في فيلم “Basic Instinct”، الجنس جزء أساسي من الخلطة السحرية لجذب المشاهدين.
الفيلم ينتصر للغريزة، ولعل تلك الرؤية هي ما جعلته واحدا من أشهر الأفلام العالمية.
نفس التركيبة الجاذبة نجدها في الكثير من الأفلام العالمية والمحلية، ولعل كل منا يتذكر في مراحل مراهقته مشاهد في أفلام سينمائية كنا ننتظرها بشغف نخفيه عن أعين الآباء.
لكن ما الذي يخلق تلك الهالة من الغموض والإثارة والأساطير حول الجنس تلك الممارسة الأساسية في حياة البشر والتي يصفها باولو كويلو في روايته “11 دقيقة” على أنها : فن السيطرة على فقدان السيطرة.
المؤكد أن الجنس بالنسبة للإنسان ليس مجرد احتياج بيولوجي بحت كما هو الوضع في عالم الحيوان، لكنه في دنيا البشر الأمر أكثر تعقيدا بكثير، حيث يتحمل تعقيدات الواقع الثقافي والاجتماعي، ورواسب تاريخ طويل خلق أنماطا متعددة من الوعي الجمعي. فعلى سبيل المثال تظهر تلك التعقيدات في أبسط السلوكيات كأن يتمكن الرجال في بعض المجتمعات من التعبير عن الرغبات الجنسية ببساطة بينما لا تتمكن النساء من ذلك وإلا يتم كيل الاتهامات لهن.
ويذهب ثيودور رايك في كتابه “الدافع الجنسي” إلى التفرقة بين “الاحتياج البيولوجي للجنس وبين الرغبة والتفضيلات الجنسية بما تحمله من أنساق ثقافية واجتماعية ودينية.. الخ.
يعتبر رايك أن “الرغبة الخام” هي حاجة بيولوجية تمثل الغريزة مشروطة بتغيرات كيميائية.
تحدث تلك التغيرات نتيجة حافز بيولوجي تماما كما يحدث في حالة الجوع أو العطش، إذا كانت تلك هي الحقيقة فلماذا لا يتعامل البشر مع الجنس على نفس طريقة تعاملهم مع الجوع والعطش؟ ببساطة لأنها ليست كل الحقيقة. فممارسة الإنسان الفرد للجنس تتجاوز الاحتياج البيولوجي الغريزي لتحمل كل مكونات الثقافات والمجتمعات التي خلقت الوعي البشري الجمعي في المنطقة التي نشأ فيها هذا الفرد. فالاحتياج البيولوجي شيء والرغبة في الممارسة الجنسية مع شخص بعينه أو بطريقة بعينها شيء آخر. هذا الفارق هو المسافة بين الحيوان والإنسان، حيث إن الاحتياج والرغبة يتماهيان سويا لخلق هالة من الغموض والإثارة حول الجنس ودوره في حياة البشر.
في بداية تاريخ البشرية كان الإنسان يعيش باعتباره جزءا من الطبيعة، واكتسب الكثير من خبراته -بما فيها الجنس- من الحيوانات. لكن ولأن الإنسان في أحد تعريفاته “حيوان له تاريخ” كان للتراكم المعرفي أثره في تطور علاقة الإنسان بالجنس، وأن تتطور الحياة معناه في جانب منها أن تفقد عفويتها مع كل قفزة للأمام. الجنس الذي كان سلوكا طبيعيا عاديا تحول في المراحل التالية من التاريخ البشري إلى سلوك “مقدس” باعتباره سر الحياة وتجددها.
ومع زيادة الثروات نمت الرغبة في التملك وأصبحت القيود على الجنس من سماتها، فامتلاك البشر ليس فقط بوثائق العبودية ولكن يمكن أن يحدث باحتكار الجنس.
في كتاب “صراع الهويات.. الأنوثة والذكورة” يطرح صالح الدريدي هذا التصور عن تطور علاقة البشر بالجنس ويحاول الإجابة على سؤال: كيف تمكنت الإنسانية من قطع المسافة الفاصلة بين “عضة الأسنان وقبلة الشفاه”؟.
ويقول الدريدي إن المعرفة الجنسية هي بالأساس نابعة عن حاجة بيولوجية داخلية لكنها في الوقت نفسه جزء من الأنساق الثقافية والمعرفية في محيط البشر. كما أن تحقيق ذلك الاحتياج يستلزم التفاعل مع شخص آخر وبالتالي فالعلاقة الجنسية “هي في منطلقها ومنتهاها إعادة إنتاج لنسق معرفي”.
فمحيط الإنسان -الجغرافي الاجتماعي- هو العامل الذي تدَّرج به في علاقته بجسده وجعله يتحول من طور العفوية البدائية والمحاكاة الساذجة إلى طور الفاعلية الجسدية وتطوير الأداء الجنسي.
وفي محاولة لاستطلاع حجم اختلافات الرؤى، طرحت على صديقاتي وأصدقائي السؤال عن لماذا وضع البشر قواعد لممارسة الجنس، بعكس كل الكائنات الحية الأخرى التي تتعامل وفق الغريزة؟ كنت أعرف جيدا أن المجموعة التي ستجيب على السؤال بينها قواسم مشتركة أبرزها الاهتمام بقضايا النساء والمساواة وأيضا بالتنوير بمعناه الأشمل. ورغم ذلك كان هناك بعض الاختلافات في الإجابات مما يعني أن الأفراد من نفس الدائرة “الفكرية”-إن جاز استخدم هذا التعبير- يحملون الكثير من الاختلافات في الأنساق المعرفية التي توصلوا من خلالها إلى قناعات فكرية بعينها. تلك الأنساق عكست بعض تباين في الآراء. التباين يعكس أيضا مدى التنوع في الخلفيات الاجتماعية الثقافية والفوارق الكبيرة بين البشر في نفس الدوائر الاجتماعية وفي نفس المرحلة الزمنية.
البعض لم يتخل بعد عن رواسب من الثقافة الذكرية التي تتعامل مع الغرائز والرغبات في البشر انطلاقا من الاختلافات الجندرية (رجل/امرأة).. لكن المشترك في الإجابات كان التركيز على “الملكية” و”السيطرة”.
أحد الأصدقاء أشار إلى الفرق بين القواعد والأعراف، وكيف تتحول الأعراف السائدة إلى قواعد ثم تتحول القواعد إلى قوانين نافذة على الجميع.
كما أوضح الاختلاف بين المجتمعات الشرقية والغربية: في الغرب يعيش أغلب الناس حياتهم الجنسية تحت مظلة “الصداقة”، ويعترف المجتمع بالأبناء الناتجين عن تلك العلاقة التي يمكن لأصحابها اتخاذ قرار التوثيق (الزواج) حين يرغبون في ذلك.
صديقة أخرى اعتبرت أن الأمر له علاقة بأنماط النوع الاجتماعي، حيث إن تلك القواعد بمثابة آلية لتسهيل التبعية والانقياد والاستيلاء على مكانة المرأة ونقل سلطاتها للرجل.
في نفس الاتجاه ذهب صديق ثالث قائلا إن “الامتلاك” هو السر الاستراتيجي للقواعد، فقبل التنظيم كان البشر أكثر حرية في الممارسات الشخصية بما فيها الجنس. بينما بعد ظهور فكرة الامتلاك أصبح هاجس الهيمنة على الجماعات أمر مهم للحفاظ على الملكيات.
ومن هنا بدأت المجتمعات البشرية في وضع قواعد لممارسة الجنس. ثم في مراحل لاحقة من تاريخ البشرية على الأرض تم إضفاء صبغة دينية على تلك القواعد لتوفير مزيد من الحماية للمستفدين من الامتلاك.
صديق رابع اعتبر أن المسألة لها علاقة بـ”رغبات الرجال الجنسية” قائلا إن القواعد تم وضعها “للحد من شراهة الرجال”. وخامس رفض منطق القواعد تماما وربط بينها وبين التخلف الذي لن ينتج عنه سوى رغبات مريضة وخيالات غير واقعية. ورأي سادس اعتبر أن القواعد والقيود هي جزء من رغبة “المجتمعات” في تقييد حريات الأفراد فـ”الطريقة الوحيدة لجعل الإنسان ينقاد للمجتمع، هي وضع قيود على إشباع رغبته الجنسية. وبدون تلك القيود سيكون الإنسان حرا ومن الصعب التحكم به.
“السيطرة واستخدام النفوذ” هي كلمة السر في رأي آخر اعتبر أن الجنس غريزة مهمة ولإشباعها يتطلب التشارك مع فرد آخر، وبالتالي جاءت القواعد والأعراف بدافع السيطرة واستخدام النفوذ. نفس الفكرة تتقارب مع الآراء التي تقول بارتباط وثيق بين إقرار البشرية وضع قواعد للجنس وبين أنماط وقواعد الملكية. فهناك سببان لتنظيم الجنس: الأول حفظ حقوق الرجال في (الملكية الخاصة). والتاني حفظ الأنساب وهو الأمر المرتبط بنمط آخر من الملكية وهو الميراث.
الجنس ليس مجرد رغبة، وليس مجرد غريزة يمكن التعامل معها ببساطة كما هو الحال مع الجوع والعطش. هو مرآة تعكس حجم تعقيدات التاريخ الإنساني والصراعات بين الأفراد وبععضهم البعض من جانب وبين الأفراد ومجتمعاتهم من جانب آخر وبين المجتمعات المختلفة وبعضها البعض من جانب ثالث. هي مرآة تعكس باقي الرغبات الأخرى ومقدار التطور أو التخلف الذي يعيشه مجتمع ما وشكل العلاقات بين النساء والرجال.