تطرح منظمة اليونسكو عبر وثائقها المتنوعة ضرورة التزام الدولة بتوفير “دعائم التعليم الأربعة” التي طرحتها كعنصر استرشادي يحكم طبيعة ونوع التعليم الذي نريد وهي: التعلّم من أجل المعرفة، التعلّم من أجل العمل، التعلم من أجل البقاء، والتعلّم من أجل العيش معاً والذي يتضمن تنمية فهم الآخر وإدراك أوجه التكافل بين البشر في ظل احترام التعددية والتفاهم والسلام والتنوع الثقافي، وهو أمر يبدو بسيطا يعبر في صميمه عن الحدود الدنيا لحق الطفل في التعليم، وهو في اللحظة ذاتها حق المجتمع في الاستمرار وإمكان تحقيق التنمية والاستدامة من خلال تنشئة أطفاله ومن ثم ضمان الوصول للمستقبل في ظل توافر الرأسمال البشري الذي يضمن له التطور من ناحية، والقدرة على مواجهة التحديات المتلاحقة التي يواجهه بها العالم في ظل تغيرات متلاحقة.

فالعولمة وما يصاحبها من وسائل الاتصال، وما يترتب عليها من انضغاط فى الزمان والمكان، والتي تخرج (الفرد) من دائرة الأسرة، إلى دائرة ثقافية عالمية،أصبحت تسهم بنصيب كبير فى تشكيل وعي الطفل وبناء شخصيته، وهنا تتجلى قضية التنشئة، والتى تضع الفرد أمام مؤثرات عديدة قد يجد نفسه (مشتتا) أمامها إذا لم يتمكن من أن يضع لنفسه آليات تكيف تمكنه من أن يحقق قدراً من التوازن بين القوى والمؤثرات المتناقضة، ومن أن يكون قادراً على أن يتقبل الثقافات الأخرى، مع القدرة على الحفاظ بشكل دائم على هويته الشخصية وهويته الثقافية، ومن تعلم آليات العيش المشترك فى عالم تتعدد فيه الرؤى والغايات والأهداف. 

ولقد بات واضحا منذ فترة ليست بالقليلة أن المعلومات والمعارف وحدها لم تمنع يوما شخصا من أن يصبح سافلا أو مجرما، وبفضل النازية والأصولية الإسلامية أدركنا بطرق عملية بأنه يمكن للمرء أن يكون (متعلما) وينجرف بسهولة وراء الكراهية، والعنصرية والعنف، فألمانيا النازية كانت البلد الاكثر ثقافة ومعرفة في العام 1930، وكانت تضم أفضل وأرقى نظام مدرسي في هذا الوقت، ورغم ذلك فقد انخرطت بمحض إرادتها في حرب بربرية دون أن يحرك واحد من نخبتها المتعلمة ساكنا. وهو الأمر نفسه  مع الأصولية الإسلامية، فزعيم من يطلقون على أنفسهم الجهاديين “أسامة بن لادن” كان أي شيء إلا أن يكون شخصا جاهلا. بينما تؤكد التقارير أن معظم قيادات هذه التنظيمات كانوا من المهندسين، والأطباء، والمحاسبين. فإكساب بعض من البشر مهارات علمية “متجزئة” ومعلومات جزئية في علم بعينه من خلال “تخصص جزئي” داخل “العلم الكلي”، وتوزيع التخصصات ومن ثم “المهام” في إطار مقدار معين من “الإجراءات” التي ينبغي القيام بها  في “تخصص بعينه” في سياق عمل “آلي” للعقل، يمكن أن يؤديه أي فرد في ظل “تقسيم العمل” إلى أقسام صغيرة، حيث ينغلق العقل على ذاته تاركا خلفه كل ما يتعلق “بالعلم الكلي” وبالعالم في ظل حالة كاذبة من “الموضوعية” والحياد المطلق، حيث تمثل الموضوعية ضبابا معرفيا يتيح لهؤلاء “المحايدين” تقطيع أوصال المعرفة وفصل عراها باطمئنان موضوعي، وصرامة علمية “مزعومة”، واختزال “المهام الذهنية” إلى محض “عمليات فنية مجردة” حيث يمتلك معلومات عن العالم، في إطار اهتمام “عملياتي” و”تقني” لا يمكن أن ينتج “معنى” ومن ثم لا يمكن أن ينتج بشرا أو إبداعا، بل ينتج “آلات بشرية ” ربما تصبح خارج المعمل أو الجامعة  أو المدرسة أو المصنع أداة غبية تمارس العنف والتطرف.

تكمن معضلة التعليم في ظل هذه التغيرات المتلاحقة التي باتت تهدد المجتمع، وتضع حقوق الأطفال في مواجهة بعضها البعض، في مسألة أساسية رغم بساطتها، محورية رغم تغييبها عن المشهد المجتمعي، إنها “الرؤية” تلك التي تحكم بين الخبراء عند الخلاف، وتحدد الطريق بينما تتشتت الصور وتتلاحق في فوضى، وهي المسئولة قطعا عن التساؤل الرئيسي/المحوري حول: ما الذي نريده (المجتمع) من التعليم؟!

إجابة الاستفهام هنا ترتكز على قاعدة عريضة أساسها ما أوضحه الخبير الإقتصادي الدكتور إسماعيل صبرى عبدالله ببساطة تستعصي على عدم الفهم: إنه كلما كان بلد ما يرغب فى توفير موارد لتطوير الطفل كافية لتزويد كل طفل بإعداد أفضل للحياة، وكانت لديه القدرة على ذلك زادت الفرصة أمامه لتحقيق ابتعاد حاسم عن الحلقة المفرغة للفقر والركود الاقتصادى بوصف النهوض بالطفولة ركيزة أساسية للنهوض بالمجتمع وتنميته، وباعتبار التنمية في صميمها هى طموح الأمة الحاضرة نحو إنجاز حياة أفضل للحياة القادمة.

 

تسقط المدرسة

وبينما يبدو الأمر على هذا النحو من الوضوح يشير وضع التعليم في مصر إلى أن هناك غيابًا للاستقرار، وتضاربا في القرارات، وعشوائية في المشروعات الإصلاحية، حيث يبدو التعليم بوصفه حقلا للتجارب يغيب عنه الوضوح، فهناك ملامح للسياسات تتغير وأمور تتعدل باستمرار، ومن ثم تظل النظرة الجزئية للسياسات التعليمية هي المسيطرة على عقول القائمين على هذا الأمر، أضف إلى ذلك هذاالتسرع غير المبرر في صنع السياسات التعليمية، فمن الطبيعي أن السياسات التي تشكل ملامح التعليم وتقود مسيرته وتتحكم فيه وفي آلياته، تتطلب فترة زمنية كافية لصنعها، ولكن الملاحظ أن هناك قرارات تعليمية قد يفاجئ بها العاملون بأجهزة التخطيط، وذلك قبل توافر المعلومات المتعلقة بالبدائل، وما يتصل بذلك من معرفة بالتكلفة والجداول الزمنية، والسلبيات كما أن مشروعات السياسة تحتاج إلى أن تطبق على نطاق ضيق، قبل أن يتم تعميمها، ولأن الاستجابة للضغوط تؤدي إلى التسرع في عملية صنع القرار، وما يرتبط بها ومن ثم التسرع في اتخاذ القرارات، فإن التخطيط لها يأتي متسرعا كذلك، كما تأتي المعلومات غير دقيقة، وفي أحيان كثيرة غير معبرة عن الواقع الفعلي. فغياب البعد الاستراتيجي (الرؤية) عند التعامل مع قضايا التعليم، واهتمام السياسة التعليمية بقضايا جزئية، وشيوع النظرة الضيقة، واهتمام الإدارة باليومي على حساب الرؤية الواضحة والبناء للمستقبل، تشكل الطبيعة السائدة للقائمين على التعليم في مصر.

وبينما يرى صناع ومتخذي القرار أن التكنولوجيا قادرة على حل معضلة التعليم، ويتشبسون برأي غير مكتمل بأن التعليم الرقمي، والتعليم عن بعد، قادر على تأدية دور المدرسة، يؤكد الخبراء على مسألتين هامتين ومجوريتين، أولاهما: تتعلق بكون التكنولوجيا رغم أهميتها بوصفها أداة مساعدة، غير قادرة على الانفراد بالتعليم، وتحقيق أهدافه، إذ كيف يمكن عبر التكنولوجيا – على سبيل المثال – تطوير الذكاء العاطفي للطلاب! وهو أمر بالغ الأهمية في بناء الإنسان، وكيف يمكن للعملية التعليمية تنمية قدرات التواصل الاجتماعي عبر التكنولوجيا! والتي تعتمد في صميمها على الفردانية والانعزال، أما المسألة الثانية فتؤكد على أن المدرسة رغم كل نواقصها مازالت تمثل محور العملية التعليمية، ويؤكد هذا الرأي ويعضده جل الأنظمة التعليمية التي تتصدر تصنيفات الأفضل على مستوى العالم، إذ يؤكد الخبراء والتربويون أن الهدف الرئيس من التعليم هو بناء الإنسان وتنمية قدراته ومهاراته وخاصة: مهارات التعلم والابتكار، التفكير النقدي وحل المشكلات، والتواصل والتعاون، والعمل في فريق، والإبداع والابتكار. مهارات محو الأمية الرقمية: محو الأمية المعلوماتية، محو الأمية الإعلامية، محو أمية تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. المهارات المهنية والحياتية: المرونة، والقدرة على التكيف، والمبادرة، والتوجيه الذاتي، والتفاعل الاجتماعي/الثقافي والإنتاجية، والمساءلة. وهي أمور يتعلم أغلبها الفرد من خلال التواجد في المدرسة ووسط الزملاء والأصدقاء.

مؤشرات  الحدود الدنيا لقياس النجاح في التعليم

الإتاحة: التعليم هو شيء إنساني، مجاني، وإلزامي. ويوفر من قبل الحكومات، حيث يجب أن تتوفر البنيه التحتية والمرافق المناسبة في المدرسة، بالإصافة إلى الكتب والمواد اللازمة للطلاب. ويجب أن تكون المباني مستوفاة لمعايير الأمن والصحة العامة مثل: ـتوفير مياه نظيفه للشرب. التوظيف النشط. والتدريب المناسب للعاملين. وأساليب التشغيل المناسبة التي ينبغي أن تتكفل بتوفير العدد الكافي من الموظفين المؤهلين في كل مدرسة. وأن يتلقى الأطفال (في كافة أنواع المدارس) نفس المستوى من التعليم، بما في ذلك التماثل في الأبنية المدرسية، والوسائل والأدوات التعليمية، ومستوى التدريس، والخدمات الموازية قدر الإمكان. بالإضافة إلى توفير آليات مؤسسية/ بديلة، لمن لم يتمكن من متابعة العملية التعليمية لأسباب فردية أو اجتماعية ، وأن يتم هذا في إطار منظومة التعليم العامة .

إمكانية الوصول: يجب أن يحصل جميع الأطفال على فرص متساوية لدخول المدرسة بغض النظر عن الجنس، الأصل، الدين، العرق أو الوضع الإجتماعي أو الإقتصادي. كما يجب أن تتضمن الجهود أيضا ضم المجموعات المهمشة بما فيها الأطفال اللاجئين، المشردين، وذوي الإعاقة، وباختصار يجب أن يكون الحصول على التعليم للجميع. أي بمعني الوصول للجميع . ويجب أن لا يكون هنالك أي نوع من التمييز أو الحرمان للوصول للتعليم لأي طالب. ويشمل ذلك ضمان القوانين المناسبة ضد استغلال عمالة الأطفال لمنع الأطفال من الحصول على التعليم الأساسي، والثانوي. كما يجب أن تتوفر مدارس على مسافة مناسبة للأطفال داخل المجتمع، وإلا يجب توفير وسائل المواصلات للطلاب، خاصة لمن يعيشون في المناطق الريفية،والمناطق النائية، لضمان أن الطرق إلى المدارس أمنه ومناسبة. وبدون أية تكاليف إضافية.

القبول: جودة التعليم المتوفر يجب أن يكون خاليا من التمييز، ذا صلة وملاءمه ثقافيا لجميع الطلاب، كما يجب أن لا يكون من المتوقع أن تتفق وجهات النظر الدينية أو الأيدولوجية. ويجب ان تكون طرق التدريس موضوعية، وغير منحازه لطرف بعينه، وينبغي أن تكون المواد المتاحة تعكس مجموعة واسعة من الأفكار والمعتقدات. وينبغي التأكيد على وجود الصحة والسلامة داخل المدارس بما في ذلك القضاء على أي شكل من أشكال العقاب البدني. والحفاظ على الكفاءة المهنية للموظفين والمعلمين.

التكيف: تنوع المناهج لتتفق مع القدرات المتنوعة، وبيئة الأطفال ومجتمعهم المحلي، دون أن يؤدي هذا إلى انخفاض مستوى التعليم عند فئة من التلاميذ. إذ يجب أن تكون البرامج التعليمية مرنه وقادرة على التكيف وفقا للتغيرات الاجتماعية، واحتياجات المجتمع. وينبغي احترام ومراعاة التنوع الثقافي من أجل استيعاب الطلاب جنبا إلى جنب مع توفير الرعاية الكافية للطلاب ذوي الإعاقة، وإعمال حق التعلم باستخدام مناهج قائمة على الحق التنمية، بما يتيح فرصا أفضل للحياة لا للفرد فحسب بل ولمجتمعه بصفة عامة.