تعد زيارة فاتو بن سودا المدعية العامة في المحكمة الجنائية الدولية حدثا كبيرا، ولم يكن ممكنا حدوثه علي الإطلاق لولا نجاح الثورة السودانية في خلع عمر البشير عن سدة الحكم ،ولكن رغم هذا النجاح فإنه من غير المتوقع أن تنجح النخبة الثورية والحكومة الإنتقالية السودانية  في تسليم رئيس سابق للبلاد لسلطة عدلية خارجية، وذلك رغم ضغوط الدرفوريين،سواء الحركات المسلحة أو اللاجئيين في معسكرات النزوح وكذلك النخب السياسية المدنية في معظم الأحزاب السياسية ، وهي الفئات التي تسعي إلي عدم إفلات البشير وزبانيته من العقاب علي جرائم صنفت أنها ضد الإنسانية من جانب الأمم المتحدة.

علي أية حال لاتخلو زيارة فاتو بن سودا من دلالات  متنوعة فهي قد حرصت علي زيارة ضحايا أزمة دارفور  في مواقعهم بمعسكرات اللجوء والنزوح ،ولم تكتف بلقاء المسئوليين الرسميين فقط ،في رسالة إالي إستمرار إهتمام المحكمة والمجتمع الدولي بقضاياهم  وبالتوازي مع ذلك قدمت بن سودا تقريرا  إالي مجلس الوزراء السوداني بشأن مسارات التحقيق مع مواطنيين سودانيين تحت ولاية المحكمة الجنائية الدولية حاليا ، وتم القبض عليهم بمعرفتها أبرزهم علي كوشيب أحد أبرز قادة ميليشيا الجنجويد المسئولة عن ممارسة الإنتهاكات في دارفور.

 

أما الدلالة الثانية  فهي إنفتاح الحكومة الإنتقالية،علي التعامل مع الجنائية الدولية علي عكس حالة النظام السابق، بل ومعظم دول المنطقة، وكذلك حالة التشاور الجارية بين الجنائية الدولية والسلطة في الخرطوم بشأن  الخيارات المتاحة لتحقيق الهدف النهائي في التوافق علي عدم الإفلات من العقاب، حيث جري التشاور حول ثلاث خيارات هي تسليم كل من الرئيس السابق ووزير دفاعه عبدالرحيم حسين،وأحد وزرائه أحمد هارون إلي مقر الجنائية الدولية في لاهاي، الخيار الثاني هو تكوين محاكم مختلطة بين قضاة سودانيين، وقضاة الجنائية الدولية،ولم يتم طرح مكان لهذه المحكمة لمختلطة، أما الخيار الثالث فهو دعم قدرات المحاكم المحلية علي المستوي اللوجستي وربما الفني لإجراء المحاكمة في الخرطوم ،وهو خيار متاح طبقا لإتفاقية روما المحددة لنطاق وصلاحيات الجنائية الدولية.

وفي الدلالات أيضا يمكن رصد  إهمال الخرطوم  للتحفظات الإفريقية علي المحكمة الجنائية الدولية والتي تبلورت مع موقف الاتحاد الأفريقي بانتقاد المحكمة بدعوى أنهاتستهدف الأفارقة، واصفاً إياها بـ”العنصرية”، حيث طالب الاتحاد في عام 2015 المحكمة بإرجاء قضية كينيا، لتكون هذه المطالبة علامة استياء من عملياتها، التي جرى وصفها بـ”غير العادلة”، نظراً إلى تجاهل الجنائية فظائع حول العالم في مقابل تركيزها على أفريقيا،وذلك علي الرغم من أن المدعية العامة للمحكمة هي إفريقية من جامبيا إعتبارا من عام 2012 . وربما يكون من اللافت هنا أن المحكمة الجنائية الدولية قد إستجابت إلى الضغوط الأفريقية، فاضطرت المدعية العامة للمحكمة فاتو بنسودا في ظرف أسبوعين إلى سحب الاتهام في القضية الأولى ضد الرئيس الكيني كينياتا لعدم توافر الأدلة الكافية التي تثبت المسؤولية الجنائية المفترضة عليه وإلى حفظ القضية الثانية بسبب ما وصفته بفشل مجلس الأمن طوال خمس سنوات في التدخل لحث الدول على تسليم المتهمين بمن فيهم الرئيس البشير، وفي أعقاب ذلك انسحبت جنوب أفريقيا من الجنائية الدولية عام 2016، بعد اضطرار البشير للهروب من أراضيها في أثناء عقد إحدى القمم الأفريقية بعد أن أصدرت محكمة أمر اعتقال له، وهو ما اعتمدت عليه جوهانسبرغ في الانسحاب من الجنائية، لأن التزاماتها تجاه المحكمة تمنعها من ضمان الحصانة الدبلوماسية للقادة والمسؤولين.

في هذا السياق  يبدو لنا أن تكوين محكمة خاصة في الخرطوم من قضاة محليين ،ولكن بدعم ومتابعة من الجنائية الدولية هي الأرجح ،وذلك لعدد من الأسباب غالبيتها سياسية، ولكنها لاتخلو أيضا من أسباب قانونية .

علي المستوي السياسي هناك فريقان سودانيان  يرفضان بحدة مسألة تسليم البلاد للمحكمة الجنائية الدولية أولهم المكون العسكري السوداني في المعادلة الحاكمة حيث عبر عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس السيادي، ورمز من الجيش السوداني عن رفضهم لهذا الخيار، وهو موقف يبدو مفهوما في ضوء إنتماء البشير وعبد الرحيم حسين للمؤسسة العسكرية السودانية التي يعد تسليم أحد منسوبيها إلي جهة أجنبية غير مقبول علي الإطلاق، وغير مطروق لا في المنطقة العربية ولا في إفريقية حيث تجري العادة علي خروج آمن لرمز السلطة لأحد دول الجوار الإفريقي أو العربي وهو ماجري لكل من الرئيس التونسي بن علي والرئيس المالي بن كيتا،وعلي الرغم من أن النخب العسكرية السودانية لاتجد مفرا من محاكمة البشير بضغوط مباشرة من الشارع ، ولكنها لن تقدم علي الموافقة علي تسليم البشير.

الفريق الثاني الرافض لتسليم البشير هو حزب المؤتمر الشعبي السوداني صاحب المرجعية الإسلامية، والمنتمية معظم عناصره إالي التنظيم الأم وهو الجبهة القومية الإسلامية التي تزعمها حسن الترابي لفترة طويلة ، وهؤلاء يسوقون لتبرير موقفهم النعرات الوطنية،ولكن جوهر الرفض أن البشير وصحبه هم من ذات المرجعية السياسية التي حكمت السودان علي مدي 30 عاما، كما أن فتح باب محاكمات الجنائية الدولية سوف يطول باقي عناصرهم من لائحة 51 والصادرة من مجلس الأمن قبل عقد تقريبا، وتم تحويلها إالي المحكمة الجنائية الدولية علي إعتبار أن المذكورين في اللائحة هم المتهمين الرئسيين في الإنتهاكات في إقليم دارفور من حرق وقتل وإغتصاب وترويع للسكان ، ويستند الإسلاميين في موقفهم إالي حيثيات لها طابع قانوني وهي أن

السودان غير مصادق على نظام روماالاساسي للمحكمة الجنائية في الاتفاقية على الرغم من توقيعه بالأحرف الأولى عليها، ، ولكن المحكمة تختص بالسودان استثناءً إذ إن الملف أٌحيل إليها من مجلس الأمن الدولي، وفق الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة بموجب القرار 1593 مما يجعل المحكمة مختصة بموجب هذه الحالة وفقا للمادة 13 من نظام روما الاساسي والتي تقرأ ما يحيله إليها مجلس الأمن متصرفاً من ميثاق الأمم المتحدة، كما أن المجلس سيتصرف وفقاً للإحالة والمحكمة تقبلها وتعمل على مقاضاتها، فضلا عن أن مجلس الأمن يمتلك حق إنشاء محكمة خاصة لمحاكمة مجرمي الحرب وفقاً للميثاق وللدول المصادقة عليها مثل أروشا، ومحاكمة مجرمي الحرب الروانديين في تنزانيا، ومحكمة يوغسلافيا السابقة لمحاكمة مجرمي الحرب من الصرب.

وإلي جانب  هذين الفريقين هناك فئات سودانية غير مسيسة رافضة لتسليم البشير إلي الجنائية الدولية ، بإعتبار أن القضاء السوداني يملك القدرة علي محاكمته من ناحية ،فضلا عن سيادة مفهوم ثقافي منتشر أفي منطقتنا إلي أي جهات أجنبية هو مهين بالتأكيد.

علي الصعيد القانوني هناك عقبتين في تسليم البشير للجنائية الدولية أوضحهما المدعي العام السوداني مولانا تاج السر علي الحبر  هما أن القانون الجنائي السوداني لايجيز تسليم مواطنيين إالي الخارج، كما أن البشير يحاكم في السودان علي ذمة قضايا أخري، منها الفساد والإنقلاب العسكري علي سلطة دستورية .

علي الصعيد العربي لا أظن أن دول الجوار السوداني ستقف مكتوفة الأيدي أمام تسليم رئيس سابق  لمحاكمته بالخارج  بما تمثله من سابقة قد تكون غير مقبولة في السياق العربي كما أنها مستهجنة في السياق الإفريقي  .

وعلي ذلك فقد يكون  تكوين محكمة خاصة في الخرطوم لمحاكمة البشير هو الخيار الأرجح حتي الآن ، ولافرصة أمام تسلم المحكمة الجنائية الدولية لرئيس السودان المخلوع عمر البشير في ضوء طبيعة العقبات الداخلية والإقليمية .