يشارك عبدالله أحمد، خريج كلية التجارة جامعة طنطا، في ملتقيات التوظيف طوال العامين الماضيين باحثًا عن فرصة عمل. يجهز في دولابه ملابس رسمية لا تقترب منها الأيدي إلا مع كل إعلان جديد عن فعالية ترتبط في ذهنه بفرصة للتعيين أو بدء حياة عملية جديدة.

خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام الحالي (قبل ظهور جائحة كورونا)، تم تنظيم نحو 10 ملتقيات للتوظيف في القاهرة والمحافظات، كان للأحزاب نصيب الأسد منها، سواء بمفردها أو بشراكة مع الجامعات والمحافظات، قبل أن يتوقف النشاط مع ظهور جائحة كورونا، لكنها كانت كافية لعبد الله كي يحكم على التجربة ومآلاتها.

يقول عبدالله، الذي يبلغ حاليا 25 عامًا، إنه لا فارق كبير بين الملتقيات الحزبية أو الحكومية أو الخاصة التي تنظمها شركات، فكلها لا تتعدى تجمعًا لشباب صغير يحلم بكسب ثقة مسؤولي الموارد البشرية بالشركات، وتوقع استمارة قبول أو تسليم سيرة ذاتية، لكن الأمر ينتهي بعبارة : “معنا هاتفك .. سنتصل بك”.

دخلت العديد من الأحزاب السياسية المصرية في مجال ملتقيات التوظيف بقوة منذ عام 2018، بعدما وجدتها وسيلة لضرب عصفورين بحجر واحد: تحقيق دعاية مجانية لأنشطتها، والتقرب من القطاعات الشابة التي تعزف عن ممارسة السياسة.

يفترض أن تكون الملتقيات الحزبية جسرًا يربط الشباب بالشركات، إلا أن أثرها ينتهي بمجرد انتهاء فعاليات الحدث، فلا متابعة للوظائف التي تم الإعلان عنها، ولا فتح قنوات اتصال بين الشباب الذين التحقوا بالعمل أو تحقق من مصيرهم بعدها.

قبل شهور، حضر كاتب هذه السطور جلسة للتخطيط لملتقى توظيفي كبير لحزب “مستقبل وطن” وهو الحزب الاكبر على الساحة السياسية حاليًا، وكان التركيز الأساسي في نقاشات منظميه على فكرة الدعاية الحزبية كهدف أول، من خلال الإعلان عن أكبر عدد ممكن من الوظائف بصرف النظر عن نوعياتها، وحشر أكبر قدر من الشباب المتقدم عبر بوابات الدخول لالتقاط صور تجسد الحضور الكبير لهم وثقتهم في فعاليات الحزب.

يقول عمرو الشريف، نائب رئيس حزب المحافظين لشؤون التنظيم، الذي سبق له تنظيم ملتقيين للتوظيف أحدهما بمنطقة الزاوية الحمراء الشعبية والثاني ضمن ملتقى ثقافي بحي المعادي: إن تلك الملتقيات، تؤكد أن للأحزاب دور قوي بالشارع، وتعبر عن تحمل مسؤوليتها تجاه مصلحة المواطن.

يضيف الشريف، أن تلك الفعاليات الحزبية تعتبر وسيلة لتشجيع اﻻستثمار، بمنح الشركات فرصة لاختيار أفضل العناصر من الشباب، كما تحارب شركات التوظيف الوهمية التي تتربح بدون تقديم فرص عمل حقيقية للشباب، مقابل بيع استمارات بلغ ثمن بعضها 200 جنيه. إذ تجمع ملتقيات الأحزاب الشركة بالمتقدم للوظيفة على طاولة واحدة وبدون وسيط.

تشهد الملتقيات الحزبية تركيزًا على وظائف مساعدة لا تحمل فرصة للترقي المهني ولا تلبي طموحات المتقدمين، فباعتراف لجنة الشباب المركزية بـحزب المحافظين التي نظمت ملتقى التوظيف الثاني للحزب مطلع العام، كان النصيب الأكبر لقطاعات السكرتارية والمحاسبة، ثم خدمة عملاء ومشرفي أمن، والكاشير في المولات التجارية وعمال المطاعم، وهي وظائف يمكن للشباب الوصول إليها بسهولة دون ملتقيات.

ويبدي ناجي الشهابي، رئيس حزب الجيل، اعتراضًا على تلك النوعية من الملتقيات، فالأحزاب السياسية “دورها سياسي في المقام الأول، ولا يجب أن تطغى الأدوار المجتمعية كملتقيات التوظيف أو معارض السلع المخفضة على نشاطها الأساسي”.

الأحزاب درجات

شهدت الفترة التي تلت ثورة 25 يناير 2011 تأسيس مجموعة من الأحزاب التي طغى على تشكليها رجال الأعمال من الصفين الأول والثاني، ووصل منهم إلى مقعد مجلس النواب من عباءة حزبية نحو 94 رجل أعمال، حولوا أنشطة الأحزاب من مزاولة السياسة إلى الأنشطة الاجتماعية مثل معارض السلع المخفضة والمناسبية كاحتفالات المولد النبوي وموسم المدارس والأعياد. وهو ما يعلق عليه الشهابي بأن الملتقيات وإن كانت مشروعة ضمن المنافسة الحزبية؛ إلا أنها “تفتح الباب أمام الأحزاب الغنية للاقتراب من الجماهير وتحقيق الشعبية بشكل أكبر من الأحزاب الفقيرة، التي تعتمد على اشتراكات أعضائها فقط في التمويل”.

وأصبحت الوظائف الخدمية هي السمة المميزة للملتقيات في مصر عمومًا، أحدثها ملتقى افتراضي نظمته عشرة جامعات حكومية في 28 سبتمبر 2020 بصورة افتراضية تواجد نحو 4 آلاف طالب وخريج من تسع محافظات من أسوان إلى الإسكندرية، وتركزت غالبية الوظائف المعروضة التي قدمتها 40 شركة مشاركة عن  مجالي “خدمة العملاء” و”التسويق”.

ويشكو خريجو الكليات النظرية مثل الحقوق والآداب عدم توافر ما يناسبهم في الملتقيات بوجه عام، أو فرضها رواتب متدنية للغاية، مثل إبراهيم عبدالعليم، خريج الخدمة الاجتماعية، الذي شارك في أربعة ملتقيات كانت الوظائف التي تم قبوله فيها براتب لا يتجاوز 1200 جنيه بحي مصر الجديدة لا تكفيه تكلفة الانتقال إلى مقر سكنه في شبرا الخيمة.

وكشف تقرير صادر في مايو الماضي عن المركز المصري للحقوق الاقتصادية، أن الخدمات تسيطر على نصف مساهمة فئة الياقات البيضاء في المنظومة الاقتصادية والتشغيلية بوجه عام، بينما أصبح أصحاب المهن العلمية يمثلون عدد أقل في المنظومة ذاتها تعادل بالضبط نسبة رجال التشريع وكبار المسئولين بالدولة ما يدل على وجود علاقة مختلة، فالطبيعي أن تكون نسبة أصحاب المهن العلمية أكبر في المنظومة الاقتصادية ومنظومة التشغيل.

الدعاية أم التوظيف؟

يقول إبراهيم عبد العليم الذي تخرج قبل عامين، إنه يشعر بعدم جدوى الملتقيات، “هدفها الدعاية، سواء من القائمين على تنظيمها أو المشاركين فيها، فبطبيعة الحال حال وجود وظيفة شاغرة يرشح العاملون الأساسيون بالشركة أقربائهم للعمل، ويستغلون علاقاتهم، حتى أن بعض الشركات تضع بندا ثابتًا في استمارة القبول يتضمن خانات لاسم القريب الذي تولى الترشيح للعمل”.

ووفقًا لتقرير الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الصادر عن مركز هشام مبارك للقانون والدراسات لعام 2009، فإن كثير من “ملتقيات التوظيف لا تغطي احتياجات الدولة أو التخصصات كلها، وأنها جزئية ومحدودة بطبيعة تشكليها”.

ويقع الكثير من خريجي التخصصات غير المطلوبة في سوق العمل تحت رحمة شركات تستغلهم، أو تتلاعب في اتفاقاتها معهم إما بتغيير طبيعة النشاط المتفق عليه أو اقتصاص الرواتب أو حتى فصلهم قبل تلقي أي راتب بحجة ضعف الأداء.

وهو ما حدث مع أماني إسماعيل، خريجة معهد فني تجاري، التي التحقت بالعمل في شركة شهيرة في مجال إنتاج العطور، بعدما شاهدت إعلانا معلقا على أبواب مترو الأنفاق،  وأجرت مقابلة عمل دفعت قبلها 200 جنيه ثمن استمارة انضمام للشركة، ونجحت في اختبار البيع عبر الهاتف واستعدت لمباشرة العمل المتفق عليه. لكن عندما حانت لحظة تسلم الوظيفة تغيرت الأمور تمامًا.

تقول أماني إنها ظلت أربعة أيام تجلس في الشركة دون أن تلمس هاتفا، وبعدها أخطرت بأنها ستنزل للشارع للعمل كمندوبة بيع مباشر، وأنها لن تتلقى راب ثابت، وإنما نسبة 10% مما تحققه من مبيعات. اضطرت أماني للقبول، لتفاجأ بتخصيص منطقة محطة مصر لها، ما عرضها لكم كبير من مضايقات الشباب الجالس على المقاهي الذي يسخر من سعر المنتج الذي تبيعه وجودته.

تحملت الفتاة العمل الشاق حتى جاء موعد الراتب بعد 25 يومًا من اللف في الشوارع، لتفاجأ بأنها مفصولة من الشركة لأنها لم تحقق المستهدف منها، وأنها أنفقت من جيبها على العمل بدلاً من أن ينفق العمل عليها.

لا تخلو ملتقيات التوظيف من تجارب مشابهة لكن بشكل يحمل قدرًا أكبر من الالتفاف و”الإتيكيت”، فبعض الشركات المشاركة تخاطب أحلام الشباب بتلقي رواتب تصل إلى 10 آلاف جنيه شهريا، لكن الأمر مشروط بتحقيق مبيعات تتجاوز حاجز الربع مليون جنيه وهو أمر صعب في ظل طبيعة المنتج ومرونته، فالبعض مرتبط بنشاط التجهيزات الطبية والأدوات المعملية التي لها زبائن متخصصة وقليلة العدد.

وتشجع الدولة أنشطة الملتقيات بقوة في ظل اتجاهها لوقف التعيينات في الجهاز الإداري والحكومي ضمن اتفاقها مع صندوق النقد الدولي على قرض بلغت قيمته 12 مليار دولار تلقت أولى دفعاته في الربع الأخير من عام 2016.

ووفقًا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، ارتفع معدل البطالة إلى 9.6% في الربع الثاني من العام الجاري، مقارنة بــ7.5% في الفترة ذاتها من العام الماضي بسبب تداعيات جائحة فيروس كورونا المستجد.

الشيطان في التفاصيل

ويؤكد الدكتور رشاد عبده، رئيس المنتدى المصري للدراسات الاقتصادية والإستراتيجية، إن الملتقيات التي ينظمها رجال الأعمال تتضمن قدرًا من الجدية على اعتبار من يتقدم إليها يخضع لاختبارات مكثفة قبل قبوله. لكن دخول الأحزاب السياسية في تنظيم تلك الملتقيات دون شبكة علاقات قوية مع المستثمرين يجعل هدفها الدعاية فقط.

واستغلت الأحزاب تراجع دور المجتمع المدني في الاهتمام بالملتقيات، حسبما تذكر ورقة بحثية، للدكتورة ليلى البهنساوي، الأستاذة بآداب القاهرة، شملت استطلاعا لرأي 101 رجل أعمال عام 2018 حول رؤيتهم لمخرجات التعليم الجامعي وسوق العمل، وأكدت على اختفاء دور المجتمع المدني في تنظيم الملتقيات وقصر دوره – إن وجد-  على التدريب فقط.

وتقول الورقة البحثية إن رجال الأعمال يطلبون التواجد كأعضاء في مجالس أمناء الكليات لفتح التدريب أثناء المرحلة الجامعية في مشروعاتهم، والذي يعتبر عنصرا أساسيًا يؤهل الخريجين لتلبية احتياجات ملتقيات التوظيف.

ويقول عبده إن المشكلة في طريقة الترويج للملتقيات التي ترفع من سقف الطموحات التي سرعان ما تتحول إلى إحباط حال الفشل في إيجاد وظيفة لملايين الخريجين الذين خرجوا للسوق دون تأهيل أو تدريب وفي تخصصات لا يحتاجها القطاع الخاص .

وغالبًا ما تتضمن الملتقيات شعارات براقة تعد المتقدمين بوظيفة مثل الملتقى الذي نظمته 10جامعات مصرية أخيرًا بصورة افتراضية والذي حمل عنوان “وداعًا للبطالة”، وسابقيه الذين داروا في فلك “أي كان تخصصك.. هتلاقي شغلك عندنا” حتى لو لم تكن مؤهلاً أو مدربًا.

وفي دراسة صدرت في 2014 وأجرتها الدكتورة عواطف عبدالرحمن وآخرون، حول مستقبل التعليم الجامعي، أكد 25% من العينة التي تم استطلاع آرائها وتشمل صحفيين وأستاذة جامعات، أن نشاط بعض الكليات في تنظيم ملتقيات التوظيف لم ينعكس بشكل كامل على مصلحة المجتمع وتنميته، فمازالت الجامعات بحاجة لمزيد من الترابط لتضييق الفجوة بينها وبين احتياجات المجتمع وسوق العمل محليا ودوليًا.

لكن ميار محمد، التي تعمل حاليًا في البنك الأهلي المصري، تقول إن الملتقيات التي حضرتها أثناء الدراسة ساهمت في سرعة حصولها على وظيفة، فعرفت خلالها المؤهلات المطلوبة ونجحت في الحصول على 4 برامج تدريبية قبل التخرج، أهلتها لاجتياز مقابلة العمل بسهلة.

ورغم إعلان الكثير من البنوك عن مشاركتها في ملتقيات التوظيف لكنها لا تقبل الغالبية العظمى من المتقدمين، وتعتمد على الإعلانات التي تعلن عنها على مواقعها بشبكة الانترنت واختبارات شاقة يتولاها حاليا أساتذة معروفون بالجامعات، مثل البنك الأهلي الذي يستعين حاليًا بالجامعة الأمريكية في اختيار المواهب الشابة الجديدة في صفوفه.

يظل تحقيق ملتقيات التوظيف دورها في تقريب الشباب إلى سوق العمل مرهونًا بمدى اقتناع القائمين على تنظيمها سواء أكانوا أحزاب أو حكومة أو قطاع خاص بالجدوى من ورائها، فإذا أرادوا إصلاحًا كانت التوظيف من نصيب المشاركين فيها، وإن أرادوا دعاية فستنتهي بمجرد التقاط الصور التذكارية في حفلات افتتاحها.