(1)

يرى البعض أن إنكار “الحقيقة المطلقة” هو صنو “اللاأدرية” وهو الأمر الذي  يعني إنكار العالم، والتشكيك في إمكانية بناء (المعرفة). ظنًا منهم أن غياب مفهوم “الحقيقة المطلقة” من شأنه أن ينفي وجود (حقيقة) ومن ثم الوقوع في براثن التشكك، والانزلاق إلى حالة من التخبط، ونكران الخبرة المتراكمة.

وهو أمر يبدو مستغربا على “خطاب” معرفي يطرح في الوقت الذي تمكن فيه العلم من الوصول إلى (حقائق) هامة حول أمور كانت تبدو في الماضي القريب غامضة وملتبسة. وفي ظني أن مناط الوصول إلى حكم من هذا النوع يؤشر إلى نقص في الوعي، وربما قصور في الإدراك، ينبعان من نقصان في المعرفة بأسس العلم وأدوات المنهج العلمي التي باتت مادة يتدارسها كل مبتدئ.

والفارق الجلي بين المفهومين لا يدع مجالًا للالتباس، حيث يعني مفهوم (الحقيقة المطلقة) في أبسط صوره نهاية التاريخ، والوصول إلى موقف معرفي لا يمكن أن تتغير عناصره أوتتبدل معطياته، ومن ثم الاهتداء إلى اليقين الذي لا ينبغي على فرد انتقاده او الإتيان بمعرفة تخالفه. وأفضل ما يمكن تقديمه من جهد علمي في ظل هذا الخطاب هو عمليات الشرح والتوصيف لمتون الكتب التي تحوي تلك “الحقيقة لمطلقة”، ولا يجوز بأي حال من الأحوال انتقادها أو التشكيك في مكوناتها وعناصرها. بينما تتأسس المعارف العلمية التي تمتلك حزمة من (الحقائق) الثابتة والمؤكدة على قاعدة رئيسة مفادها: أن هذا ما توصلنا إليه وفقا للمعلومات المتوفرة، وفي ضوء الأدوات والمنهج العلمي المتاح الآن! ما يعني أننا إزاء دعوة مفتوحة للبحث والاستقصاء، والتأسيس لمزيد من الإبداع. وهو فارق جوهري يتخذ من “التطور” ركيزة أساسية تمكن البشر من إضافة مزيد من الخبرات، وابتكار رؤى ومعارف قادرة على تقديم بدائل إبداعية من شانها تعظيم قدرة الإنسان ودعم تقدمه.

(2)

قام خلفاء الرسول الكريم (ص) عقب وفاته بتوثيق ماجاء أثناء البعثة المحمدية من نصوص حاكمة، بغرض حفظها، وهم أهل “الشفاهة”، إذ كان “الكاتب والمكتوب” أقل اعتبارا في الثقافة العربية لفترة من الوقت، حتى بعد استتباب الأمر للإسلام والمسلمين، وكانوا أول ما وثقوا “كلام الله” وهو لقرآن الكريم حتى استقر فيما على اعتماد ما أطلق عليه تاريخيًّا “مصحف عثمان”.

وسار متوازيًّا مع هذا الجهد – الذي لم يكن محل خلافات كبيرة – السعي إلى توثيق الأقوال والأفعال النبوية. وقد اتخذ هذا الجهد لاحقًا مجالين للعمل، كان أولهما توثيق “أقوال الرسول”، وثانيهما كان توثيق “أفعال الرسول” وأطلق على الأول “الأحاديث النبوية” بينما أطلق على الثاني “السنة النبوية”. وفي بدء عمليات التوثيق هذه، بذل الموثقون والمحققون جهدًا كبيرًا. ولا أبالغ إن قلت أن هذه العملية قد استندت إلى رؤية تاريخية تستند في صميم عملها إلى جهد علمي، يمكن الاستناد عليه ومراجعته، وخاصة في مراحله الأولى التي تميزت بالموضوعية والنزاهة والأمانة التي تصف العلماء والمحققين في التاريخ على نحو يجعلهم أهل ثقة.

إذ ارتبط بعملية جمع وتوثيق الحديث والسنة مجالات علمية أخرى من أهمها ما يطلق عليه “علم جرح الرجال”. فعندما تباعدت الفترة الزمنية بين التوثيق والحدث، أصبح من الضروري التحقق من الحدث والتحقق من مصدره، وهو الأمر الذي بذل فيه جهدا مضنيًّا في بادئ الأمر، حتى أن “مالك ابن أنس” لم يجمع في كتابه الشهير “موطأ مالك” سوى ما يقارب ثمانمئة حديث ارتأى أنهم محل ثقته. وارتبط مجال العمل هذا أشد الارتباط بمصدر الحديث وراويه، حيث وضع المحققون الأوائل مجموعة من الاعتبارات والسمات التي ينبغي أن يتحلى بها “المصدر”، من بينها أن يكون من أهل الثقة، وأن لا يعرف عنه الكذب لا في حياته الخاصة ولا في حياته العامة، وكذلك التعرف على تاريخه الشخصي وسيرته العامة. ومن ثم لا يؤخذ من مصدر غابت عنه هذه السمات وغيرها كالأمانة والصدق وغيرها، حتى تدخلت السياسة في الدين وشاعت الفتن بين المسلمين وتنابذ الفرقاء، وأرادوا سندًا فأولوا قرآنا وأقحموا أحاديثا، وبات المسلمون بين “أهل سنة” و”شيعة” وغيرها من الفرق حتى وصل المتنابذون إلى ثلاث وسبعون فرقة “شعبة” أو يزيد.

(3)

في واقعة حدثت منذ ما يقرب من أربعين سنة، وبينما كان معلم التربية الدينية يشرح “حكمة الصيام” في الإسلام، أكد على أن الله قد شرع الصيام “من أجل أن يشعر الغني بمعاناة الفقير”، وكيف أن الله لا يضع “شرعة” أو “فريضة” إلا بحكمة، ” وكل شيء خلقناه بقدر” “وكل شيء قدرناه تقديرا”. وبينما هو على هذا الحال كان هناك سؤال يلح على عقلي بشدة وضراوة، وبسذاجة طفل في العاشرة استأذنت المعلم وسألته: أنا فقير، فهل فرض على الصيام كما فرض على الأغنياء؟ وكان الرد فصيحًا من قبل معلمي: علقة ساخنة لم أكن معتادًا عليها آنذاك. ورأيته يلومني ظنا منه بأني أسخر منه، ومن ثم أسخر من “حكمة الله” في فرضه الصيام على المؤمنين من عباده.

في ظني أن هذه الحادثة – بالنسبة لي- تعد حادثة كاشفة. ليس في حينها؛ لكنها ظلت عالقة بطزاجة في ذاكرتي طوال هذه السنوات، وجعلتني أفكر مليا فيما يمكن أن تكون عليه العلاقة بين النص المقدس والنص الإنساني، وخاصة فيما يتعلق بآليات التفسير والتأويل التي سعى “الإنسان” إلى وضعها بغرض استبيان أو كشف غموض النص  الإلهي. وخاصة إذا ما تبينا أن “النص الإلهي” على وجه الخصوص يمثل حدثا معجزا في العقيدة الإسلامية، وهو نص قابل لاستمرار التأويل، لما يحتويه من نصوص عابرة للزمان والمكان،  استنادا إلى ما يستجد من وقائع، أو يتكشف من حقائق مفسرة للكون ومفرداته. وكأننا ونحن أمام النصوص الغامضة في القرآن إزاء “خبيئة” تمثل أحد مظاهر إعجاز النص وقدسيته، وهو أمر يبدو قاطعا بوصفه عنصرا من عناصر عقيدة الإسلام منذ البعثة المحمدية وحتى اللحظة الراهنة.

إذن نحن أمام “نص” قابل دوما للتفاعل الإنساني، قابل للدخول في “جدل” مع معطيات الحياة الإنسانية، وما يطرحه “شخص ما” في مرحلة من مراحل التاريخ، هو تعبير دقيق حول ما توصل إليه في علاقته بالنص المقدس، وحول ما يمكن أن يكون النص قد كشف له / عنه وفقا للتطور العلمي/ الثقافي / الاجتماعي …الخ الذي تشهده لحظة التفسير/ التأويل التي قدمها هذا الشخص. وهوما لايمكن بأي حال من الأحوال أن نتعامل معه بوصف هذا المعنى الذي يشكل طرحا إنسانيا، ومنتجا إنسانيا، ليصبح (ما قصده الله في نصه).

إذن.. ما الذي حدث من تطورات اجتماعية وثقافية وعلمية… إلخ في مجتمعاتنا، جعل البعض يظن أن هذا المنتج الإنساني هو عين الحقيقة ومآلها الأخير، وهو أمر يمكن أن ينحو بنا منحا مغايرا للغرض منه منذ بداية التفاعل الفكري مع النص المقدس على مدار العصور، والتي كانت تنظر للمنتج الإنساني بوصفه (اجتهادا) يؤجر عليه صاحبه، ولكن لم تتعامل معه بوصفه (منتجا نهائيا)، وهو الأمر الذي يبدو جليا من تكرار المحاولات في تقديم فهم آخر، أو السعي إلى تقديم تأويلات/تفسيرات جديدة للنص المقدس.

أعود للواقعة الأساسية لأقدم ما أريد طرحه، وهو ما قدمه النص القرآني حول فريضة الصوم، وهو نص قاطع حول زمان ومكان الفريضة. وفي ظني أنه لم يقدم استثناءات طبقية، وإن كان قد قدم استثناءات. كما لم يطرح مبررات للفريضة -على حسب علمي- ولم يتساءل المؤمنون الأوائل -على حسب معرفتي- لماذا علينا أن نصوم؟ ولكن هذا لم يمنع البعض من الاجتهاد حول: ماذا يمكن أن يكون الغرض من الصوم كما أراده الله؟ وربما يكون اجتهادا مقبولا في ضوء كونه اجتهادا أو منتجا فكريا إنسانيا، يحفز المؤمنين على الإقدام على القيام بالفريضة، ولكنه يظل منتجا قابلا للتناول بوصفه منتجا شخصيا، وبالتالي مناقشته ونقده في بعض الأحيان. وربما يمكننا أن نمد الأمر على استقامته فيما يتعلق بتفسيرات وتأويلات النصوص التي أقدم على إنتاجها البعض، باعتبارها منتجا فكريا من صنع الإنسان، لا يمكن أن تتخذ أي سمة من سمات التقديس التي يتسم بها النص المقدس لمجرد أنها تتخذه موضوعا لها، ومن ثم يمكننا رفضها أو تطويرها.

هنا تأتي الإشكالية في تجليها الاجتماعي الذي تطرحه أسئلة “التجديد” وتواجهه سلطة “التراث”، عبر رغبة “البعض” في اكتساب قداسة شخصية (وهو الأمر الذي يمنحهم مكانة وامتيازات) تعتمد في صميمها على خلط فكري متعمد بين قداسة مستحقة “للنص الإلهي” وقداسة مزعومة لنص إنساني ربما يكون الحاضر بمعطياته الاجتماعية والثقافية والاقتصادية قد تخطاه. ومن ثَمَّ تنشأ الأزمة بين التراث الفكري من ناحية، والواقع بمفرداته الراهنة وأحداثه الحاضرة، التي قد تتناقض مع النصوص التي أنتجها آباؤونا وأجدادنا استجابة لأسئلة عصرهم، مستندين على “النص الإلهي”. وهو الأمر الذي يجب علينا نحن أبناء هذه العصر القيام به والتي يحاول البعض منا القيام به، الإجابة على أسئلة عصرنا مستندين على مشروعية إتاحة “النص المقدس” للتفسير والتأويل التي سمحت للسابقين علينا من تقديم تأويلاتهم وتفسيراتهم ومن ثم طرح إجاباتهم عن أسئلة عصرهم، وإبداع سبل التعامل مع “الحاضر” والتفاعل مع معطياته بما يحقق الفائدة للمجتمع والفرد على حد السواء.