مع كل طفل يولد كانت تُغرس نخلة، تسمى باسمه، تكبر معه، تمتد جذورها داخل الأرض، كلما دبت قدماه على سطحها، يرتفع جذعها ذراعًا، كلما فرد الصغير طوله شبرًا.

من  أسوان والوادي الجديد إلى الفيوم والجيزة، ومن الإسماعيلية إلى مطروح وسيناء، وفي كل منطقة ارتبطت بزراعة نخيل البلح والتمور في مصر، ظل هذا التقليد لقرون من الزمن معبرًا برمزية شديدة عما تمثله أشجار النخيل من دعامة اقتصادية للمصريين، الذين عرفوا كيف يستفيدون من كل منتجات نخلاتهم العاليات.

واليوم وبعد كل تلك الاعوام تواجه الزراعة العتيقة أزمات حقيقة، بدأ من سؤال الإخفاق في التصدير للأسواق العالمية، انتهاء باشكالية المزارع ذاته وما يواجهه من مصاعب وعراقيل.

 

إنتاج غزير وقدرات تصديرية ضعيفة

تُنتج مصر بحسب “أطلس نخيل البلح والتمور في مصر“، والصادر عن منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) ما يزيد عن 1.7 مليون طن سنويًا من البلح والتمور من 15 مليون نخلة مثمرة،  ما يعادل 20% من الإنتاج العالمي البالغ 8 ملايين طن، متربعة على عرش إنتاج البلح والتمور.

قسم “أطلس نخيل البلح والتمور” الإنتاج المصري إلى أصناف واسعة الانتشار مثل: “الأمهات، السيوي، المَلكابي، الحياني، الزغلول، السكوتي، البرتموده، بنت عيشة”، وأصناف منتشرة مثل: “العجلاني، العجوة، أم الفراخ، تمر الوادي، عريبي”، وأصناف نادرة ونادرة جدًا: مثل: “السنتراوي، الفالق، الحمرا، غزال”، وأصناف عربية (دخيلة) مثل: ” المجدول، الحلاوي، العنبرة”.

ورغم هذا الإنتاج الغزير، فإن مصر  تحل في المرتبة الثانية عشر بين الدول المصدرة للبلح والتمور، حيث لم يزد حجم تصديرها عن 40 ألف طن في العام الماضي 2019، ما قيمته 40 مليون دولار أمريكي.

وبطبيعة الحال فإن ضعف القدرات التصديرية للتمور المصرية يقلص من هامش أرباح مزارعي النخيل، ومنتجي البلح والتمور، والذين يواجهون تقلبات السوق المحلي، إضافة لغياب التكتلات الإنتاجية والتسويقية لصغار المزارعين.

أحمد علي، أحد مزارعي النخيل بالوادي الجديد،  يقول إن أسعار كيلو البلح السيوي هذا العام تتراوح بين 9 جنيهات و11 جنيهًا، متراجعة عن أسعار العام الماضي والتي وصلت إلى 15 جنيهًا للكيلو، ما يقلص من أرباح المزارعين هذا الموسم.

يوضح علي: “المُزارع خاصة صاحب المساحات المحدودة، لا يحصل حتى على هذا السعر، فهو يبيع إنتاج مزرعته قبل الجني، والبلح لا يزال فوق النخيل، للتجار الذين يقومون بالجني والتنشير والتعبئة والتسويق، وهو بذالك يختصر مراحل مرهقة ومكلفة، ولكنه في المقابل يبيع إنتاج مزرعته مرة واحدة. يشتري التاجر إنتاج النخلة بمبلغ محدد لم يزد هذا العام عن 400 جنيه للنخلة، فلو افترضنا أن النخلة الواحدة تنتج متوسط 80 كيلو، فإن سعر الكيلو لم يزد عن 5 جنيهات بالنسبة للمزارع”.

يتحاشى المزارع عمليات التجفيف والفرز والتعبئة وتكلفتها، ويلجأ إلى بيع المحصول ولو بهذه الأسعار المتدنية، من أجل سد احتياجات أسرته وتسديد ديونه، والتي لا يمكن أن  تنتظر حتى يتم تجفيف الإنتاج وتعبئته وتسويقه فهي عملية تبدأ في أوائل سبتمبر، “ذروة جني البلح السيوي”، وتستمر حتى شهر نوفمبر.

أما محمد شعبان، والذي يعمل في تجارة البلح، حيث يقوم بشراء المزارع الصغيرة، وتجفيف إنتاجها وتعبئته ثم بيعه للتجار “المسوقين”، فيؤكد أن الطلب على البلح “السيوي” هذا العام ضعيف جدًا ما قد يعرض التجار لخسائر كبيرة، نتيجة لأزمة كورونا وتأثيرها على دخل الأسر المصرية.

 

 محاولات تطوير قطاع النخيل

خلال السنوات الخمس الأخيرة كان هناك عدة محاولات دولية بالشراكة مع الحكومة المصرية لتطوير قطاع نخيل البلح والتمور في مصر، من خلال دراسة إمكانيات مصر الإنتاجية، وأسباب تدني القدرة التصديرية للإنتاج المصري من البلح والتمور، وعجزه عن المنافسة الفعالة في الأسواق العالمية.

تضمنت تلك المحاولات إسهامات نظرية مثل “أطلس نخيل البلح والتمور في مصر”، كخريطة تعريفية عن أصناف التمور الموجودة في مصر، وأماكن تواجدها، ونسب إنتاج كل صنف من تلك الأصناف، والصادر عن (الفاو). كما أعد الدكتور عبد الله بن عبد الله، الخبير بمنظمة  الأغذية والزراعة للأمم المتحدة، “استراتيجية تطوير قطاع النخيل” في مصر، وهو مشروع مدعوم من  (الفاو) بالشراكة مع الحكومة المصرية ، ومنظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية، وجائزة خليفة الدولية لنخيل التمر.

 

 رصدت الاستراتيجية نقاط ضعف قطاع النخيل والتمور.

على رأس تلك النقاط، عمليات الإكثار التقليدية وغير الصحيحة أحيانًا.

وأيضا غياب الإشراف الاحترافي المتخصص على زراعة النخيل وعمليات الإنتاج. 

وأوصت الاستراتيجية بزراعة الأصناف المطلوبة عالميًا، وإنشاء وحدات تبريد وتجميد للتمور الطازجة، ووحدات تصنيعية. كما اقترحت الاستراتيجية إنشاء هيكل معني بتطوير قطاع النخيل والتمور على مستويات: الإنتاج، والتكييف والتعبئة وتحويل التمور، والتسويق و التصدير.

 

غياب السياسات الزراعية المستدامة

هانى السلامونى، خبير التنمية المستدامة بالأمم المتحدة والبنك الدولي، يرى أن هذه الجهود رغم أهميتها إلا أنها لا يمكن أن تُحدث تطويرًا حقيقًا، طالما ظلت مصر بدون سياسات زراعية مستدامة، فالقطاع الزراعي لم يشهد تطويرًا جذريًا منذ أربعينيات وخمسينيات  القرن الماضي، وحتى سياسة الدورة الزراعية تم إيقافها منذ أوائل الثمانينيات.

ويتجلي ذلك في منتج مثل التمر، فرغم غزارة الإنتاج المصري إلا أن المشكلة الحقيقة لدينا تكمن في طبيعة الأصناف المنتجة. فالمنافسون الرئيسيون يبيعون منتجات أكثر جودة منا، فمثلا إسرائيل (وهي منافس قوي) تنتج صنف يسمى “مجدول” وهو صنف عراقي الأصل  تم تطويره في معامل جامعة كاليفورنيا بأمريكا، ونجح في تحقيق سمعة عالمية جيدة، كما إن لديهم صنفا يسمى النبي سليمان تم تطويره بمعامل البحوث الزراعية الإسرائيلية ويتمتع أيضًا بإنتاجية عالية لكنه لم يتمتع بعد بالشهرة التسويقية الكبيرة نظرًا لحداثة ظهوره.

كما نجحت تونس المنافس الآخر بفضل سياستها الزراعية السليمة في تسويق صنفهم الأشهر “دجلة نور”، في أوربا حتى من اشهر الماركات في السوق الاوربي. أما مصر  والحديث مازال لخبير التنمية المستدامة بالأمم المتحدة فهناك أصناف لا تعد ولا تحصى وبعضها تتفوق على “دجلة نور” و”مجدول” لكننا لا نمتلك ممارسات زراعية سليمة، ولا وحدات تصنيعية متطورة لإنتاج التمور، ولا خطط استراتيجية تتبناها الدولة لتطوير زراعة النخيل وانتقاء الأصناف المطلوبة عالميًا، ومكافحة آفات النخيل، والدعم الفني للمزارعين، إن عملية زراعة النخيل وإنتاج التمور تدار بالكامل بشكل عشوائي”.

 

النخيل طوق النجاة 

الجميع يعلم أن مصر تواجه أزمة مياه ستتفاقم مع الوقت، و ستؤثر على طبيعة الزراعة المصرية لا محالة، وهنا  تلوح في الافق زراعة النخيل كمرشح حقيقي ليكون المحصول الزراعي الأول في البلاد، نظرًا لعدم احتياجه لكميات كبيرة من المياه. فالجزائر على سبيل المثال أعلنت خلال الأيام القليلة الماضية عن استهداف زراعة 120 مليون نخلة، رغم أنها لا تمتلك الإمكانات الزراعية التي تمتلكها مصر، فلماذا لا نستهدف نحن الوصول الى زراعة 200 مليون نخلة خلال العامين القادمين. 

 

مراكز البحوث الزراعية وأزمة التمويل.

وعلى صعيد آخر  ونتيجة لضعف التمويل توقفت مراكز تطوير وإنتاج شتلات النخيل التابعة لمركز البحوث الزراعية عن الإنتاج تمامًا نتيجة ضعف التمويل، وعليه استمرت أزمة ضعف إنتاجية النخيل المصري مقارنة بالبلدان المنافسة (النخلة المصرية تنتج 85 كج تقريبا – النخل الاسرائيلية تنتج 400 كجم) فضلا عن إنه حتى الآن لم يتم  التحرك صوب وضع برنامج إرشادي من قبل الحكومة لمكافحة سوس النخيل والذي صار يهدد زراعة النخيل في العديد من المناطق.

نظرة تجاوزها الزمن

جزء كبير من زيادة عائدات صادرات التمور المصرية متوقف  على القضاء على النظرة المصرية التقليدية للتمور. فحتى اليوم  مازلنا نتعامل مع البلح المصري كمنتج بدائي يباع لمسلمي ماليزيا وأندونيسيا، لكن في الحقيقة تلك مرحلة تجاوزها الآخرون.

فهناك دول  مثل السعودية والإمارات استطاعوا نقل التقنية السويسرية في إعداد التمور وتقديمها كنوع من الحلوى وأصبحوا يصدرونها بأسعار مرتفعة، تصل إلى 9 آلاف دولار للطن بعد إضافة مكونات أخرى مثل الشيكولاتة والفستق واللوز، بينما لا تزيد الأصناف المصرية التي يتم تصديرها عن ألف دولار فقط للطن. وإذا أرادت مصر احتلال مكانة متقدمة في تصدير التمور، وتحقيق عائد اقتصادي كبير، فعليها تغير فلسفة التعامل مع التمر، وذلك دور الدولة بالأساس.