الحديث عن الجسد باعتباره مبحثا علميا اجتماعيا هو ظاهرة حديثة، ففي السابق كان يتم التعامل معه باعتباره مجرد “شيء” مصمت وحقيقة جامدة لا تتغير. لكن مع تطور النظريات العلمية والاجتماعية المختلفة بدأت نقاشات حول الجسد باعتباره مفهوما اجتماعيا ثقافيا يتم تحميله الكثير من المعتقدات الثقافية والاجتماعية بشكل لا واعي.
اهتمت الحركة النسوية كثيرا بالجسد كمفهوم ثقافي واجتماعي وركزت على كسر الأنماط الثقافية للتعامل مع الجسد ورفضت منطق اعتباره مصدر الخطيئة والرذيلة حسبما كان يُشاع في السابق.
وجاء هذا الاهتمام بسبب المشكلات التي تواجه النساء بسبب أجسادهن وبسبب تشوه العلاقة بينهن وبين تلك الأجساد. ولعل من أهم التجارب التي توضح تلك الفكرة تجربة امرأة مصرية سمحت باستخدام قصتها دون توضيح هويتها الشخصية.
عانت الصديقة تجربة طويلة من الانفصال عن جسدها وكراهيته بتيجة طريقة تربية أسرتها السلفية المتشددة، وكانت فكرة الجسد شبه ممنوعة ولا يجري الحديث عن أي شيء بخصوصه بالتالي لا تفهمه ولا تفهم تغيراته. وكانت صدمة عملية الختان بمثابة القطيعة بينها وبين جسدها وبينها وبين جهازها التناسلي باعتباره مصدر للأذى والتعب.
وتكمل الصديقة حديثها عن كيفية استكمال انفصالها عن جسدها فتحكي كيف أن دراستها الأزهرية كرست الانفصال حيث كانت أحكام الحيض والجنابة وتفاصيل فقه العلاقة بين الرجل والمرأة جزءا من تعليمها الذي قدم لها الجسد الأنثوي وكأنه ليس سوى أداة لإمتاع الرجل. اكتمل نفورها من جسدها وقطيعتها معه بفرض الحجاب عليها منذ سن الخامسة، وإلزامها به في المدرسة، وعززت الأم الانفصال عن الجسد بالتشديد على إخفاؤه بالزي الفضفاض وكأن ذلك الجسد صفة سيئة لابد من سترها، حتى الرياضة كانت تعتبرها الأم حرام.
تلك الطريقة في تشكيل العلاقة بينها وبين جسدها أثرت على علاقتها الزوجية، فكانت تعاني فترة طويلة من مشكلة كبيرة مع الجنس ونفور تام من العلاقة ومن الرجال لأن كل ما تمت تربيتها على أساسه هو أن هذا الجسد أهميته إمتاع الرجل وبالتالي كرهت فكرة العلاقة الجنسية.. حتى بدأت مرحلة وعي مختلفة بالجسد والعلاقة الجنسية واختلفت الحياة نسبيا وتعرفت على الزوج.
خلال الشهور الأولى من العلاقية الجنسية مع الزوج، كانت الفكرة كلها غير مفهومة وكانت لا تشعر بأي شيء، فقط تفعلها لأن المتزوجين يفعلونها. مع توثق مشاعر الحب وتوطد العلاقة وفهمها أكثر للجسد وللمتعة الجنسية وتفاصيلها بدأت تشعر بالراحة وبأنها أكثر قربا من الزوج وبأن العلاقة بينهما ليست مجرد شهوة ولا استغلال لجسدها وبالتالي بدأت تشعر بالمتعة معه. حاليا بدأت تتعايش مع جسدها وتتقبله لكن ما رسخ في الوعي خلال سنوات طويلة من العمر يعود من فترة لأخرى ويعيد الفجوة والانفصال بينها وبين الجسد.
تلك المعاناة ليست حالة فردية، بل هي واقع كثيرات منهن من يدركن ما يحدث لهن ومنهن من يتماهين مع تعليمات المجتمع ويؤمنن بأن أجسادهن ليست سوى أداة للدنس أو الرذيلة.
المشكلة أكثر تعقيدا من مجرد تأثير العلاقة بين مفهوم الجسد وبين العلاقات الجنسية، فالجسد كمبحث اجتماعي يؤثر على كل جوانب الحياة.
وفي كتاب قضايا الجسد الذي يقدم مجموعة مقالات بحثية حررها سو سكوت وديفيد مورجان تتضح تأثيرات قضايا الجسد باعتبارها إعادة صياغة للمشروع الاجتماعي، حيث إن الجسد يوفر أساسا لمفهوم مختلف من المعرفة والوعي.
ويمكن القول بأن هذا الاهتمام سيفيد البشرية كلها وليس الحركات النسوية فقط، حيث إن عدم الانتباه إلى أهمية الجسد والتعامل معه باعتباره أصل الشرور وموضع الرذيلة خلق مناخا يسمح بالكثير من الخرافات فعلى سبيل المثال قبل القرن الثامن عشر كان البشر يعتقدون أن الذكور والإناث لديهم نفس الأعضاء التناسلية لكن الفرق هو أنها في حالة الذكور تكون خارج الجسد وفي حالة الإناث تكون داخل الجسد، وهو ما جعل “دي جراف” الذي اكتتشف المبايض في عام 1672 يطلق عليها نفس الكلمة التي كانت تُستخدم للتعبير عن الخصيتين وفي قاموس لندن الطبي كان المبيض يُعرف باسم “خصية الأنثى”.
هناك مشكلة أخرى نتجت عن عدم فهمنا السليم للجسد تتعلق بثنائية العقل والجسد وحين اكتشف العالم العلاقة بين الصحة العقلية والنفسية وبين الصحة الجسدية بدأ علم الطب النفسي، لكن قبل القرن التاسع عشر لم يكن هناك تصور واضح عن المرض العقلي وكان البشر يعتبرون أن سببها إما الوقوع في “الخطيئة” أو بسبب عيوب خلقية.
وكانوا يعتقدون أيضا أن الهيستريا هي مرض يخص النساء وحدهن بسبب الاعتقاد بأن الرحم يتحرك ويتجول داخل الجسد لدرجة الاقتراب من الدماغ فيؤثر على العقل..
كل ذلك الجهل بتكوين الجسد الأنثوي والفارق بينه وبين الجسد المذكر، جاء بسبب مفاهيم مغلوطة واتباع الشائع من المقولات المتوارثة دون بحث ودراسة لجسد الأنثى.
وبرر كثير من العلماء والباحثين إجراء التجارب العلمية على الرجال فقط بأن الهرمونات الأنثوية وتغيراتها تفسد نتائج التجارب. نتج عن ذلك إهمال للجسد المؤنث في الأبحاث الطبية وابتكار أدوية تم لاحقا اكتشاف تأثيراتها القاتلة على النساء بعد آلاف الوفيات.
في كتاب “قضايا الجسد.. إدارة الجسد في الطهارة والتلوث” مجموعة من المقالات عن الجسد باعتباره مبحثا في علم الاجتماع وكيف يتأثر معرفيا وثقافيا بالكيفية التي ننظر له به سواء رؤيتنا لأجسادنا أو لأجساد الآخرين.
الكتاب هو عبارة عن مجموعة مقالات بحثية تتناول محاور مختلفة للبحث في قضايا الجسد ويمكن اعتباره مقدمة هامة لتشكيل وعي أشمل بأجسادنا في إطار المعرفة التي تواجه الخرافات وتعيد تشكيل الواقع الاجتماعي والثقافي والعلمي أيضا بطريقة أكثر دقة وأكثر منطقية وبالتالي أقرب للحقيقة.
كانت بدايات الاهتمام بقضايا الجسد نسوية بالأساس، ونتجت عن الإهمال المتعمد لأجساد النساء نتيجة الثقافات البشرية المختلفة التي تتعامل مع الجسد الأنثوي باعتباره مستقر للخطيئة وسبب للعقاب الإلهي.
وجاءت النسوية وبعدها الثورة الجنسية في ستينات القرن الماضي لتعيد تفكيك الرؤى القاصرة والمشوهة للجسد وتلقي الضوء على أن مبحث الجسد في الإطار الاجتماعي والثقافي له أهميته الكبرى فيما يتعلق بفهم العلاقات الجنسية لكن أيضا له أهميته في كل تفاصيل الحياة اليومية التي قد تبدو للوهلة الأولى منفصلة تماما عن الجنس والعلاقات الجنسية.
على سبيل المثال حين تهمل الدراسات المتعلقة بالبيروقراطية كيفية “توظيف” الجسد في المهام المختلفة، لا يمكننا رؤية كيف تتفاعل الثقافة السائدة وتؤثر على البيروقراطية في علاقتها بالنوع الاجتماعي وأجساد النساء والذكور. ففي الوظائف المتعلقة بالاستقبال مثلا جرى العرف السائد على اختيار نساء جذابات وذوت قوام ممشوق. الاختيار البيروقراطي ينطوي على إعادة إنتاج للثقافة السائدة التي تتعامل مع الجسد المؤنث باعتباره دمية جميلة يجذب عرضها العملاء والزبائن.
هذا الإدراك هو البداية الوحيدة لإعادة التخطيط للوظائف في النظام الديمقراطي وفق المتطلبات المهنية الحقيقية للوظائف دون الاستناد إلى شكل الجسد، فالاستقبال والسكرتارية مهنتان تحتاجان إلى شخص منظم ولبق وقادر على التعامل مع الشخصيات المختلفة على تنوعها بأسلوب مهذب دون ابتذال وحاسم دون جفاء، وبالتالي ليس مجرد واجهة جذابة وفقط.
الجسد ودراسته لها أيضا تأثير على السياسة. ولعل كتابات الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو من أهم الأبحاث والدراسات في هذا الشأن. فوكو تعامل مع الأجساد انطلاقا من علاقتها مع السلطة والمعرفة، وأكد من خلال أبحاثه على أن الجسد الإنساني ليس مُعطى تاريخي جامد، لكنه يتطور ويختلف حسب السلطة والمعرفة التي تؤثر في تكوين الثقافة السائدة وبالتالي تؤثر على رؤيتنا للأجساد ولأهميتها وأدوارها.