمواطنين»: «الأشغال الشاقة المؤبدة لكل من أنشأ تنظيمات معادية لنظام المجتمع وكل من شارك فيها أو دعا إلى إنشائها.. الأشغال الشاقة المؤبدة لكل من تجمهر بقصد تخريب أو إتلاف الأملاك العامة أو التعاونية، وتطبق نفس العقوبة على المحرضين والمشجعين.. الأشغال الشاقة لكل من يقدم بيانات غير صحيحة عن ثروته أو تهرب من أداء الضرائب.. الأشغال الشاقة المؤبدة لكل من دبر أو شارك في تجمهر يؤدي إلى إثارة الجماهير.. الأشغال الشاقة المؤبدة لكل من يضرب عن العمل .. ألخ».

لم تختلف نتيجة استفتاء «حماية الوطن» عن نتائج الاستفتاءات التي تجرى في مصر عادة، ووافق 99.42% من المشاركين في التصويت على مقترحات الرئيس التي تصطدم بمواد الحقوق والحريات في الدستور وبمبادئ الديمقراطية التي ظهرت لها «أنياب» تنهش المعارضين والمخالفين لسياسات بطل الحرب، وبناء على تلك النتيجة حاول السادات أن يقنع نفسه ومن حوله بأن الجماهير الواسعة تقف وراءه وتؤيده، وأن الأقلية الضالة هي التي تعارضه وتثير له المتاعب.

مرت شهور كئيبة على الرئيس «المؤمن» الذي شعر بإهانة بالغة مما جرى، حاول القفز لمساحات غر متوقعة في محاولة لاستعادة الصورة الذهنية التي اجتهد في تكوينها قبل يناير 1977، لكنه ودون أن يدري قفز إلى مساحات أساءت له ولمؤسسات الدولة المصرية، باغت القائد المنتصر الشعب بإعلان درامي مفاجئ عن استعداده لزيارة القدس والخطاب في «الكنيست ذاته»، وانتهى الأمر بتوقيعه اتفاقية سلام منفرد مع العدو الصهيوني قبل أن تجف دماء الشهداء على رمال سيناء، وتعددت القفزات ومحاولات الهرب وتعددت معاها الأزمات والصدامات مع معظم فئات المجتمع، حتى وصلنا إلى الفصل الأخير الذي شهد اعتقالات سبتمبر الشهيرة والتي جمع فيها السادات نخبة مصر خلف الأسوار، وشهد من قبلها تعديل مواد الدستور لتسمح ببقائه في الحكم لمدد غير محددة، لُيسدل الستار على مشهد النهاية باغتيال بطل الحرب في المنصة على أيدي أولاده.

عرف أهل العلوم السياسية «شرعية الأنظمة» بأنها «الرضا أو القبول العام للنظام السياسي، بمعنى موافقة الشعب على ممارسة السلطة لمهامها من أجل تحقيق الأهداف التي يحددها الشعب»، وهنا تبرز معادلة «القبول والطاعة» كأساس لشرعية أي نظام، ومهما تمتع النظام السياسي بالقوة والسلطة فأنه دون رضا شعبي بدرجة مقبولة يعتبر سلطة استبدادية لا تملك أهم مسوغ من مسوغات الاستمرار في الحكم،  وبدون هذا القبول تصاب شرعية الأنظمة بالشروخ، وكلما صاعدت السلطة من عنفها لإجبار الجماهير على قبول قرارتها وسياستها زادت حالة «السخط العام» وتعمقت الشروخ، وإن لم تُجبر تلك الشروخ بتغييرات جذرية في توجهات الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية تصبح شرعيتها في مهب الريح. 

أصيبت شرعية نظام السادات بشروخ عميقة في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، لم يسع الرجل إلى جبرها، حاول التحايل عيلها وترميم الواجهة فقط، واختار الهروب والقفز إلى المجهول، دون أن يقف على أسباب فقدانه الرضا والقبول الشعبي، فانتهى أمره على النحو الذي ذكرناه آنفا.

مضى الرئيس الراحل حسني مبارك على درب سلفه، اعتمد نظرية «ترميم الواجهة» كطريقة حكم، وضع في بداية حكمه بعض الطلاء على الشروخ العميقة التي أصابت البناء الذي تسلمه، سمح بهامش من في السياسة دون أن يقترب من المتن، فالقائد السابق للقوات الجوية بحكم تكوينه لم يقنع يوما بالتعددية الحقيقية ولا بالرقابة أو الفصل بين السلطات وبالطبع لا يعرف لتداول السلطة طريق.

الطلاء وحده لا يجبر الشروخ.. فبعد وقت قصير من بداية عصر مبارك عادت الشروخ إلى الواجهة مرة أخرى وتعمقت بفعل تزوير الانتخابات والاستفتاءات، وإصرار الحزب الحاكم على احتكار السلطة والثروة معا، وتهميش وإقصاء المخالفين والمعارضين، وتغليب الأمن على السياسة.

ومع ظهور مشروع «التوريث» في بداية الألفية الجديدة بدأت عملية إعادة هندسة الدولة لتناسب مقاس الوريث، أُجريت تعديلات على مواد الدستور، وأحكمت الأجهزة الأمنية قبضتها على معظم مؤسسات الدولة تحركها كيفما تشاء، وفي عام 2010 واستعدادا لاتمام مخطط تصعيد الوريث جرى تزوير الانتخابات وتأميم برلمان 2010 بشكل شبه كامل لصالح رجال أمانة سياسات الحزب الوطني.

سخر مبارك من تأسيس المعارضة لما عرف حينها بـ«البرلمان الموازي» ردا على تزوير الانتخابات، وأطلق خلال كلمته بالجلسة الافتتاحية لبرلمان 2010 عبارته الشهيرة «خليهم يتسلوا»، فرد الشعب على سخريته بالخروج عليه وإعلان العصيان العام في 25 يناير 2011. 

لم تفلح محاولات مبارك اليائسة في استرضاء شعبه، ورفضت الجماهير في ميادين التحرير منحه فرصة لترتيب أوراق خروجه بعد 6 شهور كما أدعى في خطاب «لم أكن أنتوي»، لينتهي الأمر بعد 3 عقود من التسلط والاستبداد والتجريف بهذا الشكل المدوي الذي جرى في 11 فبراير عام 2011، ويسقط الرئيس ويسقط معه مشروع «التوريث».

رغم وصول الرئيس الراحل محمد مرسي إلى السلطة عبر انتخابات تعددية اقتربت من حد النزاهة، ألا أنه مضى على طريق السلف الطالح، كرر نفس الموبيقات السلطوية، اعتمد على الأهل والعشيرة وأبعد الكفاءات واصطدم بالجميع، وعدل الوثيقة الدستورية التي اُنتخب على أساسها رئيسا، فسقط سقوطا مدويا، وأعاد جماعته إلى السجون مرة أخرى.

مر ما يقرب من 40 عاما على اغتيال السادات و10 سنوات على سقوط مبارك و7 على عزل مرسي ولاتزال الشروخ ضاربة في عمق شرعية الأنظمة السياسية المتعاقبة، اللافت أن هؤلاء ومن أعقبهم انتهكوا حقوق الشعب المصري السياسية والاقتصادية والاجتماعية بدعوى الحفاظ على الدولة واستقرارها، رغم أن لهذا الاستقرار مسوغات أخرى لم يقدم أيا منهم على تجريبها، جربوا العنف والتسلط والاستبداد وجنبوا الديمقراطية وطريقها الذي يصنع الاستقرار الحقيقي.

تسعى النظم الاستبدادية فقط إلى الاستقرار الظاهر، تمارس العنف الرسمي لتقصي كل من يناوئها، تشيع مناخا من الخوف لتضمن به الطاعة القسرية، تكتم شعوبها بالقوة والملاحقة والإكراه لتحكم قبضتها على السلطة، لا تعلم أن هذا الاستقرار الظاهر يخفي تحت رماده نارا خافية قابلة للاضطرام بين لحظة وأخرى.