في تطور ملفت، تورطت السلطات الأمنية السودانية في مجابهة تظاهرات سلمية بالرصاص الحي في مدينة كسلا بشرق السودان، هذه المجابهة أسفرت عن وقوع ضحايا قتلى وجرحي، ولكنها طرحت بالتوازي الأسئلة بشأن طبيعة التطورات التي أدت إلى هذا التطور المؤسف، تحت مظلة حكومة الثورة السودانية، التي من المفترض ألا تتورط في المواجهات العنفية مع شعبها!.

عدد من الأسباب والعوامل تكمن وراء الإحتقان الراهن في شرق السودان، الذي أسفر عن إعلان حالة الطوارئ من جانب الحكومة في محاولة لتسكين أوضاع ملتهبة منذ بداية العام تقريبا.

وتبدو العوامل المؤثرة في حالة عدم الاستقرار في شرق السودان، صورة طبق الأصل من باقي مناطق الهامش السودان، بما فيها من التشابك والتعقيد بين ماهو سياسي وماهو قبلي وماهو اقتصادي، وبالتالي يبدو تفكيك هذه الحالة يتطلب مشروعا وطنيا طموحا تحاول قوي الثورة السودانية بلورته، ولكن يبدو أن حجم التحدي مازال ضخما، خصوصا وأن هذا المشروع لم يحقق نجاحا منذ إعلان إستقلال السودان عام ١٩٥٦،حيث لم تستطع النخب الوطنية السودانية إدارة التنوع السوداني.

ويبدو أن نخب الاستقلال لم تكن تدرك على وجه الدقة من تحكم!! وبالتالي لم يتم بلورة هوية وطنية جامعة، ولم يستطع السودان أن يحقق عملية الإندماج الوطني المطلب الرئيس لأي استقرار سياسي في أي دولة.

إرث القبلية

في حقيقة الأمر نحن أمام إرث طويل من استخدام القبلية في إدارة البلاد، لم يكن نظام البشير المخلوع، تجليه الوحيد، ولكنه ارتكب جرم ابتداع خانة نوع القبيلة في البيانات المطلوبة للانضمام للمدارس أو الوظائف، أي أنه أصاب مفهوم المواطنة الهش أصلا في مقتل، كما أنه أنتهج سياسية فرق تسد بين القبائل وبين العرقيات في بلد هو متنوع عرقيا وقبليا ولغويا.

 

وكانت آخر تجارب البشير قبل سقوطه هي الوقيعة بين أهالي دارفور ووسط السودان إبان الثورة وهو مارد عليه المتضاهرون بمقولتهم الشهيرة ”ياعنصري يامغرور كل البلد دارفور“ هذه اللحمة الوطنية لم يكن من المتوقع لها أن تستمر في ظل تجذر المفهوم القبلي في السودان الذي أثر بالسلب علي عملية الإندماج الوطني في ضوء تركيبه الاجتماعي البالغ التعقيد، حيث يتكوّن من قرابة 400 قبيلة تنقسم نحو 40 فئة إثنية على أساس الخصائص اللغوية والثقافية والإثنوجرافية وتتحدث 64 لغة مكتوبة ومنطوقة.

 

ويبدو أنه في معركة البشير للتغلب علي الأحزاب السياسية، وخصوصا الحزبين الكبيرين، لجأ إليتسيس المكونات القبلية، ففي شرق السودان كان الحزب الاتحادي يملك قواعد اجتماعية وجماهيرية مؤثرة، وأيضا كان لعرقية البجا المنتشرة في شرق لسودان حزبهم السياسي الذي تم إشهاره عام ١٩٥٨ بالمكونين الأصليين للهوية البجاوية (الناطقون بالبدوايت والناطقون بالتقراييت). ولكن هذا الحزب السياسي انهار مع نظام تسييس القبائل الذي أنتهجه حزب البشير الحاكم (المؤتمر الوطني) فكان من ثماره، إحلال القبائل محل الأحزاب، فتكون “مجلس نظارات “البجا” والعموديات المستقلة“ القائم علي الناطقين بالبدوايت فقط، وينكرون علي القسم الآخر من الناطقين التقراييت الانتماء للبجاوية طبقا لشهادات المنتمين للمنطقة.

 

وبالتوازي مع هذا الانقسام هناك انقسام عرقي أكثر وضوحا هو بين قبائل النوبة التي كان بعض منتسبيها من عناصر الجيش علي زمن البشير، وانحازت إلى القبيلة ضد قبائل البني عامر المنتمية إلى عرقية البجا، وهو ما أسفر عن معالجات خاطئة لاحتكاكات بين أفراد أشعلت عنفا، وأسفرت عن وقوع ضحايا حتى قبل قيام الثورة السودانية عام ٢٠١٩.

وتحت مظلة التهميش التنموي الذي يصنف السودان في المرتبة المنخفضة، حيث تحتل في المرتبة ١٦٨ في مؤشر التنمية البشرية لعام ٢٠١٩ والصادر عن الأمم المتحدة لابد وأن تكون معاناة البشر في أطراف السودان كبيرة، فضلا على أن شرق السودان هو منطقة صحراوية تكون فيها فرص الزراعة والرعي ضعيفة مقارنة بإقليم دارفور أو النيل الأزرق، وبذلك فإن سكان الشرق الأكثر معاناة فترتفع بينهم نسب الفقر، وحالات الوفاة خصوصا للنساء الحوامل.

وفي هذا السياق يكون من الطبيعي أن تكون الروابط القبلية هي أقوي الروابط، فالقبيلة هنا تقوم بدور الدولة في حماية أفرادها وربما توفر بعض الخدمات، وهو مايدفع الي القول أن السودان تحكمه الإنتماءات الأولية أي مادون الدولة.

وقد وجدت الحكومة الانتقالية نفسها مضغوطة في خيارات محدودة مع تعيين ولاة الأقاليم من المدنيين فهي إن اختارت عنصرا غير منتم للمنطقة ستتهم بتهميش شرق السودان وعدم تمثيله سياسيا، وإن اختارت من المنطقة فقد تقع في براثن الاحتكاكات القبلية؟.

ويبدو أن الخيار الأخير كان هو المرجح ولكن دون قدرة واقعية من جانب الحكومة علي التمسك بقرارها وفرض هيبة الدولة، فقد اختار رئيس الوزراء عبد لله حمدوك قبل ثلاثة أشهر واليا من العناصر المحسوبة علي الثورة السودانية ورشحه تحالف الحرية والتغيير، وهو أيضا من أبناء قبيلة بني عامر.

ولكن الاختيار الحكومي للوالي صالح عمار تم التراجع عنه تحت وطأة احتجاجات القبائل الأخرى التي خضعت لها الحكومة فأنفجر في المقابل غضب الوالي وقبيلته وكان سبب الحوداث العنفية الأخيرة.

على المستوي السياسي فإنه رغم الإحتفاء الذي شهدته اتفاقية جوبا للسلام على المستوي الإقليمي والعالمي باعتبار أنها قاطرة السلام والاستقرار السوداني فقد شهدت ولاية البحر الأحمر في مدن سواكن وكسلا وبوسودان  احتجاجات متصاعدة، أغلق علي إثرها ميناء بورتسودان الجنوبي وذلك رفضا لتوقيع “مسار الشرق” المضمن في اتفاقية السلام الموقعة في جوبا بجنوب السودان، حيث تعارض بعض جماعات الشرق توقيع الجبهة الشعبية المتحدة ومؤتمر البجا المعارض على مسار الشرق باعتبار أن الفصيلين لا يمثلان القوى السياسية على الأرض. كما قرر مجلس قبائل البجا في شرق السودان، في ختام أعماله نهاية الشهر الماضي المطالبة بتقرير المصير لإقليم شرق السودان، رفضا للتهميش.

وقد شملت توصيات المؤتمر التي تسلمها نائب رئيس مجلس السيادة، محمد حمدان دقلو”حميدتي”، الرفض القاطع لمسار سلام الشرق في مفاوضات جوبا، وما اعتبروه تجاوزات في تعيين والي كسلا، كما شملت التوصيات إيقاف المخططات الزراعية والصناعية ونشاط التعدين في مناطق الشرق إلى حين التوصل إلى أسس تحقق مصلحة سكان المنطقة.

وبطبيعة الحال ثمة قوى وعناصر مستفيدة من حالة الحراك العنفي في شرق السودان ، كما في غيره من مناطق الهامش السوداني وربما تكون قد ساهمت في تأجيج الصراعات بشكل أو بآخر فهناك قوي النظام القديم المسيطرة علي مدي ثلاث عقود،وهي في صلب النسيج الإجتماعي للمنطقة ،ولديها مصلحة أساسية في إسقاط الحكومة الإنتقالية عبر إستمرار حالة عدم الإستقرار وربما إسقاط إتفاق جوبا نهائيا.

المكون العسكري

المكون العسكري في الحكومة الانتقالية لديه مصالح موازية بهذا المعني ذلك أنه من الطبيعي أن من يحسم حالات العنف والنزاعات لابد وأن تكون القوة الصلبة في أى دولة أي المكون العسكري، وهو المكون الذي تراهن عليه أيضا قوي النظام القديم في السيطرة علي السلطة في السودان عبر إثبات عدم جدارة المكون المدني ليكون شريكا في معادلة الحكم.

أيضا تدخلات خارجية في شأن البلاد، وهي المخاوف المرتبطة بحصول شركات غير سودانية علي حق تأجير الموانئ السودانية علي البحر الأحمر، حيث نجحت هذه الاحتجاجات قبل شهور في إلغاء تعاقد شركة فلبينية كانت وكيلا لشركة موانئ دبي.

وهكذا فإن التوازنات الحرجة مازالت قائمة في السودان ونجاح الثورة السودانية فعليا في تغيير المعادلات الحاكمة علي المستويين السياسي والقبلي هي علي المحك .