سألته عن ما يحمله تحت ذراعه، كانت بطانية ثقيلة، لفها إبراهيم جيدًا داخل قطعة من “المشمع” فالشتاء قادم، و”الكابرته” التي تركها بالمزرعة لم تعد تستطيع تدفئته. في ذراعه الأخرى كان يحمل “شنطة هاند باك” قديمة، يذكر إبراهيم ذو الـ 40 عامًا أنه احتفظ بها منذ انتهاء خدمته في الجيش  عام 2003.

إبراهيم واحد  من ملايين العمال والعاملات داخل القطاع الزراعي، يعيشون ظروف عمل صعبة سواء في الأراضي القديمة “الوادي والدلتا”، أو في مزارع شركات الاستثمار الزراعي التي غزت الظهور الصحراوية، في طريق الإسكندرية بداية من أبو غارب، وفي منطقة وادي النطرون، وفي الإسماعيلية والصالحية،  وعلى طول طريق أسيوط الغربي ابتداء من الفيوم وبني سويف، وفي الضبعة والحمام بمطروح، وغيرها من المناطق، فيما يعرف بـ”الأراضي الزراعية الجديدة أو “زراعة الصحراء” والتي قفزت من 1.5 مليون فدان  عام 2001 إلى 3.1 مليون فدان عام 2017، بحسب الكتاب الإحصائي السنوي 2019، الصادر عن  الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء. 

وطبقًا لـ“لكتاب الإحصائي“، يستوعب القطاع الزراعي 21.6% من المشتغلين في مصر، وهو أكثر القطاعات  استيعابًا للعمالة  حيث يضم 5 ملايين و636 ألف مشتغل، من 26 مليون و295 ألف هي إجمالي عدد المشتغلين في البلاد. 

لكن التعداد الزراعي الصادر عن وزارة الزراعة ( الذي يقوم بحصر العاملين بأجر نقدي وعيني وبدون أجر)، يحصرهم في 12 مليون منها خمسة ملايين من النساء، . كما يوضح الباحث في مجال البيئة والتنمية الريفية، عبد المولى إسماعيل.

الأجور وساعات العمل 

يقول إبراهيم وهو أب لأربعة أبناء في مراحل التعليم المختلفة، إنه يعمل بمزارع الفاكهة  بوادي النطرون منذ خمس سنوات، فقد وجد أنها أفضل من العمل باليومية في أراضي الأهالي بقريته “سينرو” بمحافظة الفيوم، فعلى الأقل يتقاضى أجره بشكل مجمع في نهاية الشهر.

لكن إبراهيم يشكو من تدني الأجور وظروف العمل: “نعمل في جني الفاكهة وتعبئتها داخل مزارع شاسعة لا يستطيع نظرك أن يصل إلى آخرها، برتقال وعنب ورمان وجوافة، جزء نقوم بتعبئته للسوق المحلي والجزء الآخر يذهب إلى مراكز التعبئة للتصدير، 12 ساعة من العمل المتواصل يوميًا مقابل 120  جنيهًا، يتبقى منها أقل من 90 جنيهًا بعد خصم [الحاج حربي] ثمن الوجبات الثلاث”.

العمل من الباطن

نموذج “الحاج حربي”، فصلٍ آخر من معاناة العمال الزراعيين، “حربي” هو أحد المقاولين أو “موردي العمالة” الذين يجلبون العمال من القرى للعمل بمزارع الخضروات والفاكهة بالظهور الصحراوية.

العمال لا يعرفون شيئًا عن إدارة المزرعة أو الشركة التابعة لها، بالكاد يدركون اسمها، كما أنهم لا يعرفون الأجر الحقيقي الذي تدفعه الشركة مقابل عملهم، فهو “سرًا”! كما يقول “إبراهيم” بين الشركة والمقاول.

المهندس الزراعي علاء أبو جليل، يقول، إن عدد العمال اللازم لكل مزرعة يختلف بحسب المحاصيل والطريقة الزراعية المتبعة، بعض المحاصيل يتم حصدها آليًا، ليس فقد القمح والبرسيم، بل أيضًا الخضروات مثل الطماطم التصنيعية التي يتم بيعها للمصانع، ومع ذلك فأغلب الزراعات تحتاج لكثافة عمالية كبيرة، أثناء عمليات الجني والتعبئة، والرش والتقليم، خاصة الفاكهة والخضروات.

ويوضح أبو جليل أنه في المزارع التابعة للشركات الاستثمارية الكبرى هناك عمالة دائمة أو شبه دائمة داخل كل مزرعة لكنها لا تتبع الشركة وليس لها أية حقوق تأمينية أو تعاقدية، ولكن تتبع المقاول والذي غالبًا ما يستنزفها بالسطو على نحو ربع الأجر مقابل إعفاء الشركة من أي مسؤولية تجاه العمال.

 ويضيف أبو جليل أنه في حالة إصابة أي عامل خلال العمل فإن المقاول ربما يقوم بعلاجه أو تركه بدون علاج، هذا متوقف على شخصية المقاول وعلاقته بالعاملين، أما العمالة التابعة للشركة والمُتعاقَد معها فيكون عددها قليل جدًا، بعض المهندسين والمشرفين ومشغلي آلات الري والحصاد.

بيئة وظروف العمل

زيادة ساعات العمل وتدني الأجور ليست المعاناة الوحيدة للعمالة الزراعية، يقول عبد المولى إسماعيل، الباحث في مجال البيئة والتنمية الريفية، إن العمال الزراعيين يعملون في ظل غياب وسائل السلامة والصحة المهنية حيث يقومون برش المبيدات وهي عملية مرتبطة بالنشاط الزراعي دون أي سبل للوقاية، كما أنهم أكثر  الفئات عرضة لإصابات العمل.

بينما يخبرنا محمد سعيد، 32 سنة، من إحدى قرى بني سويف، ويعمل بمزارع الخضروات بمنطقة الصالحية، عن ظروف المعيشة والمبيت داخل المزارع، حيث يفترشون الأرض في الخلاء في فصل الصيف، أو داخل غرف خشبية لا يوجد بها  أسرة في فصل الشتاء. 

ويذكر سعيد أن هناك بعض المزارع مجهزة بغرف بـ “المسلح” وحمامات كاملة التشطيب، لكن دون وجود أثاث بالغرف، وعندما سأل أحد المهندسين عنها قال إنها جهزت بناء على شروط لجان “التكويد” (شهادات جودة المحاصيل ومطابقتها للشروط التصديرية). 

عمالة النساء والأطفال 

ليس هناك اعتراف قانوني  بالنساء العاملات بالزراعة، حيث تنص المادة 97 من قانون العمل الموحد 12 لسنة 2003، على أنه: “يستثنى من تطبيق أحكام هذا الفصل العاملات في الزراعة البحتة” والمقصود هنا هو الفصل الثاني من باب تنظيم العمل، والخاص بتشغيل النساء وضمان حقوقهن لدى صاحب العمل، وهو تمييز قانوني صارخ ضد النساء.

يوضح عبد المولى إسماعيل، أن قانون العمل الموحد 12 لسنة  2003 وتعديلاته لا يعطي النساء العاملات في الزراعة حق شمولهن ضمن نطاق قانون العمل ومن ثم ليس لهن الحق في إقامة أية علاقات تعاقدية مع أصحاب الأعمال، وبالتالي حرمانهن من الحقوق الاقتصادية والتأمينية .وهو ما يستوجب ضرورة تعديل قانون العمل ليضمن شمول العمالة الزراعية من النساء ضمن نطاقه.

ويرى صقر النور، الباحث في علم الاجتماع الريفي، أن للرسملة  الزراعية، وتطور الزراعة التصديرية خاصة في الخضروات والفاكهة، أثر كبير في نمو ظاهرة تأنيث العمل الزراعي الموسمي، وأيضًا زيادة عمالة الأطفال خاصة في جني الخضراوات بالمزارع الكبيرة بالظهور الصحراوية، نظرًا لتدني أجور النساء والأطفال مقارنة بالذكور البالغين.

غياب الضغط من قبل المجلس القومي للمرأة والجمعيات النسائية وتهميش العمالة الزراعية النسائية  لعب من وجهة نظر صقر النور، دور كبير في تدهور ظروفهن وكونهن غير مرئيات اجتماعيًا، فهناك غياب للنقاشات العامة حول العاملات في القطاع الزراعي، في الوقت الذي بلغ فيه الحديث عن قضايا وأوضاع النساء في مصر ذروته.

وفيما يتعلق بعمالة الأطفال في أعمال الزراعة، والانتهاكات التي تمارس ضدهم سواء من حيث التفاوت في الأجور أو العمل في ظروف شاقة وحمل أوزان ثقيلة، والمبيت مع البالغين، بالمخالفة لقانون الطفل، فيمكن الإطلاع على ما رصده “مصر 360” من شهادات لأطفال يعملون بالزراعة (بعد تصريح من أوصيائهم القانونيين) في تقرير سابق بعنوان “الأطفال في مصر.. وِجهة أصحاب المنشآت لتشغيل عمالة رخيصة“.

ضعف التنظيم

أحد أهم أسباب تدهور أحوال العمال الزراعيين هو ضعف الهياكل التنظيمية الخاصة بهم أو غيابها، رغم الاعتراف القانوني بحقهم في التنظيم كما يشير “إسماعيل”، وفقًا للقانون 213 لسنة 2017 الذي أعطى الحق للعمالة غير المنتظمة ومن بينها العمالة الزراعية في  إنشاء تنظيماتها النقابية.

فباستثناء النقابة العامة للعاملين بالزراعة والري والصيد، والتي تعتبرها قيادات نقابية زراعية، مجرد مكان لـ”خَتم” استمارات بطاقات الرقم القومي لأعضائها، لا أكثر،  فليس هناك سوى نقابتين فرعيتين مستقلتين استطاعتا توفيق أوضاعهما القانونية واحدة في بني سويف والأخرى بوادي النطرون.

نستطيع أن نحدد عدة أسباب لضعف تنظيم العمالة الزراعية من بينها تبعثر العمال الزراعيين، وعدم تكتلهم في مناطق جغرافية محددة، وتغير أماكن عملهم، والمستوى التعليمي حيث أن غالبيتهم بحسب شهادات العمال الذين تحدثوا في التقرير، من غير ذوي المؤهلات، إضافة لغياب التراث النقابي المصري للعمالة غير المنتظمة بشكل عام وللعمال الزراعيين على وجه الخصوص.

وعلى الرغم من ذلك فإن تكتل العمال الزراعيين وتنظيمهم هو السبيل للحصول على حقوقهم.

غياب العلاقات التعاقدية: أم المشكلات

مشكلات العمالة الزراعية متعددة فمن تدني الأجور إلى زيادة ساعات العمل وغياب وسائل الوقاية، وإصابات العمل، لكن المشكلة الكبرى والتي أنتجت المشكلات السابقة تكمن في غياب العلاقات التعاقدية مع أصحاب العمل وبالتالي غياب الحقوق التأمينية والاقتصادية مثل زيادة الأجور والعلاوات والوقت الإضافي، والحوافز. 

 يقول عبد الفتاح عبد العزيز، رئيس نقابة العمال الزراعيين بوادي النطرون، إنه خلال السنوات الماضية، تحدثوا  مع وزراء ومسؤولي القوى العاملة والزراعة السابقين، خلال لقاءات وورش عمل متعددة، عن ضرورة تحديد  عدد العمالة اللازمة لكل مزرعة، بعد دراسة احتياجاتها من العمالة، بحسب المساحة وأنواع المحاصيل التي سيتم زراعتها، وإلزام الشركات الزراعية بالتعاقد مع النسبة المحددة، مع قيام إدارات التفتيش بمكاتب العمل بتكثيف التفتيش على تلك المزارع وحصر العمالة الثابتة والمؤقتة بها.

ويضيف عبد العزيز: “كما اقترحنا حصر العمالة التي تدخل إلى المزارع يوميًا من خلال إنشاء بوابات على مداخل المشروعات الزراعية الكبيرة، عليها لجان مختصة بحصر العمال وأماكن العمل المتوجهين إليها ومقارنتها بالكشوف الخاصة بالمزارع.

 شريك في التنمية أم عمالة رخيصة لجذب المستثمر؟

ما يطرحه رئيس نقابة العمال الزراعيين، من حلول، وما يُطرح عبر الإسهامات النظرية للباحثين والمؤسسات المعنية بالعمالة الزراعية، من ضمان حقوق العمالة الموسمية المتعلقة بشروط الصحة والسلامة المهنية، ومراقبة المزارع من قبل مكاتب العمل والهيئات الرقابية، وتحديد حد أدنى للأجور مرتبط بساعات العمل.

 ودعم التكتلات التعاونية الزراعية للعمال الزراعيين وحقهم في الحصول على مساحات من الأراضي الصحراوية بالتسهيلات التي تمنح للمستثمرين، مع تمويل عمليات الاستصلاح، كل ذلك يحتاج إلى توجه عام من مؤسسات الدولة، بداية من المؤسسة التشريعية مرورًا بوزارات القوى العاملة والزراعة والاستثمار، والتخطيط والمالية. 

ووضع العامل الزراعي في حسابات مؤسسات الدولة بوصفه رقمًا هامًا في العملية الزراعية، والتي تقول الدولة إنها تسعى إلى تنميتها والتوسع فيها، خاصة وأن العمال الزراعيين المصريين وعلى عكس العمالة الزراعية العالمية، ضاعفوا إنتاجهم خلال أزمة “كورونا” حيث وصلت صادرات المحاصيل الزراعية، منذ يناير وحتى سبتمبر إلى 4.2 مليون طن من الفاكهة والخضروات بزيادة تصل لـ30% عن العام الماضي 2019، لدرجة استحواذ مصر على أسواق البرتقال التي كانت تسيطر عليها إسبانيا، بعد تراجع إنتاجها بفعل الأزمة.

إضافة لملايين الأطنان من الغذاء والتي وفرتها العمالة الزراعية وصغار الفلاحين لاستهلاك السوق المحلي، على الرغم من المخاطر التي ربما قد تعرض لها العمال، بسبب صعوبة تنفيذ إجراءات التباعد الاجتماعي، وعدم توافر أدوات الحماية. 

طالما ظلت الدولة تنظر إلى العامل الزراعي، بوصفه أداة جذب للمستثمر الزراعي، كعمالة رخيصة ليس لها أية حقوق، فإن كل الاقتراحات الخاصة بتحسين وضعية العامل/ة الزراعي ستواصل الدوران في حلقات مفرغة، وسوف يظل منتجو الغذاء في مصر داخل المنطقة المظلمة.فنظره  “موقع العلاقات الزراعية الخارجية” التابع لوزارة الزراعة المصرية يمكنك ملاحظة كيف يتم عرض العمالة الزراعية، صراحة كـ سلعة رخيصة ، بهدف تحفيز المستثمرين الأجانب.