“أشعر إني حيوان منبوذ، لا يحبني أحد، لن أتزوج، ولن يكون لي أصدقاء أبداً” كلمات بسيطة مقتضبة تبدأ بها “ميسرة حازم ” 19 سنة حديثها، فتاة سمراء اللوان تدرس في المرحلة الأولى للتعليم عن بعد بإحدى الجامعات الأمريكية، متفوقة دراسياً، تمكنت أن تحصل على منحة في عمر صغير لإستكمال دراستها تحت رعاية إحدى الجامعات الأجنبية في مصر، إلا أن تفوق ميسرة لم يكن شفيع لحمايتها من الوقوع في مصيدة التنمر الدائم من المحيطين بها.

 

تنمر أسري

من الممكن أن تمر على الآذان حوادث متكررة للتنمر اللفظي والجسدي بين الغرباء، أو حتى الزملاء في العمل، والجيران، لكن مآساة ميسرة بدأت من داخل أسرتها مجتمعها الصغير، الذي من المفترض أن يكون آمن بالنسبة لها، كان هو الأقسى عليها دوماً ، تقول ميسرة أن لها شقيقان ذكور، ووالدها يعمل بإحدى الدول العربية، وتتولى الأم مسؤولية تربية الأبناء، لم تسلم ميسرة من تنمر أخوتها عليها منذ طفولتها، وكانوا يطلقون عليها “العبدة” دور الام هنا كان ضعيف بعض الشيء، تتدخل أحياناً للدفاع عن ميسرة وأحياناً أخرى تأخذها مشاغل الحياة، ومرت السنوات كرهت خلالها ميسرة أخوتها ووالدتها وجميع المحيطين بها، وتعرضت لمشكلات نفسية جعلتها تتبول لا ارادياً في الليل ، وتصاب بتلعثم لغوي، ومشكلات عديدة جعلتها تخطط حالياً لإستكمال دراستها في الخارج هرباً من كل المحيطين بها.

 

مشكلة ميسرة ليست وحيدة ولكنها واحدة من بين نماذج عدة تتكرر مأساتها يومياً في صورة تنمر يصيب ألأفراد ذوات البشرة السمراء ..

 

عقدة قديمة

في غرفة لم تزد مساحتها عن ٢٠ متر بحي باب اللوق ولدت “منيرة ابراهيم” منتصف ستينيات القرن الماضي، داخل الغرفة عاشت اسرة منيرة المكونة من 11 فرد، اب وام و ٨ أشقاء لمنيرة منهم 5 إناث و ٣ ذكور، حياة قاسية عاشها الأشقاء حتى كبروا وتزوجوا منهم من حصل على تعليم متوسط ومنهم من لم يستطع بسبب ضيق ذات اليد للاسرة، وقد كان يعمل الأب حارس لأحد الشركات الخاصة، حياة منيرة كانت مليئة بالآلام اضعاف ما يعانيه اخواتها بسبب تعرضها المستمر للسخرية من زملائها في المدرسة بسبب لون بشرتها، فهي فتاة سمراء يقال أنها ورثت اللون الأسود من الجدة للأم، نعتها أهل الأب بـ “عثمانة ” يقولوها لها تارة في صيغة الضحك والدعابة، وتارة أخرى وقت توبيخها لأي سبب من الأسباب، تركت منيرة المدرسة في المرحلة الابتدائية بارادتها، بسبب سخرية الزملاء من لون بشرتها، وقد توطدت بداخلها عقدة “عثمانة” واتجهت للعمل في المصانع في سن صغيرة بحجة مساعدة اهلها على المعيشة، لدخل منيرة دوامة جديدة من التنمر والسخرية من زملاء العمل منهم من رفض ان ياكل معها ومنهم من تعمد ضربها وإهانتها، لم يكن امام منيرة حلول اخرى سوى التحمل والانتظار حتى تزوجت وكان شرطها الاساسي في العريس ان يكون هو الاخر ذو بشرة سمراء حتى لا تتعرض لسخرية وتنمر جديد منه، وانجبا 3 إناث جميعهن ذوات بشرة سمراء، تقول منيرة “العقدة القديمة لازالت تراودني وأكره أن يراني أحد ولا أحضر التجمعات العائلية كثيراً لكني لم ولن أسمح أن يسخر أحد من لون بناتي، وأحاول اجعلهن يحببن أنفسهن على ما هن عليه” .

 

عانس للأبد

لم تكن تعلم “زينب عبد الله” 51 سنة تعلم أنها ستدفع بشبابها وحلمها في الزواج وتكوين أسرة ثمناً للونها الوراثي الذي يتسم بالسمار بعض الشيء، زينب أبنة لأسرة مصرية خمرية اللون، إلأ أن زينت كانت اكثر سماراً من باقي أفراد أسرتها.

تقول زينب :”عندما كنت في العشرين من عمري، كنت احضر حفلات زواج كثيرة لصديقاتي وللأهل وللجيران، تمنيت كثيراً أن أكون مكان كل عروسة حضرت فرح لها” كانت زينب تحلم بالفستان الأبيض إلا أنها لم ترتديه أبداً حتى الآن، بسبب لون بشرتها رفضها أكثر من عريس، فحتى عندما وافقت على الزواج عن طريق الخاطبة أو كما يطلق عليه زواج الصالونات، تلقت ضربات كثيرة من قبل العريس أو أهله دون سابق معرفة بينهم، فبمجرد أن يراها العريس واسرته خلال الزيارة الأولى يبدأ عدم الارتياح في الظهور على وجوههم وعقب خروجهم من المنزل يخبروا الوسيط أن العروسة لا تليق بالعريس، أو يقولوا أي سبب آخر ومنهم عدد كبير قال الحقيقة أن السبب الحقيقي لون بشرة العروسة.

فقدت زينب الأمل في أن ترتدي الفستان الأبيض إلى الأبد، وتأثرت نفسياً بالأمر كثيراً فأًبحت لا تحب الخروج، وترفض التصوير، ترفض أن يراها أحد ويظهر علامات عدم الارتياح على وجهه، أو يصفها بالعانس السمراء كما قالها لها أحدهم .

 

اكتئاب وقلق مزمن

لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المجهود ومضاد له في الإتجاه، قاعدة فيزيائية ثابتة، فرضت نفسها على الحياة بوجه عام، حتى فيما يتعلق بأزمة اضطهاد ذوات البشرة السمراء، فكل ما يقع عليهم من ظلم أو تنمر خلال الحياة اليومية، يُختزن بداخلهم ليتحول إلى عقد وأمراض نفسية عديدة، بل وتمتد الآثار السلبية لسنوات.

وفي هذا الصدد قالت دراسة طبية أمريكية أن الاطفال الذين تعرضوا للقهر ممن هم اقوى منهم او اتصفوا بهذه الصفة عرضة اكثر من غيرهم للإصابة بالاكتئاب والقلق واضطراب الهلع لسنوات تالية أكثر من غيرهم، ويدخل ضمن هذا القهر التنمر الذي عرفه الباحثين على أنه كل فعل يكون له تأثير نفسي سواء على من اتصفوا به أو كانوا ضحية له لكن لم يتضح إلى متى يمكن لهذه الآثار أن تستمر.

ولكن الدراسة الأخيرة التي نشرت في دورية جمعية الطب الأميركية قالت إن “الاكتئاب والقلق المرتبطين بالتنمر خلال فترة المدرسة يستمران على الأقل حتى فترة منتصف العشرينات من العمر
وأوضحت الدراسة أن أسوأ الحالات هي للأشخاص الذين اتصفوا بالتنمر وكانوا ضحية له أيضا
وقال وليام كوبلاند، خبير الأمراض النفسية ورئيس الفريق الذي أعد البحث في المركز الطبي التابع لجامعة دوك في نورث كارولاينا “أضرار التنمر قصيرة الأجل معروفة بشكل واضح، لكن انتابه الدهشة لأنه وبعد مرور عقد من التعرض للتنمر وبعد اجتياز نوع من الانتقال إلى البلوغ نرى استمرار بعض الآثار السلبية على الأفراد . 

خلال البحث سالف الذكر شارك فيه فريق مكون من 1420 شابا من غرب ولاية نورث كارولاينا، واجهوا أسئلة عن تجاربهم مع التنمر في مراحل مختلفة من حياتهم خلال الفترة من سن 9 وحتى 16 ثم جرت متابعتهم وتقييم أدائهم السلوكي حتى سن 26.

 

مجتمع مفكك

يقول محمود علاء الدين أستاذ علم النفس الإجتماعي أن كل الأضرار التي تحدث داخل الإنسان جراء التنمر أو السخرية من لونه، تجتمع في النهاية وترتص بجانب بعضها البعض لنجد أنفسنا أمام مجتمع مليئ بالأمراض النفسية.

يوضح علاء الدين أن أغلب افراد المجتمع يظنوا أن الأمر بسيط، ويمكن تخطيه بسهولة، إلا أنه في حقيقة الأمر وبنسبة كبيرة يتحول أفراد المجتمع بسبب التنمر من شخصيات سوية، إلى أشخاص يكرهون من حولهم، وهو ما سيؤثر على المجتمع ككل، ويعرقل حركة الإنتاج على المدى البعيد، ويزيد من احتمالية حدوث التفكك الأسري وتدمير العلاقات في دوائرها الصغرى، ربما لا تظهر كل هذه المساوئ معاً الأن لكنها النتيجة الحتمية الأكيدة خلال السنوات القادمة، خاصة بين الحالات التي تشهد تنمر عنصري يتعلق بالجن أو اللون أو الشكل، وجميع الأمور التي لا دخل للإنسان بها، ولا يمكن أن يختارها بإرادته، وهذا النوع من التنمر ازداد وانتشر خلال الفترة الحالية كثيراً .

 

ورغم وجود  الاتفاقية الدولية للقضاء علي جميع أشكال التمييز العنصري التي نصت على أن البشر يولدون جميعا أحرارا ومتساوين في الكرامة والحقوق، وأن لكل إنسان حق التمتع بجميع الحقوق والحريات المقررة فيه، دون أي تمييز لا سيما بسبب العرق أو اللون، ل،