يعود تاريخ الاحتفال باليوم العالمي للقضاء على الفقر إلى يوم 17 أكتوبر من عام 1987. ففي ذلك اليوم اجتمع ما يزيد عن مائة ألف شخصا تكريمًا لضحايا الفقر المدقع والعنف والجوع، وذلك في ساحة “تروكاديرو” في باريس (التي وقع فيها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العام 1948). وأعلنوا أن الفقر يُشكل انتهاكًا لحقوق الإنسان. وأكدوا الحاجة إلى تضافر الجهود من أجل كفالة احترام تلك الحقوق. وقد نُقشت تلك الآراء على النصب التذكاري الذي رُفع عنه الستار في ذلك اليوم. ومنذ هذا اليوم، يتجمع كل عام في السابع عشر من أكتوبر أفراد من مختلف الاتجاهات، والمعتقدات، والأصول الاجتماعية، لإعلان التزامهم من جديد إزاء الفقراء والإعراب عن تضامنهم معهم.

يتخطى مفهوم الفقر مجرد الافتقار إلى الدخل أو الموارد أو ضمان مصدر رزق دائم وكاف، فمظاهره تشمل: الجوع، وسوء التغذية، وتراجع إمكانية الحصول على التعليم والخدمات الأساسية مثل: الرعاية الصحية، والصرف الصحي، والمياه النظيفة، بالإضافة الى مواجهة التمييز الاجتماعي، والاستبعاد من المجتمع، وانعدام فرص المشاركة في اتخاذ القرارات. فمازال الحصول على مستويات عالية من التعليم والرعاية الصحية والكهرباء ومياه الشرب المأمونة وغيرها من الخدمات الحيوية بعيدًا عن متناول كثير من الناس، وغالبًا ما يتدخل فيه الوضع الاقتصادي، والاجتماعي، والنوع، والعرق، والجغرافيا.

ويكشف النظر من خلال مفهوم “الفقر متعدد الأبعاد” والذي يتضمن جوانب أخرى: مثل التعليم والحصول على الخدمات الأساسية للبنية التحتية والرعاية الصحية والأمن؛ عن عالم يشكِّل فيه الفقر مشكلة أوسع نطاقًا وأكثر ترسخًا. إن نسبة الفقراء وفقًا لتعريف “الفقر متعدد الأبعاد” تكون أعلى بنحو 50% من نسبتهم عند مجرد القياس على الفقر النقدي. علاوة على ذلك، بالنسبة لمن يستطيعون الخروج من براثن الفقر، فإن هذا الخروج غالبا ما يكون مؤقتًا: فالصدمات الاقتصادية، وانعدام الأمن الغذائي، وتغير المناخ…إلخ، كل هذا يهددهم بالحرمان من المكاسب التي حققوها بشق الأنفس، ويرغمهم على العودة إلى دائرة الفقر.

وفى ظل العولمة، حيث التدويل المتزايد للعلاقات الاقتصادية، وسيادة سياسات السوق المفتوح والاقتصاد الليبرالى وعولمة الاقتصاد، وحيث “لم تعد المنافسة الاقتصادية تقتصر على ميدان الإنتاج المادى، بل امتدت إلى المجال غير المادى، وأصبحت التكنولوجيا الحديثة موضوعًا أساسيًا للتجارة الدولية”؛ تطور الاقتصاد الرأسمالى إلى أساليب شديدة التعقيد، انتقل معها العالم من عالمية السوق إلى عالمية حلقة الانتاج في ظل شركات متعدية الجنسيات، يشير كثير من المحللين إلى أن سلطتها تتوسع باطراد لم يسبق له مثيل. ومن هنا، أصبحت حفنة من البشر تمتلك مصير هذا العالم، الأمر الذي يجعلنا نتساءل: هل ستكفل العولمة نموًا إقتصاديًا أسرع للغالبية العظمى من البشر؟ أم ستشجع على المزيد من الاختلال والتفاوت الحادث في توزيع الدخل؟ وربما تجيبنا بعض الإحصائيات والبيانات التي سنوردها عن هذا التساؤل:

  • ارتفع الدخل الإجمالى بين عامي 1970: 1985 بمقدار 40%، ولكن عدد الفقراء إزداد في نفس الفترة بمقدار 17%.
  • انخفض الدخل الفردى لحوالى 200 مليونا من سكان العالم في ما بين عامى 1965 : 1980، بينما انخفض هذا الدخل بين عامى 1980 : 1993 لحوالى ألف مليون من الأفراد.
  • توقف النمو لأكثر من ربع سكان العالم حتى العام 1996.
  • يعانى أكثر من 800 مليون شخص من الجوع، ويعانى حوالى 500مليونا من سوء التغذية.
  • لا يجد ملايين من الأطفال مكانًا في المدرسة، منهم 130 مليونا في سن التعليم الابتدائى، و275 مليونا في سن التعليم الثانوى.
  • يعيش ما يقرب من 1.6 مليارا إنسان اليوم في مستوى أقل مما كانوا عليه في أوائل الثمانينات.
  • تزيد ثروة 358 فرد من المليارديرات بالدولار عن الثروة المجمعة لـ 45% من السكان في العالم.
  • يستحوذ 20% من دول العالم على 85% من الناتج العالمي، وعلى 84% من التجارة العالمية، ويمتلك سكان تلك الدول 85% من المدخرات العالمية.
  • اليوم يعيش أكثر من 783 مليون شخص تحت خط الفقر الدولي المحدد بـ1.9 دولارا، 11٪ منهم يعيشون في فقر مدقع، ويكافحون من أجل تلبية أدنى الاحتياجات الأساسية كالصحة والتعليم والمياه والصرف الصحي. وتعيش 122 مليون امرأة تتراوح أعمارهن بين 25 و34 سنة في فقر مقابل كل 100 مليون رجل من نفس الفئة العمرية، وأكثر من 160 مليون طفل معرضون لخطر الاستمرار في العيش في فقر مدقع بحلول عام 2030
  • عُشر سكان العالم وأسرهم كانوا يعتاشون على أقل من 1.9 دولار يوميًّا في العام 2016.

وعلى الرغم من ادعاءات خفض معدلات الفقر المدقع إلى أكثر من النصف منذ العام 2000، مازال واحد من كل عشرة من سكان المناطق النامية يعيشون وأسرهم على أقل من (1,9) دولار يوميًّا، كما يوجد الملايين ممن يكسبون بالكاد أكثر من ذلك قليلًا. ولا يزال 42% من سكان أفريقيا جنوب الصحراء يعيشون تحت خط الفقر.

وعتبة الفقر أو” خـط الفـقـر‏” هو أدنى مستوى من الدخل يحتاجه المرء أو الأسرة حتى يكون بالإمكان توفير مستوى معيشي ملائم في بلدٍ ما. من هنا يظهر مصطلح” الفقر المدقع” وهو مستوى من الفقر يتمثل في: “العجز عن توفير تكاليف المتطلبات الدنيا/الضرورية من حيث المأكل والملبس والرعاية الصحية والمسكن”.

بعبارة أخرى فإن الناس الذين يعيشون تحت خط فقر محدد هم أناس يمكن أن يوصفوا بأنهم يعيشون في حالة فقر مدقع. (يتم إذن تحديد مستوى الفقر من خلال المجموع الكلي للموارد الأساسية والتي يستهلكها الأفراد البالغون خلال فترة زمنية معينة، غالبًا سنة. كما أن الاقتصاديين في الدول المتقدمة يهتمون كثيرًا بأسعار العقارات وتكاليف استئجار المساكن وذلك لأهميتها في تحديد خط الفقر) ووفقا لهذا فإن خط الفقر المتعارف عليه عالميًا كان حوالي دولار أمريكي واحد في اليوم للفرد، لكنه ارتفع إلى 1.90 دولار في اليوم في عام 2015 بأسعار سنة 2011. ومع ذلك فإن عديد من الدول تضع خطوط فقر خاصة بها وفق ظروفها الخاصة. فمثلًا عام 2009 كان خط الفقر في الولايات المتحدة للفرد دون سن 65 هو 11,161 دولار سنويًا، ولعائلة من أربعة أفراد من بينهم طفلين هو 21,756 دولار سنويًا.

إن جملة التناقضات التي تنطوى عليها العولمة الحالية كالهيمنة على المؤسسات الاقتصادية الدولية، والتحكم في عمل مؤسسات الشرعية والقانون الدولي، والآثار الخطرة لسيطرة الشركات المتعدية الجنسيات على الاقتصاد العالمي، إلى جانب تدويل ونشر القيم الثقافية والعادات الاستهلاكية وأنماط السلوك على الطريقة الأمريكية، إذا كانت هذه الملامح والتناقضات هى ما يحكم وضع العولمة، فإن الأمل في بناء عولمة بديلة ذات طابع إنساني في توجهها، وذات نزوع ديمقراطي في التعامل مع ثقافات وشعوب الأمم الأخرى، يصبح أملًا مشروعًا يستحق من الجميع التفكير والعمل من أجل خلق الشروط لبناء العولمة المستقبلية البديلة.

نستطيع بناء عولمة بديلة، يكون أساسها الإنسان، ومضمونها يحتوي على جملة العناصر الدافعة لتقدم البشرية، لا تلك التي تقوم على استنزاف الآخر واستغلال موارده، واستعباد وعيه. عولمة بديلة تقضي على هذا التفاوت المذهل في الدخول بين سكان العالم، وتفرز مواطنًا عالميًا بحق.

نحن نواجه معضلة صنعتها أيدينا أكثر مما ساهمت فيها أقدارنا، ولقد ألفنا تلك المعضلة لطول إقامتها بيننا، وسئمنا معرفة أسبابها، وعزفنا بالتالي عن التبصر في آثارها، في ظل واقع اجتماعي، حضاري، وثقافي ينبئ عن كثير من عوامل الضعف.

وإذا كانت مكافحة الفقر هي أهم أهداف التنمية المستدامة، حيث تعلن الدول الموقعة على وثيقة التنمية المستدامة بثقة: “لن نترك أحدًا خلفنا” من خلال إنهاء الفقر المدقع وتعزيز الرخاء المشترك؛ إلا أن تحقيق هذا يتطلب سياسات ذات رؤية لنمو اقتصادي مستدام وشامل ومنصف، يدعمه الاستيعاب الكامل في مجال التوظيف، وإيجاد العمل اللائق للجميع، والرعاية الاجتماعية، وتراجع التمييز وعدم المساواة، وزيادة الإنتاجية والحفاظ على البيئة.

فهل نستطيع تجاوز أزمتنا جميعنا دون تمييز؟

وهل يمكن للحكومات أن تواصل تقديم الخدمات الأساسية مثل: الصحة، والتعليم، والحماية الاجتماعية، لدعم تعاف أكثر شمولًا وقدرة على الصمود؟

وهل يمكن أن نتحمل تداعيات العلاج جميعنا دون تمييز؟