هذا مقال يمكن وصفه بمقالات السياسة الواقعية فهو لا يناقش صوابية السياسات الخارجية المصرية القائمة، كما لا يطرح قناعات كاتبه في الأولويات والخيارات الراهنة لسياسة مصر الخارجية وحاجتها الشديدة لإعادة الترتيب والمراجعة، لكنه يطرح  بشكل عملي – بدرجة من درجات أعمال الخيال السياسي – سؤال كيف تصمد الخيارات الحالية للمتغيرات التي طرأت علي النظام الإقليمي للشرق الأوسط في الشهور الأخيرة والتي تطرح بدورها  تحديات قاسية علي صانع القرار المصري بحيث تخرج مصر من هذه المرحلة في وضع أفضل يشجعها لاحقا علي إعادة بناء سياسة خارجية تتسق مع وضعها الجيوبولتيكي واتجاهات التراكم التاريخي لخبرات شعبها ودولتها؟.

‎لابد من الاعتراف أولا أن السياسة الخارجية المصرية تعتبر الإرهاب المسلح وجماعة الاخوان المسلمين أي الإسلاموية العنيفة أو الحركية سواء في الداخل أو علي مستوي الإقليم هو التهديد الرئيس للأمن القومي المصري، وبالتالي يصبح قياس  النجاح مرهون بواقع أنه كلما استطاعت الدولة المصرية سحق الإرهابيين في الداخل وحصر نفوذ دول التحالف الإقليمي الداعم له خارج حدودها وتفكيك روابط التحالف بينهم كلما كانت تحقق إنجازا في مواجهة التهديد . ‎وفي الحقيقة فإن مصر حققت تقدما جوهريا في محاصرة الإرهاب جغرافيا ونوعيا في الداخل، لكن علي المستوي الإقليمي حدث العكس، إذ تضاعف هذا التهديد في الشهور الأخيرة بفعل متغيرين يبدوان متباعدين، ولكن يصب كلاهما في تعظيم هذا التهديد وطرح تحديات متشابكة ومعقدة .

المتغير الأول هو تعاظم السلوك التدخلي لتركيا

 -أنقرة التي تقود المحور الإقليمي الحامل لمشروع الإسلام الحركي خاصة مشروع الإخوان المسلمين، مستفيدة من إنقسام أوروبي وإغماض عين أمريكي من تطوير هذا السلوك السافر إلي مرحلة تهديد غير مباشر  لجهود مصر لمواجهة الإرهاب والإخوان معا، سواء علي أراضيها أو في الإقليم وإلي مرحلة تهديد مباشر لحدودها وحقوقها في ثرواتها الطبيعية، وتمثل  هذا السلوك التدخلي التركي في:

‎- التدخل العسكري المباشر في ليبيا وتمكنه من تغيير مسار الحرب في يونيو ٢٠٢٠ بعد أن كادت العاصمة طرابلس تسقط في يد الجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر بما بات يمثل تهديدا مباشرا لمصر من جهة الغرب ويضاعف من خطر  استمرار تسلل الأسلحة  والمتطرفين الإسلامويين إلي داخل الأراضي المصرية من  ليبيا منذ سقوط نظام القذافي .

‎- التمدد العسكري التركي في سوريا وهو تهديد لمصر من ناحية الشرق، في جزء اُعتبر تاريخيا منذ الفراعنة خطا أوليا من خطوط الامن القومي المصري، وتبلور بقوة وبشكل عصري في إطار المفاهيم الاستراتيجية العسكرية الحديثة مع سليمان باشا الفرنساوي وحملة وجيوش إبراهيم باشا في الشام. وهو خطر يضاعف منه التمدد العسكري التركي  في العراق، أي في الجناح الثاني لما كان يسمي -زمن المواجهة مع اسرائيل – بالجبهة الشرقية .

‎- التمدد الخشن «القاعدة التركية في الصومال» عند مدخل البحر الأحمر أحد أهم عناصر الأمن القومي المصري والتمدد الناعم المدعوم بالمساعدات المالية القطرية السخية في غرب وشرق إفريقيا.

‎- التحديات الاستفزازية للسفن التركية لمناطق الغاز الطبيعي المصرية في البحر المتوسط في إطار الصراع التقليدي بين اليونان وتركيا .

‎المتغير الثاني: هو اتفاقات التطبيع الإماراتية – الإسرائيلية وتوابعها الخطيرة علي المنطقة :

تستبدل الاتفاقيات المذكورة النظام العربي المتداعي منذ غزو الكويت بنظام إقليمي شرق أوسطي تقوده إسرائيل وتلعب فيه الإمارات كحليف عسكري واقتصادي وأمني للدولة العبرية، سواء في منطقة الخليج أو في الشرق الأوسط والبحر الأحمر دورا إقليميا يتجاوز دورها الإقليمي الراهن. بعبارة أخري فإن هذا الترتيب الجديد ينقل الدور القيادي العام الذي كانت تقوم به مصر إلي إسرائيل وينقل الدور القيادي الفرعي الذي كانت تلعبه السعودية في الضفة العربية للخليج من السعودية إلي الامارات، وقد يقول قائل وما الضرر في ذلك فمن جهة تمثل مصر والسعودية والإمارات تحالفا إقليميا في مواجهة التحالف التركي القطري «المدعوم من إخوان تونس وإخوان حكومة وفاق ليبيا» ومن جهة أخري ترتبط مصر وإسرائيل بمعاهدة سلام منذ ٤١ سنة. 

‎الضرر هو أن إطلاق يد إسرائيل في المنطقة كقائد معترف به للنظام الإقليمي في ظل تفويض سلطة امريكا للدولة العبرية بممارسة أدوار مباشرة نيابة عنها سيؤدي إلي نتائج خطيرة تدعم بقسوة تحالف الإسلاموية السياسية الإقليمي ويسمح له بالامتداد الإيدلوجي والشعبي وأيضا بالوصول لمناطق تهديد مباشر سواء لنفوذ أو أمن مصر، وبالتالي يؤدي إلي تزايد نفوذ الإرهاب وليس انحساره وإلي نقل الدولة المصرية في صراعها (الداخلي / الخارجي) معه من موقع الهجوم إلي موقع  الدفاع، وذلك علي الوجه التالي:

‎أ- كما توقع الجميع فإن إسرائيل ورئيس وزراءها المأزوم سينتهز المناخ الذي خلقته هذه الاتفاقيات واستسلام الحزبين  الكبيرين في الولايات المتحدة خلال فترة الانتخابات لضغوط اللوبي الإسرائيلي، في إحداث أكبر توسع في الاستيطان وسرقة الاراضي الفلسطينية، وممارسة أكبر قدر من الإرهاب النفسي و الإكراه المعنوي للبنان عموما ولحزب الله خصوصا.. وستمنح  غطرسة القوة الإسرائيلية وسكوت التحالف العربي المعتدل التحالف الإسلاموي الإقليمي فرصة ذهبية لتجييش الغضب الشعبي العربي لصالح سرديته، ولوضع الإعلام المتفوق لهذا التحالف في موضع الهجوم والمباداءة .

 ب –هذا العصر الاسرائيلي سيعيد الروح إلى جماعات التطرف مثل داعش والقاعدة خاصة وأن تلك الجماعات مازالت تحافظ علي مواقع قوة نسبية في العراق وسوريا وتمددت في شرق إفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء عقب عودتها بقوة في أفغانستان منذ اتفاق الدوحة هذا العام، وستقود هذه العودة المرجحة لجماعات الإرهاب إقليميا ودوليا إلي تعزيز خلاياها المتناثرة أو حتي ذئابها المنفردة من سيناء إلي جزيرة العرب للعمل بحماس وبدموية وتوحش أكبر.

 ج- الصعود الإقليمي الإسرائيلي في سياق اتفاق إبراهام سيكون إيذانا بصعود تركي موازي أي بصعود لمحور التحالف الإسلاموي، وهو ما سيكون قطعا علي حساب مصر وأمنها الوطني بالأساس إذ ستزعم تركيا -التي كانت ولازالت أقدم وأكبر دولة إسلامية مطبعة مع إسرائيل – أنها دولة الممانعة لهيمنة إسرائيل إقليميا، وهو ما ظهر جليا في مد تركيا نفوذها إلي حركة حماس التي تسيطر علي قطاع غزة  وهو خط الدفاع العسكري التقليدي المعتمد للأمن القومي المصري. إذ التقي أردوغان ولأول مرة زعيم الحركة إسماعيل هنية مرتين هذا العام ومنح جنسيات تركية لسبعة من قادة حماس وربما يسمح  لقيادة الحركة في الخارج  التي انتقلت من دمشق للدوحة أن تعمل من أسطنبول وأنقرة، فاذا وضع إلي جانب ذلك حقيقة أن حليف تركيا الإقليمي الداعم للإسلاموية الحركية وهي قطر صارت من قبل الإسرائيليين الشريك المفضل لعقد هدنة طويلة بين الدولة العبرية وحماس مقابل السماح للدوحة بتقديم معونة مالية منتظمة للقطاع وبالتالي الظهور بمظهر البطل المخلص لغزة وشعبها من المعاناة غير الإنسانية التي يفرضها الحصار والاحتلال الإسرائيلي علي القطاع الصامد .  

‎نجد ان هذا هذا التطور يمثل تقليصا خطيرا لأحد مناطق النفوذ الإقليمي لمصر علي اهم مناطق أمنها المباشر وينقل تأثيرها التاريخي في هذا الملف ليس فقط لأيدي غيرها ولكن لأيدي خصومها  الإقليميين في الوقت الراهن .

 د-التحالف العسكري الإماراتي مع إسرائيل سواء بما سيمنحه للإمارات من فرص الحصول علي أحدث الأسلحة الهجومية من امريكا وأوروبا ومن إسرائيل نفسها، وبما سيمنحه للاستخبارات الإسرائيلية من اقتراب مباشر من الأراضي والمواقع الاستراتيجية الإيرانية، اعتبرته دوائر الأمن القومي تهديدا مباشرا لأمن إيران القومي، وقد يجعل ذلك إيران تقدم  علي خطوة استراتيجية خطيرة الأ وهي تضييق مساحة خلافاتها الإقليمية مع تركيا – خاصة مع استقرار نسبي في أكبر جبهة خلاف بينهما وهي سوريا التي تبلورت فيها حالة من الأمر الواقع في سوريا وتأكد  فيها الجميع أن الدولة السورية لن تسقط-. 

‎وفي حالة العزلة التي تسبب فيها الحصار الأمريكي (الاقتصادي/ السياسي) علي إيران في عهد ترامب فإن إيران قد تري في التقارب مع تركيا في مواجهة إسرائيل والإمارات دعما لمعسكر الممانعة الذي صار في موقع ضعف نسبي مع ازدياد الصعوبات المالية والاقتصادية الإيرانية وتراجع قدرتها علي دعم حزب الله وحماس والقوي الموالية لها في العراق. وسيكون المستفيد الأكبر من التقارب (الإيراني- التركي) هو التحالف الإسلاموي الإقليمي والخاسر الأكبر هو التحالف الساعي إلي مواجهة هذا التيار وما تولد عنه من حركات دموية متوحشة .

‎بعبارة أخري فان كل مكاسب القيادة الإسرائيلية للمنطقة مصطحبة معها الإمارات واتفاق إبراهام الاستراتيجي ستكون مكسبا صافيا لتركيا وحلفاءها في الإسلاموية السياسية وخسارة صافية لمصر في حربها ضد الإرهاب .

 ‎إطار رباعي وحوار استراتيجي مع طهران

لهذا يقترح هذا المقال تصورا واقعيا يقوم علي أساس إعادة الاعتبار للأوزان الجيوبولتيكية الحقيقية في العالم العربي بكل ما تعنيه من عمق بشري وحضاري وقوي ناعمة،  لتشكل أولا إطارا للتعاون الاستراتيجي العربي المواجه للإرهاب من ناحية مهمته الأساسية أن يكبح جماح التطورين المتمثلين في توسع النفوذ الإقليمي لتركيا من جهة و توسع النفوذ  الإقليمي لإسرائيل  من جهة أخري. وأن يتقدم هذا الإطار العربي إلي حوار (عربي- إيراني) صريح  يمنع انضمام طهران إلي الحلف الإسلاموي القائم  .

‎هذا الإطار المقترح تعتبر مصر ركيزته الأساسية وأيضا السعودية – إذا اتفقت الرياض مع مصر علي أن الخطر الأكبر علي الأقل  في الوقت الراهن  هو الإرهاب وليس إيران  وأن دورها القيادي التقليدي في الضفة العربية للخليج ستختطفه إسرائيل-  وينفتحان أو تنفتح مصر وحدها تاليا علي العراق وسوريا أكثر البلدان اكتواء من نار الإرهاب .

‎إن إطارا من هذا النوع قادر لاحقا علي اجتذاب دعم دول  خليجية معتدلة مثل الكويت وعمان لا تريد استقطابا مدججا بالسلاح والعداوة في الخليج ولا تقبل بالوجود الإسلاموي المهدد للاستقرار الداخلي للدولة الوطنية في نفس الوقت، أو حتي اجتذاب دول عربية وازنة مثل الجزائر عانت من عشرية الإرهاب الأسود وفي نفس الوقت لها موقف تقليدي معادي للهيمنة الاسرائيلية . 

‎إن حوارا (عربيا – إيرانيا) استراتيجيا أيسر الأن من أي وقت مضي في ظل المعاناة الإيرانية الراهنة، كذلك فأن إيران التي تخشي الإرهاب وتعتبره عدوها الأول -حتى ولو لأسباب مذهبية- تدرك خطر داعش وكل جماعات الإرهاب التي تعتبر الشيعة روافضا خارج الملة، فإيران المحاطة ببحر سني مؤهلة لحوار مع هذا الإطار العربي إذا كان سيقلل من خطر الهيمنة الإسرائيلية علي المنطقة ومن خطر يد اسرائيل الطويلة التي سيصبح الوصول للعمق الايراني نزهة مع تواجدها المتوقع في الضفة المقابلة علي الخليج .

‎وإيران التي تعلم تورط تركيا مع داعش وتعلم مخاطر المشروع العثماني الأردوغاني علي مصالحها القومية والمذهبية وعلي وجودها السياسي  مستحضرة بسهولة مائيتي عام دموية من تاريخ الصراع  (العثماني / الصفوي)  مؤهلة أكثر لاستمرار التنافس مع مشروع  الهيمنه التركي إذا وجدت إطارا عربيا راغبا في حوار استراتيجي .

 

‎بل أن إيران ستكون مؤهلة لتقديم تنازلات لابد منها لعودة الثقة العربية فيها بعد أن استغلت فراغ القوة العربي وانكفاء مصر علي مشكلاتها الداخلية للتدخل الزائد عن الحد في العراق ولبنان وغيرها.. حوار يحفظ مصالح إيران المشروعة ويمنع تعرضها لحرب كالحرب العراقية الإيرانية ويمنع أن تكون الضفة الأخري للخليج نقطة انطلاق لاعتداءات إسرائيلية أو أطلسية عليها. 

‎المقابل هو احترام إيراني لمقتضيات الأمن القومي العربي والامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية.

‎إن إطارا من هذا النوع يواجه تحديات صعبة ومعقدة ولكنه ربما يكون أسهل، وقطعا أفضل بكثير من اعتبار أن الخضوع  للإرهاب أو لكل من الهيمنة الإسرائيلية والتركية -الإسلاموية الموازية هو قدر مصري لا فكاك منه.