داخل أحد المحال الضخمة في الكويت “هايبر”، حرص البائعون على وضع عبارة “منتجات غير فرنسية” على ثلاجات توزيع الأجبان واللحوم المحفوظة، بعدما تزايدت أسئلة الزبائن المستجدة عن مصدرها خلال الأيام الثلاثة الماضية.

ظل أحمد السيد، الشاب المصري الذي يقف على ثلاجات الأجبان منذ خمس سنوات، قبل يومين مشغولاً بمعرفة سبب العزوف المفاجئ عن منتجات الريف الفرنسي الفاخرة التي كان غالبية الزبائن يفضلونها قبل عدة أسابيع فقط، ففي قرارة نفسه يتعلق الأمر بمشكلة ما لا يعرفها.

يقول السيد إن الأيام القليلة الماضية شهد طلبًا من الكويتيين على منتجات مصرية بصورة ملحوظة، شعر بالزهو للمرة الأولى بوجود تفضيل منتجات بلده الأصلي قبل أن يعرف بوجود حملة ضخمة لمقاطع المنتجات الفرنسية، ردًا على إساءتها للنبي محمد.

ورغم عدم إعلان حكومة الكويت، التي يبلغ حجم التبادل التجاري بينها وبين فرنسا نحو 21.6 مليار دولار، موقفا رسميًا، لكن يبدو أن هناك اتجاها غير معلن لدعمها بعدما اتفقت الجمعيات التعاونية وعددها 52 على رفع المنتجات الفرنسية من أرفف البيع، وسط تباري مدونين من بينهم مشاهير لتعميم ملصقات تتضمن قائمة بمنتجات باريس، خاصة في قطاعي المواد الغذائية والعطور وأدوات المطبخ. 

المقاطعة سلاحنا الأزلي

انطلقت حملات لمقاطعة المنتجات الفرنسية في كثير من الدول العربية بعد تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الداعمة لنشر رسومات كاريكاتورية للرسول محمد، بعد حادث قطع رأس مدرس فرنسي بسبب اختياره الرسوم موضوعا لأحد دروسه.

وتعتبر المقاطعة سلاحًا أزليًا يلجأ إليه العرب مع أي قرار دولي او موقف فردي يتعلق بقضاياهم، وبدأت رحلة المقاطعة منذ ظهور القضية الفلسطينية عام 1948 وكانت المطالبات حينها بمقاطعة البضائع اليهودية.

ومع الوقت تعاظم الدور المتخيل لسلاح المقاطعة كوسيلة شعبية لمواجهة رخاوة المواقف الرسمية، أو الضغط على جهات دولية لتغيير سياساتها، لكن ثمار المقاطعة  تظل مرهونة بالاستمرارية (وهو ما لم يحدث غالبا) و بوجود بدائل للمنتجات التي يتم مقاطعتها.

وتأتي المقاطعة للمنتجات الفرنسية التي تنتشر وتيرتها بصورة كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، في ظل ركود الاقتصاد العالمي بسبب تداعيات كورونا، وهنا تجدر الاشارة ان حجم التبادل التجاري بين الدول العربية وفرنسا يتجاوز 60 مليار دولار وهو رقم كبير لا يمكن إغفال تأثيره على الاقتصاد الفرنسي حال تطبيق المقاطعة بشكل موسع وجاد لمدد زمنية طويلة من قبل الدول العربية، وهو ما لم يحدث من قبل في الموقف المثيلة، فقد ظهرت دعوات شبيهه في 2006 لمقاطعة المنتجات الدنماركية والنرويجية على خلفية رسومات مسيئة للرسول، لكنها لم تصمد طويلا.

 

 

  امتزاج الدين والسياسة بالمقاطعة

في السعودية، نجحت حملة مقاطعة للمنتجات الفرنسية والتركية على حد سواء، الأولى بسبب الرسومات المسيئة للرسول، والثانية بسبب تصريحات أنقرة ضد الأسرة الحاكمة منذ مقتل الصحفي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية بتركيا قبل عامين، وامتد صداى المقاطعة إلى حد مطالبة المستثمرين السعوديين في تركيا بتصفية أعمالهم والعودة.

 وقد نجم عن تلك الحملة تراجع مبيعات المنتجات التركية بالسوق السعودية بنهاية أغسطس الماضي إلى نحو 1.91 مليار دولار مقارنة بـ 2.3 مليار، في الفترة ذاتها من العام الماضي، وقد قدر عجلان العجلان، رئيس الغرف التجارية في السعودية، في مقابلة أخيرًا مع قناة العربية، الخسائر التي سيتكبدها الاقتصاد التركي  بـ 20 مليار دولار، كاشفا أن المقاطعة نجحت بدليل أن الشركات ومصانع تركية تتواصل معه.

 

غير أن مواقع تركية نفت تراجع التجارة بين البلدين، وقالت إن البيانات الرسمية المتعلقة بحجم التبادل التجاري بين تركيا والسعودية تخالف ما هو سائد على منصات التواصل الاجتماعي، من دعوة البعض إلى مقاطعة المنتجات التركية. وضربت مثالا على ذلك بارتفاع واردات السعودية من تركيا في شهر أغسطس الماضي من 184 إلى 222 مليون دولار، مقارنة بالشهر نفسه من العام الماضي، مما يجعل تركيا تاسع أكبر مصدر للسعودية.

المقاطعة قد تمتد للاستثمار

 حتى الآن مازال الحديث عن مقاطعات المنتجات والبضائع فحسب، وإن كان هناك محاولات من بعض الداعين لمقاطعة المنتجات التركية والفرنسية في الخليج لنقل المعركة من مقاطعة المنتجات فقط إلى حلبة الاستثمار، لكونها أكثر ضررا على مستويات التشغيل والعائد الاقتصادي الكلي للحكومتين.

ففي الكويت هناك مطالبات بسحب استثمارات بقيمة 6 مليارات دولار من أصل 300 مليار تمثل جملة الاستثمارات الخليجية في فرنسا، بينما يطلب السعوديون تكرار الأمر ذاته مع تركيا التي اجتذبت 19 مليار دولار من أموال مستثمري الخليج. 

ويحتل رجال الأعمال الخليجيون المرتبة الثالثة كأكبر مصدر للاستثمارات الأجنبية في تركيا بعد بريطانيا وهولندا بنحو 1973 شركة، منها 1040 تتبع الجنسية السعودية.

 لكن الخبراء الاقتصاديين يرون أن تحقيق مطلب عودة الاستثمارات الخليجية “صعب”، لأن رجال ألاعمال لن يقبلوا أن تقل ارباحهم مهما كانت الاعتبارات السياسية أو الدينية. ووفقا للقنصلية الفرنسية في جدة فإن أعداد التأشيرات التي أصدرتها القنصلية بلغت 45 ألف تأشيرة سياحية للسعوديين المقيمين بجدة فقط عام 2014، وحل السعوديون في المرتبة الثانية من حيث حجم الإنفاق في المتاجر الفرنسية بإنفاق فردي قدره 1435 يورو.

وحتى الآن مازالت تركيا الوجه المفضلة للسياح الخليجيين خاصة السعوديين، ليشكلوا نحو 27% من حركة السياحة لها، قبل أن تنخفض الأعداد بنسبة 30% مع تحذيرات رسمية سعودية من السفر  في أعقاب تأزم العلاقات بين البلدين وتأكيد الرياض تعرض مواطنيها لاعتداءات هناك.

الربح لا يعرف السياسة

 أما في مصر فصورة البراجماتية الاقتصادية أوضح.

بالرغم من التراشق والعداء المعلن بين أنقرة والقاهرة إلا أن العلاقات الاقتصادية بين مصر وتركيا لم تنقطع ، والاستثمارات التركية بمصر تناهز 5 مليارات دولار، وجاءت بالمرتبة الثالثة في قائمة مستوردي البضائع المصرية العام الماضي بقيمة مليار و706 ملايين دولار.

 ورغم انطلاق حملات شبيهة في مصر لمقاطعة المنتجات التركية لكنها لا تجد صدى كبيرا عند الجمهور، وربما تلحق بدعوات مشابهة تم إطلاقها منذ شهور أيضًا ردًا على تدخل أردوغان في ليبيا وإرسال قوات لدعم حكومة الوفاق، تحت شعار حينها: “المنتج تركي يعادل رصاصة في صدر كل عربي”. 

ولذلك سوف تجد ان فروع “إل سي واكيكي” للملابس التركية التي تحتضنها السلاسل التجارية الكبرى بمصر، تعج بآلاف الزبائن مع انطلاق العام الدراسي، وغالبية العاملين أو الجمهور رغم درايتهم بوجود مقاطعة لم يهتموا بها بسبب معادلة أخرى تتعلق بـ”السعر”.

 تقول سارة علاء، التي تمسك بثلاثة أكياس ضخمة، إنها تؤيد المقاطعة، لكن بشرط توفير منتج منافس بسعر وجودة عالية، فمبلغ لا يتجاوز 2000 جنيه اشترت احتياجاتها من الملابس لفصل دراسي كامل، وهذا لا يمكن تحقيقه مع المحال المصرية.

تثير السيدة، التي لم تتجاوز الثلاثين تساؤلاً يحتاج إلى إجابة: إذا قاطعت المحل التركي الذي اشترى منه تلك الملابس، فهل أقاطع البضائع التي يبيعها المول التجاري الفرنسي الذي يوجد به المحل، ويعرض منتجات مصرية أيضًا ويعمل به زوجي وأخي كـ”كاشير”؟

الموقف ذاته تبناه محمد الداعور، الرئيس السابق لشعبة الملابس الجاهزة في غرفة القاهرة التجارية، الذي يعتبر أن الاقتصاد ليس لها علاقة بالخلاف السياسي، والاعتراض على سياسات الحكومة التركية المناهضة لمصر، لا يجب أن يكون مبررًا لفقدان مكاسب للطرفين أو أن يمتد للشعوب”،. فمجموعة “كارفور” الفرنسية الشهرية تمتلك نحو 11 هايبر و25 سوبر ماركت في مصر موزعة في القاهرة والمحافظات، ويعمل بها أكثر من  6 آلاف موظف، والأمر ذاته مع الاستثمارات التركية التي يعمل بها في مصر قرابة الخمسين ألف فرصة عمل. فماذا سيكون وضعهم حال الإغلاق …”لا يجب أن نركب الموجة”

توفير البديل

إن نجاح المقاطعة الاقتصادية تتطلب تتوافر البديل المناسب وأن تستطيع حساب الخسائر التي تنعكس عليك من المقاطعة حتى “لا تكون مثل الذي يضرب الرصاص على قدميه”، فبعض المنتجات التي تحمل الشعار التركي أو الفرنسي هي في الأصل توكيلات أنتجها مصنعون عرب وتفتح أبواب رزق للكثيرين.

 وعليه فلا يمكن انتهاج موقف موحد من المقاطعة دون النظر في طبيعة النشاط الاقتصادي في كل دولة، ففي الخليج مثلا تأتي المنتجات الفرنسية مصدرة بالكامل أو بمعنى أخر من الطائرة إلى الرف، عكس مصر والمغرب التي يتولى صناعتها مستثمرون وعمال محليون تحت العلامة الفرنسية خاصة في قطاع والألبان.

لذلك (يمكن) للخليج ان يتخذ قرار المقاطعة دون انعكاس سلبي على اقتصاده.

اما في بلد مثل مصر فالمقاطعة تعني توجيه ضربة مباشرة لآلاف العمال.

 الدكتور رشاد عبده، الخبير الاقتصادي  يحدثنا عن فلسفة المقاطعه قائلا : بشكل عام تحتاج حملات المقاطعة إلى “الصبر” وهو أمر غير متوافر كثيراً لحملات المقاطعة الشعبية في دولة مثل مصر، 

فقبل عدة أشهر مثلا دشن نشطاء حملتيّ “خليها تصدي” “وخليها تعفن” للاحتجاج على الارتفاع المبالغ فيه في سعر السيارات والخضروات وحققت نجاحًا مرحليًا ثم انتهت لتعود الأسعار لمستويات أعلى مما كانت عليه قبل تدشين الحملتين.

يستطرد الرجل شارحا: حملات المقاطعة قبل دراستها تحتاج إلى تقييم، فلا يمكن الانخراط فيها بصورة عاطفية دون حسابات دقيقة، فبالنسبة للخليج لديها القدرات على الاستيراد من أسواق موازية بصرف النظر عن الأسعار، على عكس الدول التي تعتمد على جذب الاستثمارات الأجنبية وتبحث شعوبها عن السلع الرخيصة.

قلق من المقاطعة

نجاح أي مقاطعة يتطلب وجود دور للدولة حتى لو لم تدعمها بشكل مباشر عبر مراقبة السوق وضمان المنافسة، لمنع التجار والمنتجين المحليين من اغتنام الفرصة و رفع أسعار منتجاتهم، على اعتبار أن السوق بات مفتوحًا لهم.

وعلى صعيد آخر فإن أصحاب المحال التجارية في العالم العربي يشعرون بالقلق إزاء احتمالية تنامي حملات المقاطعة، بسبب الكميات المخزنة لديهم من البضائع التي استوردوها بالفعل، معتبرين أن المقاطعة تضرهم في المقام الأول، فالأولى منع الاستيراد او فرض رسوم إغراق وليس مقاطعة ما تم شرائه. خصوصا اننا  نتحدث عن دول تستورد أغلب محتويات محالها في ملف الغذاء.

مثلا: تستورد  السعودية 80% من غذائها كما تستورد الإمارات 90% وتنخفض النسبة في بلاد مثل الاردن وعمان لتصل الى 60% 

المقاطعة سيفنا الأخير في وجه قرارات نراها ظالمه وتصرفات نراها مهينه، قد نتفق او نختلف على مدى فاعليته من عدمها، لكن المؤكد أن لها تكلفة اقتصادية سيتحملها البعض منا منفردا.