رغم تغليظ قوانين الانتخابات لعقوبة جريمة الرشوة الانتخابية، إلا أنه لم يُعرف خلال تاريخ الانتخابات النيابية أن اللجان والهيئات المشرفة على الاستحقاقات الانتخابية عاقبت أي مرشح أو حزب تورط في تقديم رشاوى عينية إلى الناخبين، هذا على الأقل منذ أن وضع المُشرع عقوبات صريحة في نصوص قانون مباشرة الحقوق السياسية رقم 73 عام 1956.

القوانين المتعاقبة المنظمة للعملية الانتخابية تضمنت موادها عدد من العقوبات على مرتكبي جريمة الرشوة الانتخابية تتدرج من الغرامة إلى السجن للفاعل الأصلي -مقدم الرشوة المباشر- وللمرشح إذا ثبتت علاقته بالجريمة، ومنحت تلك القوانين الحق للهيئة الوطنية للانتخابات الحق في إلغاء نتائج لجان أو إبطال الأصوات الانتخابية الناتجة عن جرائم تم رصدها وتوثيقها في تقارير لجان المراقبة التي تُشكلها الهيئة لرصد الوقائع التي تخالف ضوابط وقواعد الدستور والقوانين ذات الصلة.

بحسب قانون مباشرة الحقوق السياسية الحالي يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة وبغرامة لا تقل عن ألف جنيه ولا تجاوز خمسة آلاف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من «أعطى آخر أو عرض أو التزم بأن يعطيه أو يعطي غيره فائدة، لكي يحمله على الإدلاء بصوته على وجه معين، أو الامتناع عنه، وكل من قبل أو طلب فائدة من ذلك القبيل لنفسه أو لغيره».

وأوكلت القوانين للهيئة الوطنية للانتخابات رفع دعوى ضد المرشح الذي يثبت ارتكابه جريمة انتخابية إلى المحكمة الإدارية العليا لشطبه من جداول المرشحين، ولو ثبت للمحكمة ارتكاب المرشح للجريمة يصدر الحكم بشطبه، وفي حال حاز عضوية البرلمان يُقدم طعن أمام محكمة النقض تمهيدا لصدور حكم نهائي وبات بإسقاط عضويته من المجلس.

في انتخابات مجلس النواب الأخيرة، تحولت «الكراتين» إلى بطل العملية الانتخابية بلا منازع، شحن مندوبوا المرشحين الفقراء والمعوزين إلى لجان الاقتراع للتصويت بعد أن اتفقوا معهم على منحهم «كراتين» مواد تموينية أو بونات تصرف من محال السلع الغذائية أو مبالغ نقدية تتراوح من 50 إلى 200 جنيه، وتم تسليم تلك الرشاوى في شوادر نُصبت قرب المقار الانتخابية وعلى مرآى ومسمع من الأجهزة المكلفة بتأمين اللجان.

بحسب تقرير المجلس القومي لحقوق الإنسان عن متابعة انتخابات مجلس النواب الأخيرة، فإن عمليات النقل الجماعي للناخبين وتوجيههم وشراء الأصوات وتوزيع مبالغ مالية و«كراتين» سلع غذائية، تمت على نطاق واسع أمام عدد من اللجان.

كما رصدت غرفة عمليات المنظمة المصرية لحقوق الإنسان عدد من المخالفات الانتخابية تراوحت بين توجيه للناخبين من قبل مندوبي المرشحين وتوزيع مبالغ نقدية وهدايا عينية وبونات و«كراتين» مواد غذائية، فضلا عن استغلال بعض الجمعيات الخيرية واستخدامها في حشد المواطنين المنتفعين منها وشراء أصواتهم الإنتخابية.

منظمات المجتمع المدني المعترف بها من قبل أجهزة الدولة والحاصلة على تصاريح مراقبة من الهيئة الوطنية للانتخابات، أقرت بجرائم «مولد» انتخابات مجلس النواب التي اُرتكبت على قارعة الطريق وفي محيط اللجان الانتخابية، ومع ذلك لم تتدخل الأجهزة المعنية للحد منها أو ضبط مرتكبيها على الأقل في محيط اللجان، كما لم يصدر عن الهيئة الوطنية -حتى كتابة هذه السطور- أي إجراء بشأن جرائم تم توثيقها بالصوت والصورة ولا يخفى على أحد مرتكبيها من نواب وأحزاب.

الحديث عن المال السياسي لم يصدر من معارضين أو مراقبين فقط، بل تعالت أصوات من داخل دوائر السلطة تحذر من توابعه، فاللواء حمدي بخيت النائب المرشح في انتخابات «النواب» عن دائرة مدينة نصر أكد في تصريحات صحفية له أن الانتخابات الحالية يطغى عليها المال السياسي داخل الأحزاب بنسبة كبيرة، «هذا له خطورته على مدى إمكانية اختيار نواب حقيقين لممارسة المهمات الموكلة لهم».

وقال بخيت أن «إحدى الظواهر اللافتة في الانتخابات الراهنة أنه على الرغم من خوض حوالي 40 أو 50 مرشحاً في كل دائرة على نظام الفردي، فإن أغلبهم ليس لديه تاريخ أو دراية سياسية تدعمه ليكون نائباً في برلمان مصر»، مرجحا أن تكون نسب المشاركة في الانتخابات منخفضة، وطالب الدولة بإعادة النظر في العملية الانتخابية.

لا يستطيع أحد أن يلوم فقراء الناخبين الذين تم شحنهم إلى مقار الاقتراع للتصويت لمرشحي «الكراتين»، فهؤلاء الفقراء سلموا بمبدأ بيع الإرادة لمن يدفع أكثر تحت ضغط العوز والحاجة، إذا كان هناك من يستحق اللوم فهم المرشحون الذين دفعوا الملايين للحصول على الحصانة، واستغلوا حاجة هؤلاء الفقراء وقايضوهم على أصواتهم.. من يستحق اللوم هو من أهان العمل البرلماني وحول الاستحقاق الانتخابي من منافسة بين ايديولوجيات ومشروعات وبرامج السياسية، إلى معركة بين مرشحين يسعى معظمهم للحاق بركب السلطة لتحقيق مصالح خاصة.

اللوم يقع على من أمات السياسة لأنها «مجرد كلام»، وهندس العملية الانتخابية من المنبع، ومرر نظام انتخابي يقضي على أي تنوع حزبي وفصل الدوائر على مقاس أصحاب الملايين واستبعد قوائم انتخابية يرى أنها تمثل خطرا على القائمة التي ألفها من أحزاب دعم السلطة، وحصر المنافسة الانتخابية بين أصحاب المال السياسي والتكتلات القبلية والجهوية، وغض الطرف عن الجرائم الانتخابية.

رغم المليارات التي تم صرفها في المرحلة الأولى من انتخابات البرلمان الأخيرة والتي من المنتظر أن تتضاعف في الجولات القادمة، لم تتجاوز نسب المشاركة وفقا للمؤشرات التي تم رصدها بأي حال من الأحوال حد الـ 30% من إجمالي الناخبين، فالمال السياسي غير قادر على حشد كتلة تصويتية غالبة تمثل كافة شرائح الجمعية العمومية للمجتمع المصري، فالشرائح المتوسطة والعليا من الناخبين يصعب حشدهم إلى مقار الانتخاب عبر «الكراتين» أو الرشاوى النقدية، ناخب تلك الشرائح المجتمعية قرر دون أن يقنعه أحد هجر المسرحية العبثية التي انفرد مخرجها باختيار كل عناصرها من مرشحين وقوائم وأحزاب، بل وجمهور.

وحتى الشريحة الفقيرة التي صارت هدفا لمرشحي الملايين، حصل بعض أبنائها على حاجته من مواد تموينية ومبالغ مالية، ثم أبطل صوته خلف الستار في اللجان، وبعضهم عاقب من ظن أنه قادر على شراء ذمته وسرقة إدارته فحصل على حاجته وصوت ضد مرشح المال والسلطة، وهو ما وضح في عدد الأصوات الباطلة التي أظهرتها مؤشرات الفرز، وحصول قائمة «نداء مصر» المنافسة لـ«القائمة الوطنية» على نسبة أصوات في عدد من الدوائر.

في بعض دوائر المرحلة الأولى تمكن مرشحون معارضون لسياسات السلطة وتوجهاتها من الوصول إلى جولة الإعادة، حدث ذلك مع النائب هيثم الحريري المرشح في دائرة مينا البصل بالإسكندرية، وهو ما يعني أن الناخب مستعد أيا كان الظرف والمناخ السياسي أن يدعم مرشح يثق في أنه سيعبر عنه ويمثله تحت قبة البرلمان.

سينفض مولد «كراتين النواب» بعد إعلان نتائج المرحلة الثانية للانتخابات بعد أسابيع، وسيعبر إلى قاعة المجلس الموقر نواب يمثلون أنفسهم ومصالحهم والجهات التي هندست لهم هذا المشهد، وغضت الطرف عن جرائمهم الانتخابية، أما المواطن الذي سيقسم هؤلاء على رعاية مصالحه رعاية كاملة، فعليه أن ينتظر مولد جديد، أو ميلاد جديد لحياة سياسية سليمة تحترم فيها إرادته وصوته وكرامته.